التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعۡجِزِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (57)

{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 55 ) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 56 ) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 57 ) } .

تعليق على الآية :

{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض…الخ }

والآيتين التاليتين لها وما فيها من دلالة على قيام الدولة

الإسلامية ومن تلقينات وحقائق اجتماعية خالدة ومن

معجزة تحققت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده .

عبارة الآيات واضحة . وفيها :

1 - إيذان بوعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات باستخلافهم في الأرض وجعلهم أصحاب السلطان والبسطة فيها كما استخلف أمثالهم من قبلهم . وبتوطيد دينهم الذي ارتضاه لهم والذي هو دين الله القويم وتمكينه ونشره وبإبدالهم بالأمن والطمأنينة بعد الخوف ، على شرط أن يلتزموا الإخلاص في إيمانهم وأعمالهم فيعبدون الله وحده لا يشركون معه أحدا ، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويطيعوا الرسول حيث يستحقون بذلك رحمة الله وفضله .

2 وإنذار الكافرين فالذين يكفرون بعد ذلك هم الفاسقون المتمردون على الله . ولا يظنن أحد أنهم معجزون الله في الدنيا ، فهو محيط بهم قادر على البطش بهم . ومأواهم في الآخرة عذاب النار وبئس هي من مصير .

وقد روى المفسرون أن بعض المسلمين- وقد أمروا بالهجرة والجهاد وكانوا لا يفارقون سلاحهم قالوا : أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ؟ فقال لهم رسول الله لن تصبروا إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيه حديدة ، ثم أنزل الله الآية الأولى . {[1544]}

والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بالآيات السابقة وبخاصة بالآيتين السابقتين مباشرة لها سياقا وموضوعا اتصالا وثيقا وأنها جاءت معقبة عليهما . فقد نددتا بمرضى القلوب ، ودعتا إلى الإخلاص في السمع والطاعة والإيمان ، وقررتا أن هذا هو لخير الناس ومصلحتهم فجاءت هذه الآيات تعد المخلصين بما تعدهم وتؤكد واجب الطاعة للرسول وما في ذلك من ضمان رحمة الله .

وهذا لا يمنع أن يكون بعض المسلمين تساءلوا في موقف ما مثل ما روته الرواية فاقتضت حكمة التنزيل تضمين الآيات جوابا لهم فيه البشرى المشروطة بالشروط التي احتوتها .

وإذا كان الخطاب في الآيات هو لسامعي القرآن مباشرة من المؤمنين الأولين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما تفيده كلمة { منكم } أيضا ، فضلا عن ظروف نزولها فإن مداها عام لجميع المؤمنين الذي يعلمون الصالحات كما هو المتبادر . فكل خطاب مثل هذا الخطاب في القرآن هو عام شامل لكل المسلمين في كل ظرف على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة .

ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن الآية الأولى وهي تعد المؤمنين الصالحين من لدن عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالاستخلاف في الأرض تنطوي على تقرير أن ذلك يكون في نطاق دولة ذات سلطان وبمعنى آخر قد انطوى فيها فكرة قيام الدولة في الإسلام مع التنبيه على أن هذا كان أمرا متحققا برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومما انطوى في الآيات الكثيرة المكية والمدنية التي أمرت بإطاعة الله والرسول وأولى الأمر من المسلمين ورد الأمور إليهم ، ووطدت سلطان النبي صلى الله عليه وسلم القضائي والسياسي والجهادي والتشريعي واحتوت فكرة الجهاد والدفاع وضمان حرية الدعوة وحماية المسلمين ودينهم والشورى ومسالمة المسالمين وعقد المواثيق بدون حرب أو بعد حرب وأخذ الجزية وإقامة الحدود وتنظيم شؤون الأسرة وتخصيص الزكاة والفيء وخمس الغنائم لبيت مال المسلمين ؛ ليتولى ولي أمرهم إنفاقها على مصالح المسلمين العامة والطبقات المعزوة الخ مما مر كثير منه ونبهنا عليه في سياق شرحه . ويضاف إليه الأحاديث النبوية الصحيحة والكثيرة جدا في كل شأن من هذه الشؤون التي أوردنا كثيرا منها في المناسبات السابقة .

ويحسن أن نقف عند تعبير { وعملوا الصالحات } لنقول : عن عمل الصالحات الذي هو من شروط تحقيق البشرى والوعد الربانيين يشمل كما قلنا في المناسبات السابقة كل أنواع الخير والبر والواجب تعبديا كان أم غير تعبدي من عبادة الله وحده ، وإسلام النفس إليه والإحسان والبر بالمحتاجين والرحمة بالضعفاء والجهاد في سبيل الله ومكافحة الظلم والظالمين والتضحية بالنفس والمال في ذلك والتزام الحق والعدل والإنصاف والصدق والأمانة والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر والرحمة والأعمال العامة التي فيها مصلحة المسلمين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكسب الحلال وقيام المرء بواجباته نحو أسرته وبني ملته وقومه ومعاملة الناس بالحسنى .

وهكذا يبدو هذا الشرط الذي يتحقق به الوعد والبشرى الربانيان رائعا جليل المعنى والمدى . وفي الوقت نفسه ينطوي على حقيقة اجتماعية خالدة وهي أن السلطان والتمكن والفوز في الدنيا مضمون دائما للذين آمنوا وعملوا الصالحات ولدينهم ومنهجهم في كل وقت وزمان .

ولقد تحققت هذه البشرى والوعد المزدوجان أي الاستخلاف في الأرض وتمكين دين الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ؛ لأن شروطهما كانت متحققة في رجال العهدين رضي الله عنهم ، فكان ذلك معجزة من معجزات القرآن ؛ حيث تبدل خوف المسلمين أمنا وضعفهم قوة ، ومكن الله دينهم فلم يتوف نبيه إلا وهو منتشر في جمع أرجاء الجزيرة العربية ، وأخذ يطرق أبواب الأقطار المجاروة ، وصار للإسلام دولة نافذة الأمر والسلطان في الشؤون القضائية والتشريعية والجهادية والاقتصادية والتنظيمية تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم ثم تحت راية خلفائه الراشدين الذين ساروا على طريقته فظلت المعجزة مستمرة في عهدهم فانتشر الإسلام في جميع الأقطار المجاورة لجزيرة العرب من الشمال والجنوب وقام السلطان الإسلامي النافذ في تلك الشؤون قويا منصورا واندحرت أمامه قوى الظلم والطغيان . ثم ظل هذا مستمرا ما استمر حكام المسلمين ورجالهم على الطريقة حتى صار السلطان الإسلامي والدين الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى شاملين لمعظم ما كان معروفا من أرجاء المعمورة في مشارق الأرض ومغاربها من حدود الصين والهند شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا مع امتداد عظيم في الشمال والجنوب من هذه الساحة الشاسعة على اختلاف أجناس سكانها وألوانها وأديانهم .

ونحن مؤمنون بأن وعد الله المطلق يظل يتحقق للمؤمنين وللدين الإسلامي في كل زمان ومكان إذا ما تحققت فيهم الشروط التي احتوتها هذه الآيات . وساروا على ما رسمه الله ورسوله في الكتاب والسنة وأوجباه عليهم من خطط وأخلاق اجتماعية وسياسية وشخصية وجهادية وتضامنية وأسرية وتبشيرية وسلوكية وتنظيمية بكل إخلاص وجد .

الإيمان بهذا واجب على كل مسلم ؛ لأن الله لن يخلف ما وعده من النصر والتمكين في هذه الآيات وفي آيات كثيرة أخرى في سور عديدة مكية ومدنية .

ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث النبوية التي فيها أخبار بما سيكون من فتح للمسلمين والعرب وقوة وسلطان ، منها حديث جاء فيه ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ) {[1545]} ، ومنها حديث روي عن عدي ابن حاتم جاء فيه ( قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وفد عليه : أتعرف الحيرة ؟ قال : لم أعرفها ولكن قد سمعت بها ، قال : فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة وتطوف بالبيت في غير جوار أحد ، ولتفتحن كنوز كسرى ابن هرمز ، قال : قلت له كنوز كسرى ابن هرمز ؟ قال نعم كسرى ابن هرمز وليذلن المال حتى لا يقبله أحد . قال عدي ابن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد ، وقد كنت فيمن افتتح كنوز كسرى ابن هرمز . والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها ) {[1546]} .

ولقد قال المفسرون في تأويل جملة { ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } إنها تعني من كفر بنعمة الله من المسلمين وانحرف عن طاعة الله ورسوله{[1547]} . وهو وجيه متسق مع روح الجملة . وفي الجملة على ضوء هذا التأويل حقيقة اجتماعية خالدة أخرى ، وهي أن ما يمكن أن يحل بالمسلمين من ذل وضعف واندحار وخذلان بعد أن يكونوا قد صاروا إلى ما صاروا إليه من ثروة وعزة وسؤدد وانتشار سلطان ودين إنما يكون بسبب انحرافهم عن الطريقة المثلى التي تحققت بها المعجزة القرآنية . وهذا مما كان وظل يتحقق في المسلمين وبلادهم حينما كانوا ينحرفون عن دينهم ويقصرون في ما أوجبه الله عليهم من عمل الصالحات على مداها الواسع الذي شرحناه .

ومع ذلك فهناك حديث يحسن أن يساق في هذا المساق أورده ابن كثير وهو من مرويات مسلم والترمذي وأبي داود ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من يخذلهم حتى يأتي أمر الله ) {[1548]} .

وينطوي في الحديث بشرى عظيمة حتى في حال عدم تحقق الشرط في جمع المسلمين حيث يبشر رسول الله بأن هذا الشرط سيكون متحققا ولو في فئة منهم وسيجعلهم أعزاء ظاهرين على الحق وهو ما كان وما يزال يتحقق في مختلف البقاع والأزمان من لدن العهد النبوي كنتيجة لتحقق ذلك الشرط الرائع في فئة من المسلمين .

تأويل الشيعة لبعض الآيات السابقة والتعليق عليه

ولقد وقف مفسرو{[1549]} الشيعة عند جملة { ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } فرووا عن أئمتهم : علي ابن الحسين وأبي جعفر وأبي عبد الله أنها في الذين وقفوا من أهل بيت النبي وشيعتهم موقف المناوأة والعداء ، ثم رووا عن أئمتهم أن الآية الأولى تضمنت البشارة بظهور المهدي واستخلافه في الأرض ، ورووا في صدده حديثا جاء فيه ( لو لم يبق في الدنيا إلا يوم واحد لطول ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي اسمه اسمى ، يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما وجورا ) {[1550]} .

والهوى الشيعي ظاهر في تأويل الآيات وصرفها عن روعة مفهومها الشامل للمسلمين باستخلافهم في الأرض وتمكن دينهم إذا آمنوا وأخلصوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الرسول . وليس فيها أي شيء يبرر ذلك الصرف والتأويل .


[1544]:انظر الطبري والبغوي والخازن والطبرسي.
[1545]:النص المنقول من ابن كثير: وقد وصف الحديث الأول أنه صحيح ثابت. وقد روى البخاري الحديث الثاني بنص آخر جاء فيه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت لم أرها وقد أنبئت بها قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله. قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعار طيء الذين قد سعروا البلاد. ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرىـ قلت كسرى ابن هرمز؟ قال: نعم. ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة فلا يجد من يقبله. وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له فيقول له: ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول بلى، فيقول ألم أعطك مالا وولدا وأفضل عليك؟ فيقول بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم وينظر عن يساره فلا يرى جهنم. فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة. قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم التاج ج 3 ص 256 وهناك أحاديث عديدة من هذا الباب منها حديث رواه مسلم عن نافع بن عقبة جاء فيه أنه قد سمع رسول الله يقول: تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، وتغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله...التاج ج 3 ص 256 و 257.
[1546]:المصدر نفسه
[1547]:انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير
[1548]:التاج ج 5 ص 313
[1549]:انظر تفسير الطبرسي. وننبه على أن هذا المفسر أورد في الوقت نفسه تأويلات للآية متسقة مع تأويلات المفسرين السنيين ومع روح الآيات وفحواها.
[1550]:روى هذا الحديث بخلاف يسير أبو داود والترمذي (التاج ج 5 ص 311 و 312 ونحن نقف منه موقف التحفظ، ونرجح أن للهوى الشيعي أثرا ما فيه، ومع ذلك فإنه لا يساعد في أي حال على تأويل بما أولها به أئمة الشيعة أو مفسروهم