اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَوَسَطۡنَ بِهِۦ جَمۡعًا} (5)

قوله : { فَوَسَطْنَ } . العامة على تخفيف السين .

وفي الهاء في «به » أوجه :

أحدها : أنها للصبح .

والثاني : أنها للنَّقع ، أي : وسطن النقع الجمع ، أي : جعلن الغبار وسط الجمع . والباء للتعدية ، وعلى الأول هي ظرفية .

الثالث : الباء للحالية ، أي فتوسطن ملتبساً بالنقع ، أي : بالغبار ، جمعاً من جموع الأعداء .

وقيل : الباء مزيدة ، نقله أبو{[60705]} البقاء .

و«جَمْعاً » على هذه الأوجه : مفعول به .

الرابع : أن المراد ب «جمع » «المزدلفة » وهي تسمى جمعاً ، والمراد : أن الإبل تتوسط جمعاً الذي هو «المزدلفة » ، كما مرَّ عن أمير المؤمنين ، فالمراد بالجمع مكان ، لا جماعة الناس ، كقول صفية : [ الوافر ]

5278- *** فَلا والعَاديَاتِ غَداةَ جَمْعٍ***{[60706]}

وقول بشر بن أبي خازم : [ الكامل ]

5279- فَوَسَطْنَ جَمعهُمُ وأفْلتَ حَاجبٌ *** تَحْتَ العَجاجَةِ في الغُبَارِ الأقْتَمِ{[60707]}

و«جَمْعاً » على هذا منصوب على الظرف ، وعلى هذا فيكون الضمير في «به » إما للوقت ، أي في وقت الصبح ، وإما للنقع ، وتكون الباء للحال ، أي : ملتبسات بالنقع ، إلا أنه يشكل نصب الظرف المختص إذ كان حقه أن يتعدى إليه ب «في » .

وقال أبو البقاء{[60708]} : إن «جمعاً » حال ، وسبقه إليه مكي . وفيه بعد ؛ إذ المعنى على أن الخيل توسطت جمع الناس .

وقرأ علي ، وزيد{[60709]} بن علي ، وقتادة ، وابن أبي ليلى : بتشديد السين ، وهما لغتان بمعنى واحد .

وقال الزمخشري{[60710]} : «التشديد للتعدية ، والباء مزيدة للتأكيد ، كقوله تعالى : { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } [ البقرة : 25 ] وهي مبالغة في وسطن » انتهى .

وقوله : «وهي مبالغة » تناقض قوله أولاً للتعدية ؛ لأن التشديد للمبالغة لا يكسب الفعل مفعولاً آخر ، تقول : «ذبحت الغنم مخففاً » ، ثم تبالغ فتقول : «ذبَّحتها » - مثقلاً - وهذا على رأيه قد جعله متعدياً بنفسه ، بدليل جعله الباء مزيدة ، فلا تكون للمبالغة .

فصل في معنى الآية

المعنى : فوسطن بركبانهن العدو ، أي : الجمع الذين أغاروا عليهم .

وقال ابن مسعود : «فوسَطْنَ بِهِ جَمْعاً » يعني «مزدلفة » ، وسميت جمعاً لاجتماع الناس فيها{[60711]} .

ويقال : وسطت القوم أسطهم وسطاً وسطة ، أي : صرت وسطهم ، وقد أكثر الناس في وصف الخيل ، وهذا الذي ذكره الله أحسن .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الخَيْلُ معْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ »{[60712]} وقال أيضاً : «ظهرها حرز وبطنها كنز » .

ويروى أن بنت امرئ القيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، هل أنزل عليك ربُّك كلاماً في صفةِ الخَيْل كلاماً أفصح مما قاله جدِّي ؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - : «وما قال جدّكِ » . ؟ قالت : [ الطويل ]

5280-مِكَرٍّ مُقْبلٍ مُدبِرٍ معاً *** كجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَل{[60713]}

فقال -عليه الصلاة والسلام - : { والعاديات ضَبْحاً } الآيات ، فأسلمت .


[60705]:ينظر الإملاء 2/192.
[60706]:تقدم.
[60707]:ينظر المفضليات 682، والجمهرة (402)، والبحر 8/51، والدر المصون 6/560.
[60708]:الإملاء 2/292.
[60709]:ينظر: المحرر الوجيز 5/514، والدر المصون 6/560.
[60710]:الكشاف 4/787.
[60711]:ينظر تفسير الماوردي (6/325).
[60712]:تقدم تخريجه.
[60713]:ينظر ديوان امرىء القيس ص 19، وإصلاح المنطق ص 25، وجمهرة اللغة ص 126، وخزانة الأدب 2/397، 3/242، 343، والدرر 3/115، وشرح أبيات سيبويه 2/339، وشرح التصريح 2/54، وشرح شواهد المغني 1/451، والشعر والشعراء 1/116، والكتاب 4/228، والمقاصد النحوية 1/449، ورصف المباني ص 328، وشرح الأشموني 2/323، وشرح شذور الذهب ص 140، ومغني اللبيب 1/154، والمقرب 1/215، وهمع الهوامع 1/210.