{ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا }
أي : أي شيء يمنعنا من التوكل على الله والحال أننا على الحق والهدى ، ومن كان على الحق والهدى فإن هداه يوجب له تمام التوكل ، وكذلك ما يعلم من أن الله متكفل بمعونة المهتدي وكفايته ، يدعو إلى ذلك ، بخلاف من لم يكن على الحق والهدى ، فإنه ليس ضامنا على الله ، فإن حاله مناقضة لحال المتوكل .
وفي هذا كالإشارة من الرسل عليهم الصلاة والسلام لقومهم بآية عظيمة ، وهو أن قومهم -في الغالب- لهم القهر والغلبة عليهم ، فتحدتهم رسلهم بأنهم متوكلون على الله ، في دفع كيدكم ومكركم ، وجازمون بكفايته إياهم ، وقد كفاهم الله شرهم مع حرصهم على إتلافهم وإطفاء ما معهم من الحق ، فيكون هذا كقول نوح لقومه : { يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون } الآيات .
وقول هود عليه السلام قال : { إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون }
{ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا } أي : ولنستمرن على دعوتكم ووعظكم وتذكيركم ولا نبالي بما يأتينا منكم من الأذى فإنا سنوطن أنفسنا على ما ينالنا منكم من الأذى ، احتسابا للأجر ونصحا لكم لعل الله أن يهديكم مع كثرة التذكير .
{ وَعَلَى اللَّهِ } وحده لا على غيره { فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } فإن التوكل عليه مفتاح لكل خير .
واعلم أن الرسل عليهم الصلاة والسلام توكلهم في أعلى المطالب وأشرف المراتب وهو التوكل على الله في إقامة دينه ونصره ، وهداية عبيده ، وإزالة الضلال عنهم ، وهذا أكمل ما يكون من التوكل .
{ وَمَا لَنَآ أَلاّ نَتَوَكّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنّ عَلَىَ مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُتَوَكّلُونَ } .
( شا يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل الرسل لأممها : وَما لَنا أنْ لا نَتَوَكّلَ على اللّهِ فنثق به وبكفايته ودفاعه إياكم عنا ، وَقَدْ هَدَانا سُبُلَنا يقول : وقد بصرنا طريق النجاة من عذابه ، فبين لنا . وَلَنَصْبِرَنّ على ما آذَيْتُمُونا في الله وعلى ما نلقي منكم من المكروه فيه بسبب دعائنا إليكم إلى ما ندعوكم إليه من البراءة من الأوثان والأصنام وإخلاص العبادة له . وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ المُتَوَكّلُونَ يقول : وعلى الله فليتوكل من كان به واثقا من خلقه ، فأما من كان به كافرا فإن وليه الشيطان .
وقوله : { ما لنا ألا نتوكل } الآية ، وقفتهم الرسل على جهة التوبيخ على تعليل في أن لا يتوكلوا على الله ، وهو قد أنعم عليهم وهداهم طريق النجاة وفضلهم على خلقه ، ثم أقسموا أن يقع منهم الصبر على الإذاية في ذات الله تعالى . و { ما } في قوله : { ما آذيتمونا } مصدرية ، وهي حرف عند سيبويه بانفرادها ، إلا أنها اسم مع ما اتصل بها من المصدر ، وقال بعض النحويين : «ما » المصدرية بانفرادها اسم . ويحتمل أن تكون { ما } - في هذا الموضع - بمعنى الذي ، فيكون في { آذيتمونا } ضمير عائد ، تقديره آذيتموناه ، ولا يجوز أن تضمر به سبب إضمار حرف الجر ، هذا مذهب سيبويه ، والأخفش يجوز ذلك .
جملة { وما لنا ألا نتوكل على الله } استدلال على صدق رأيهم في تفويض أمرهم إلى الله ، لأنهم رأوا بوارق عنايته بهم إذ هداهم إلى طرائق النجاة والخير ، ومبادىء الأمور تدل على غاياتها .
وأضافوا السبل إلى ضميرهم للاختصار لأن أمور دينهم صارت معروفة لدى الجميع فجمعها قولهم : { سبلنا } .
{ وما لنا ألا نتوكل } استفهام إنكاري لانتفاء توكلهم على الله ، أتوا به في صورة الإنكار بناءً على ما هو معروف من استحماق الكفار إيّاهم في توكلهم على الله ، فجاءوا بإنكار نفي التوكل على الله ، ومعنى { وما لنا ألا نتوكل } ما ثبت لنا من عدم التوكل ، فاللام للاستحقاق .
وزادوا قومهم تأييساً من التأثر بالأذى فأقسموا على أن صبرهم على أذى قومهم سيستمر ، فصيغة الاستقبال المستفادة من المضارع المؤكد بنون التوكيد في { ولنصبرن } دلت على أذى مستقبل .
ودلّت صيغة المضي المنتزع منها المصدر في قوله : { ما آذيتمونا } على أذى مضى . فحصل من ذلك معنى نصبر على أذى متوقع كما صبرنا على أذى مضى . وهذا إيجاز بديع .
وجملة { وعلى الله فليتوكل المتوكلون } يحتمل أن تكون من بقية كلام الرسل فتكون تذييلاً وتأكيداً لجملة { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } فكانت تذييلاً لما فيها من العموم الزائد في قوله : { المتوكلون } على عموم { فليتوكل المؤمنون } . وكانت تأكيداً لأن المؤمنين من جملة المتوكلين . والمعنى : من كان متوكلاً في أمره على غيره فليتوكل على الله .
ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى ، فهي تذييل للقصة وتنويه بشأن المتوكلين على الله ، أي لا ينبني التوكل إلا عليه .