{ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ } فلا يغررك ما متعوا به في الحياة الدنيا ، فإن الله ، وإن أمهلهم فإنه لا يهملهم { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ }
ولهذا قال هنا : { وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : بئس المآل ، مآل الكافرين ، مآل الشر والحسرة والعقوبة الأبدية .
وقوله { لا تَحْسَبَنَّ } أي : [ لا تظن ]{[21343]} يا محمد { الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : خالفوك وكذبوك ، { مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ } أي : لا يعجزون الله ، بل الله قادر عليهم ، وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب ؛ ولهذا قال : { وَمَأْوَاهُمُ } أي : في الدار الآخرة { النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : بئس المآل مآلُ الكافرين ، وبئس القرار وبئس المهاد .
وقوله : لا تَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا مُعْجزِينَ فِي الأرْضِ يقول تعالى ذكره : لا تحسبنّ يا محمد الذين كفروا بالله معجزيه في الأرض إذا أراد إهلاكهم . ومأْوَاهُم بعد هلاكهم النّارُ وَلَبِئْسَ المَصِيرُ الذي يصيرون إليه ذلك المأوى . وقد كان بعضهم يقول : «لا يحسبنّ الذين كفروا » بالياء . وهو مذهب ضعيف عند أهل العربية وذلك أن «تحسب » محتاج إلى منصوبين . وإذا قرىء «يَحْسَبنّ » لم يكن واقعا إلاّ على منصوب واحد ، غير أني أحسب أن قائله بالياء ظنّ أنه قد عمل في «معجزين » ، وأن منصوبه الثاني في «الأرض » ، وذلك لا معنى له إن كان ذلك قصد .
{ لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض } لا تحسبن يا محمد الكفار معجزين لله إن إدراكهم وإهلاكهم ، و { في الأرض } صلة { معجزين } . وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء على أن الضمير فيه لمحمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى كما هو في القراءة بالتاء أو { الذين كفروا } فاعل والمعنى ولا يحسبن الكفار في الأرض أحدا معجزا لله ، فيكون { معجزين في الأرض } مفعوليه أو لا يحسبونهم { معجزين } فحذف المفعول الأول لأن الفاعل والمفعولين الشيء واحد فاكتفى بذكر اثنين عن الثالث { ومأواهم النار } عطف عليه من حيث المعنى كأنه قيل : الذين كفروا ليسوا بمعجزين ومأواهم النار ، لأن المقصود من النهي عن الحسبان تحقيق نفي الإعجاز . { ولبئس المصير } المأوى الذي يصيرون إليه .
وقرأ جمهور السبعة «لا تحسبن » بالتاء على المخاطبة للنبي عليه السلام ، وقرأها الحسن بن أبي الحسن بفتح السين ، وقرأ حمزة وابن عامر «لا يحسبن » بالياء قال أبو علي ، وذلك يحتمل وجهين أحدهما أن يكون التقدير لا يحسبن محمد والآخر أن يسند الفعل إلى { الذين كفروا } والمفعول أنفسهم ، وأعجز الرجل ، إذا ذهب في الأرض فلم يقدر عليه ثم أخبر بأن «مأواهم النار » وأنها بئس الخاتمة والمصير .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"لا تَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا مُعْجزِينَ فِي الأرْضِ" يقول تعالى ذكره: لا تحسبنّ يا محمد الذين كفروا بالله معجزيه في الأرض إذا أراد إهلاكهم. "ومأْوَاهُم "بعد هلاكهم "النّارُ وَلَبِئْسَ المَصِيرُ" الذي يصيرون إليه ذلك المأوى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض" قال بعضهم: "معجزين" أي فائتين في الأرض هربا من عذاب فلا يدركهم. وقال بعضهم: سابقين في الأرض هربا أيضا حتى لا يجزوا بكفرهم، وهو واحد.
وقوله تعالى "لا تحسبن" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم ليسوا بفائتين ولا سابقين عنه، لكنه ذكر له هذا كما ذكر في قوله: "ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون" (إبراهيم: 42) هُمَا واحد.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الكفار من الكثرة والقوة بمكان، كان الحال جديراً بتأكيد معنى التمكين، جواباً لسؤال من كأنه قال: وهل ذلك ممكن فقال: {لا تحسبن} أي أيها المخاطب {الذين كفروا} أي وإن زادت كثرتهم على العد، وتجاوزت عظمتهم الحد، فإن ذلك الحسبان ضعف عقل، لأن الملك لا يعجزه من تحت قهره، ويجوز أن يكون خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم لزيادة تحقيقه، لأنه على قدر عظمة المخاطب يكون إنجاز الوعد {معجزين} لأهل ودنا {في الأرض} فإنهم مأخوذون لا محالة {ومأواهم} أي مسكنهم ومنزلهم بعد الأخذ {النار}. ولما كانت سكنى الشيء لا تكون إلا بعد الصيرورة إليه قال: {ولبئس المصير} مصيرها! فكيف إذا كان على وجه السكنى.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي لتحقيق ما اقتضاه قوله: {وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً}، فقد كان المشركون يومئذٍ لم يزالوا في قوة وكثرة، وكان المسلمون لم يزالوا يخافون بأسهم فربما كان الوعد بالأمن من بأسهم متلقىً بالتعجب والاستبطاء الشبيه بالتردد فجاء قوله: {لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض} تطميناً وتسلية.
والخطاب لمن قد يخامره التعجب والاستبطاء دون تعيين.
والمقصود من النهي عن هذا الحسبان التنبيه على تحقيق الخبر...
والمعجز: الذي يُعجز غيره، أي يجعله عاجزاً عن غلبه. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إن ما توعدون لآتتٍ وما أنتم بمعجزين} في سورة الأنعام (134). وكذلك المعاجز بمعنى المحاول عجز ضده تقدم في قوله تعالى: {والذين سعوا في آياتنا معاجزين} في سورة الحج (51).
والأرض: هي أرض الدنيا، أي هم غير غالبين في الدنيا كما حسبوا أنه ليس ثمة عالم آخر. وفي الأرض} متعلق ب {بمعجزين} على قراءة الجمهور وعلى بعض التوجيهات من قراءة حمزة وابن عامر، أو هو مفعول ثان على بعض التوجيهات كما علمت.
وقوله: {ومأواهم النار} أي هم في الآخرة معلوم أن مأواهم النار فقد خسروا الدارين.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
التعبير بالموصول وهو {الذين كفروا} يشير إلى السبب في نصر المؤمنين وخذلان الكافرين، وقوله تعالى: {مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ}، أي أنهم غالبون في الأرض لا يعجزهم شيء، فإن الكافرين يحملون في نفوسهم عوامل عجزهم، لأنهم تسيطر عليهم الأهواء وهم بعيدون عن الحق، فمن غالبهم يغلبهم بعون الله تعالى وتأييده، والله يؤيد من يشاء بنصر من عنده.
فإياك أن تظن أن الكافرين مهما علت مراتبهم ومهما استشرى طغيانهم يفلتون من عقاب الله، فلن يثبتوا له سبحانه العجز عنهم أبدا، ولن يعجزوه، إنما يملي لهم سبحانه ويمهلهم حتى إذا أخذهم، أخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهو سبحانه مدركهم لا محالة.