{ فوسطن به } فتوسطن بذلك الوقت أو بالعدو أو بالنقع ، أي ملتبسات به ، { جمعا } من جموع الأعداء . روي أنه صلى الله عليه وسلم بعث خيلا فمضت أشهر لم يأته منهم خبر ، فنزلت ، ويحتمل أن يكون القسم بالنفوس العادية أثر كما لهن الموريات بأفكارهن أنوار المعارف ، والمغيرات على الهوى والعادات ، إذا ظهر لهن مثل أنوار القدس فأثرن به شوقا ، فوسطن به جمعا من مجموع العليين .
ومعنى : « وسَطْن » : كُنَّ وسط الجمع ، يقال : وسط القومَ ، إذا كان بينهم .
و { جمعاً } مفعول : « وسَطْن » وهو اسم لجماعة الناس ، أي صِرْن في وسط القوم المغزوون . فأما بالنسبة إلى الإِبل فيتعين أن يكون قوله : { جمعاً } بمعنى المكان المسمى { جمعاً } وهو المزدلفة فيكون إشارة إلى حلول الإِبل في مزدلفة قبل أن تغير صبحاً منها إلى عرفة إذ ليس ثمة جماعة مستقرة في مكان تصل إليه هذه الرواحل .
ومن بديع النظم وإعجازه إيثار كلمات « العاديات وضبحاً والموريات وقدحا ، والمغيرات وصبحاً ، ووسطن وجمعاً » دون غيرها لأنها برشقاتها تتحمل أن يكون المقسم به خيل الغزو ورواحل الحج .
وعطفت هذه الأوصاف الثلاثة الأولى بالفاء لأن أسلوب العرب في عطف الصفات وعطف الأمكنة أن يكون بالفاء وهي للتعقيب ، والأكثر أن تكون لتعقيب الحصول كما في هذه الآية ، وكما في قول ابن زيَّابة :
يا لهفَ زيَّابةَ للحارِث الصَّـ *** ـابح فالغانم فالآيب{[461]}
وقد يكون لمجرد تعقيب الذِّكر كما في سورة الصافات .
والفاء العاطفة لقوله : { فأثرن به نقعاً } عاطفة على وصف « المغيرات » . والمعطوف بها من آثار وصف المغيرات . وليست عاطفة على صفة مستقلة مثل الصفات الثلاث التي قبلها لأن إثارة النقع وتوسط الجمع من آثار الإِغارة صُبحاً ، وليسا مُقْسماً بهما أصالةً وإنما القَسم بالأوصاف الثلاثة الأولى .
فلذلك غُير الأسلوب في قوله : { فأثرن به نقعاً فوسطن به جمعاً } فجيء بهما فعلين ماضيين ولم يأتيا على نسق الأوصاف قبلهما بصيغة اسم الفاعل للإِشارة إلى أن الكلام انتقل من القَسَم إلى الحكاية عن حصول ما تَرتَّبَ على تلك الأوصاف الثلاثة ما قُصد منها من الظفَر بالمطلوب الذي لأجله كان العَدو والإِيراء والإِغارة عقبه وهي الحلُول بدار القوم الذين غزَوهم إذَا كان المراد ب { العاديات } الخيل ، أو بلوغُ تمام الحج بالدفع عن عرفة إذا كان المراد ب { العاديات } رواحل الحجيج ، فإن إثارة النقع يشعرون بها عند الوصول حين تقف الخيل والإِبل دفعة ، فتثير أرجلها نقعاً شديداً فيما بينهما ، وحينئذ تتوسطن الجمع من الناس . وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المراد بقوله : { جمعاً } اسم المزدلفة حيث المشعر الحرام .
ومناسبة القسم بهذه الموصوفات دون غيرها إن أريد رواحل الحجيج وهو الوجه الذي فسر به علي بن أبي طالب هو أن يصدّق المشركون بوقوع المقسم عليه لأن القسم بشعائر الحج لا يكون إلا باراً حيث هم لا يصدقون بأن القرآن كلام الله ويزعمونه قول النبي صلى الله عليه وسلم .
وإن أريد ب { العاديات } وما عطف عليها خيل الغزاة ، فالقسم بها لأجل التهويل والترويع لإِشعار المشركين بأنَّ غارة تترقبهم وهي غزوة بدر ، مع تسكين نفس النبي صلى الله عليه وسلم من التردد في مصير السرية التي بعث بها مع المُنذر بن عَمْرو إذا صحّ خبرها فيكون القسم بخصوص هذه الخيل إدماجاً للاطمئنان .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره : فوسَطْن بركبانهنّ جمع القوم ... عن قتادة { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعا }: فوسطن بالقوم جمعَ العدوّ ... وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل... وقال آخرون : بل عُنِي بذلك فَوَسَطْنَ بِهِ مزدلفة .
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ فوسطن به } أي بذلك النقع أو الفعل والوقت والموضع . { جمعاً } أي وهو المقصود بالإغارة ، فدخلت في وسط ذلك الجمع لشجاعتها وقوتها وطواعيتها وشجاعة فرسانها . ...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
فإنَّ توسطَ الجمعِ مترتبٌ عَلى الإثارةِ، المترتبةِ على الإغارةِ، المترتبةِ على الإيراءِ، المترتبِ على العدوِ . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهي تتوسط صفوف الأعداء على غرة فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب ! إنها خطوات المعركة على ما يألفه المخاطبون بالقرآن أول مرة . . .
والقسم بالخيل في هذا الإطار فيه إيحاء قوي بحب هذه الحركة والنشاط لها ، بعد الشعور بقيمتها في ميزان الله والتفاته سبحانه إليها ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وإن أريد ب { العاديات } وما عطف عليها خيل الغزاة ، فالقسم بها لأجل التهويل والترويع لإِشعار المشركين بأنَّ غارة تترقبهم وهي غزوة بدر ، مع تسكين نفس النبي صلى الله عليه وسلم من التردد في مصير السرية التي بعث بها مع المُنذر بن عَمْرو إذا صحّ خبرها فيكون القسم بخصوص هذه الخيل إدماجاً للاطمئنان ...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
وقد وجدنا قرائن عديدة في الآية تمنع من إرادة المزدلفة بمعنى جمع ، وهي كالآتي : أولا : وصف الخيل أو الإبل على حد سواء بالعاديات ، حتى حد الضبح ، ووري النار بالحوافر وبالحصا ؛ لأنها أوصاف تدل على الجري السريع . ومعلوم أن الإفاضة من عرفات ثم من المزدلفة لا تحتمل هذا العدو ، وليس هو فيها بمحمود ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينادي " السكينة السكينة " ، فلو وجد لما كان موضع تعظيم وتفخيم . ثانياً : أن المشهور أن إثارة النقع من لوازم الحرب ... ثالثاً : قوله تعالى : { فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً 3 فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً 4 فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } ، جاء مرتباً بالفاء ، وهي تدل على الترتيب والتعقيب . وقد تقدم المغيرات صبحاً ، وبعدها فوسطن به جمعاً . وجمع هي المزدلفة ، وإنما يؤتى إليها ليلاً ، فكيف يغرن صبحاً ، ويتوطن المزدلفة ليلاً ؟ وعلى ما حكاه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، أنهم يغيرون صبحاً من المزدلفة إلى منى ، تكون تلك الإغارة صبحاً بعد التوسط بجمع ، والسياق يؤخرها عن الإغارة ولم يقدمها عليها . فتبين بذلك أن إرادة المزدلفة غير متأتية في هذا السياق . ويبقى القول الآخر وهو الأصح ، واللَّه تعالى أعلم . ولو رجعنا إلى نظرية ترابط السور لكان فيها ترجيح لهذا المعنى ، وهو أنه في السورة السابقة ذكرت الزلزلة وصدور الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم . وهنا حث على أفضل الأعمال التي تورث الحياة الأبدية والسعادة الدائمة في صورة مماثلة ، وهي عدوهم أشتاتاً في سبيل الله لتحصيل ذاك العمل الذي يحبون رؤيته في ذلك الوقت ، وهو نصرة دين الله ، أو الشهادة في سبيل اللَّه ، والعلم عند الله تعالى . ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
نستخلص ممّا سبق أن القَسَم في الآيات بهذه الخيول التي هي أولا تسرع إلى ميدان الجهاد بنَفَس شديد ، ثمّ تزيد سرعتها حتى يتطاير الشرر من تحت حوافرها فيشقّ عتمة الليل . . . وبعدها تقترب من منطقة العدو ، فتباغته ، وعند انبلاج عتمة الليل تشنّ هجوماً شديداً يثير الغبار في كل جانب ، ثمّ تتوغل إلى قلب العدّو وتشتت صفوفه . القسم إذن بهذه الخيول المقتدرة ! . . . بفرسانها الشجعان ! . . . بأنفاس مركب المجاهدين ! . . . بشرارات النيران المتطايرة من تحت حوافرها ! . . . بذلك الهجوم المباغت ! . . . بذرات الغبار المنتشرة في الفضاء ! . . . بدخولها قلب صفوف الأعداء وتحقيق النصر الحاسم عليهم ! هذه التعابير وإن لم ترد كلها صراحة في الآيات فهي مجموعة كلها في الدلالات الضمنية للكلام . من هنا يتّضح أن الجهاد له منزلة عظيمة حتى أن أنفاس خيل المجاهدين استحقت أن يقسم بها . . . وهكذا الشرر المتطاير من حوافر هذه الخيول . . . والغبار الذي تثيره في الجو . . . نعم حتى غبار ساحة الجهاد له قيمة وعظمة . ...