مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَ فِرۡعَوۡنُ وَمَا رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (23)

قوله تعالى : { قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين } .

اعلم أن فرعون لم يقل لموسى { وما رب العالمين } ، إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين ، يبين ذلك ما تقدم من قوله : { فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين } فلابد عند دخولهما عليه أنهما قالا ذلك ، فعند ذلك قال فرعون : { وما رب العالمين } ثم ههنا بحثان :

الأول : أن فرعون يحتمل أن يقال إنه كان عارفا بالله ، ولكنه قال ما قال طلبا للملك والرياسة ، وقد ذكر الله تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفا بالله ، وهو قوله : { قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض } فإذا قرئ بفتح التاء من { علمت } فالمراد أن فرعون علم ذلك ، وذلك يدل على أنه كان عارفا بالله ، لكنه كان يستأكل قومه بما يظهره من إلهيته ، والقراءة الأخرى برفع التاء من { علمت } فهي تقتضي أن موسى عليه السلام هو الذي عرف ذلك ، وأيضا فإن فرعون إن لم يكن عاقلا لم يجز من الله تعالى بعثة الرسول إليه ، وإن كان عاقلا فهو يعلم بالضرورة أنه ما كان موجودا ولا حيا ولا عاقلا ثم صار كذلك ، وبالضرورة يعلم أن كل ما كان كذلك فلابد له من مؤثر ، فلابد وأن يتولد له من هذين العلمين علم ثالث بافتقاره في تركيبه وفي حياته وعقله إلى مؤثر موجد ، ويحتمل أن يقال إنه كان على مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود في ذواتها ومتحركة لذواتها ، وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث في هذا العالم ، أو يقال إنه كان من الفلاسفة القائلين بالعلة الموجبة لا بالفاعل المختار ، ثم اعتقد أنه بمنزلة الإله لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك ذماتهم وزمام أمرهم ، ويحتمل أن يقال إنه كان على مذهب الحلولية ، القائلين بأن ذات الإله يتدرع بجسد إنسان معين ، حتى يكون الإله سبحانه لذلك الجسد بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده ، وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلها .