الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعۡجِزِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (57)

قوله : { لاَ تَحْسَبَنَّ } : قرأ العامَّة " لا تَحْسَبنَّ " بتاءِ الخطابِ . والفاعلُ ضميرُ المخاطبِ أي : لا تَحْسَبَنَّ أيها المخاطبُ . ويمتنعُ أو يَبْعُدُ جَعْلُه للرسولِ عليه السلام ؛ لأنَِّثْلَ هذا الحُسْبانِ لا يُتَصوَّر منه حتى يُنْهى عنه . وقرأ حمزةُ وابن عامرٍ " لا يَحْسَبَنَّ " بياء الغَيْبة وهي قراءةُ حسنةٌ واضحة . فإنَّ الفاعلَ فيها مضمرٌ يعودُ على ما دَلَّ السِّياقُ عليه أي : لا يَحْسَبَنَّ حاسِبٌ أو أحدٌ وإمَّا على الرسولِ لتقدُّم ذِكْرِه . ولكنه ضعيفٌ للمعنى المتقدِّم خلافاً لِمَنْ لَحَّن قارىءَ هذه القراءةِ كأبي حاتم وأبي جعفر والفراء . قال النحاس : " ما عَلِمْتُ أحداً مِنْ أهلِ العربية بَصْرياً ولا كوفياً إلاَّ وهو يُلَحِّنُ قراءةَ حمزةَ ، فمنهم مَنْ يقولُ : هي لحنٌ لأنه لم يأتِ إلاَّ بمفعولٍ واحدٍ ل " يَحْسَبَنَّ " .

وقال الفراء : " هو ضعيفٌ " وأجازه على حَذْفِ المفعولِ الثاني . التقديرُ : " لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنفسَهم مُعْجِزين " قلت : وسببُ تَلْحينِهم هذه القراءةَ أنهم اعتقدوا أنَّ " الذين " فاعلٌ ، ولم يكُنْ في اللفظِ إلاَّ مفعولٌ واحدٌ وهو " معجزين " ، فلذلك قالوا ما قالوا . والجوابُ عن ذلك مِنْ وجوهٍ أحدُها : أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يعودُ على ما تقدَّم ، أو على ما يُفْهَمُ من السياق ، كما سَبَقَ تحريرُه . الثاني : أنَّ المفعولَ الأولَ محذوفٌ تقديرُه : لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنفسَهم مُعْجزين . إلاَّ أنَّ حَذْفَ أحدِ المفعولَيْنِ ضعيفٌ عند البصريين . ومنه قولُ عنترةَ :

ولَقَدْ نَزَلْتِ فلا تَظُنِّي غيرَه *** مني بمَنزِلَة المُحَبِّ المُكْرَمِ

أي : لا تظني غيرَه واقعاً . ولمَّا نحا الزمخشريُّ إلى هذا الوجه قال : " وأن يكونَ الأصلُ : لا يَحْسَبَنَّهم الذين كفروا مُعْجِزين ، ثم حُذِف الضميرُ الذي هو المفعولُ الأول . وكأنَّ الذي سَوَّغ ذلك أنَّ الفاعلَ والمفعولَيْن لَمَّا كانَتْ لشيءٍ واحدٍ اقْتَنَعَ بذكرِ اثنين عن ذِكْر الثالث " فقَدَّرَ المفعولَ الأول ضميراً متصلاً . قال الشيخ : " وقد رَدَدْنا هذا التخريجَ في أواخرِ آلِ عمران في قولِه : { لاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ } في قراءةِ مَنْ قرأه بالغَيْبة ، وجَعَل الفاعلَ " الذين يَفْرحون " . وملخَّصُه : أن هذا ليس من الضمائر التي يُفَسِّرها ما بعدَها فلا يتقدَّر " لا يَحْسَبَنَّهم " إذ لا يجوزُ : " ظَنَّه زيدٌ قائماً " على رَفْعِ " زيدٌ " ب " ظنَّه " قلت : وقد تقدَّم في الموضعِ المذكورِ رَدُّ هذا الردِّ فعليك بالالتفاتِ إليه .

الثالث : أنَّ المفعولَيْنِ هما قولُه : { مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ } قاله الكوفيون . ولمَّا نحا إليه الزمخشريُّ قال : " والمعنى : لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أحداً يُعْجِزُ اللهَ في الأرض حتى يَطْمَعوا هم في مثلِ ذلك . وهذا معنىً قويٌّ جيد " .

قلت : قيل : هو خطأٌ ؛ لأنَّ الظاهرَ تعلُّقُ في " الأرض " ب " مُعْجِزين " فجعله مفعولاً ثانياً كالتهيئةِ للعملِ والقطعِ عنه ، وهو نظيرُ : " ظَنَنْتُ قائماً في الدار " .

قوله : { وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ . أحدُها : أنَّ هذه الجملةَ عطفٌ على جملةِ النهيِ قبلَها مِنْ غيرِ تأويلٍ ولا إضمارٍ ، وهو مذهبُ سيبويهِ أعني عَطْفَ الجملِ بعضِها على بعض ، وإن اختلفَتْ أنواعُها خبراً وطَلَباً وإنشاءً . وقد تقدَّم تحقيقُه في أولِ هذا الموضوعِ والدليلُ عليه . الثاني : أنَّها معطوفةٌ عليها ، ولكن بتأويلِ جملةِ النهي بجملةٍ خبريةٍ . والتقدير : الذين كفروا لاَ يُفوتون اللهَ ومَأْواهم النار . قاله الزمخشري . كأنه يرى تناسُبَ الجملِ شرطاً في العطفِ . هذا ظاهرُ حالِه . الثالث : أنها معطوفةٌ على جملةٍ مقدرةٍ .

قال الجرجاني : " لا يُحتمل أَنْ يكونَ " ومَأْواهم " متصلاً بقولهِ : " لا تَحْسَبَنَّ ذاك " أي : وهذا إيجابٌ فهو إذن معطوفٌ بالواو على مضمرٍ قبلَه تقديرُه : لا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا مُعْجِزين في الأرضِ بل هم مقهورون ، ومَأْواهم النار " .