{ قُلْ } لهم ، لائمًا على فرارهم ، ومخبرًا أنهم لا يفيدهم ذلك شيئًا { لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ } فلو كنتم في بيوتكم ، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعكم .
والأسباب تنفع ، إذا لم يعارضها القضاء والقدر ، فإذا جاء القضاء والقدر ، تلاشى كل سبب ، وبطلت{[695]} كل وسيلة ، ظنها الإنسان تنجيه .
{ وَإِذَا } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل ، ولتنعموا في الدنيا فإنكم { لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا } متاعًا ، لا يسوى فراركم ، وترككم أمر اللّه ، وتفويتكم على أنفسكم ، التمتع الأبدي ، في النعيم السرمدي .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُل لّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاّ تُمَتّعُونَ إِلاّ قَلِيلاً * قُلْ مَن ذَا الّذِي يَعْصِمُكُمْ مّنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوَءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لهؤلاء الذين يستأذنوك في الانصراف عنك ويقولون إن بيوتنا عورة : لَنْ يَنْفَعَكُمُ الفِرَارُ إنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أوِ القَتْل يقول : لأن ذلك ، أو ما كتب الله منهما واصل إليكم بكل حال ، كرهتم أو أحببتم . وإذا لا تُمَتّعُونَ إلاّ قَلِيلاً يقول : وإذا فررتم من الموت أو القتل لم يزد فراركم ذلك في أعماركم وآجالكم ، بل إنما تمتعون في هذه الدنيا إلى الوقت الذي كتب لكم ، ثم يأتيكم ما كتب لكم وعليكم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الفِرَارُ إنْ فَرَرْتُمْ منَ المَوْتِ أوِ القَتْلِ ، وَإذا لا تُمَتّعُونَ إلاّ قَلِيلاً وإنما الدنيا كلها قليل .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين ، عن ربيع بن خيثم وَإذا لا تُمَتّعُونَ إلاّ قَلِيلاً قال : إلى آجالهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين ، عن ربيع بن خيثم وَإذا لا تُمَتّعُونَ إلاّ قَلِيلاً قال : ما بينهم وبين الأجل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن الأعمش ، عن أبي رزين ، عن الربيع بن خيثم مثله ، إلاّ أنه قال : ما بينهم وبين آجالهم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن أبي رزين ، أنه قال في هذه الاَية فَلْيَضْحَكُوا قَليلاً وَلْيَبْكوا كَثِيرا قال : ليضحكوا في الدنيا قليلاً ، وليبكوا في النار كثيرا . وقال في هذه الاَية : وَإذا لا تُمَتّعُونَ إلاّ قَلِيلاً قال : إلى آجالهم . أحد هذين الحديثين رفعه إلى ربيع بن خيثم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن الأعمش ، عن أبي رزين ، عن الربيع بن خيثم وَإذَا لا تُمَتّعُونَ إلاّ قَلِيلاً قال : الأجل . ورفع قوله تُمَتّعُونَ ولم ينصب بإذن للواو التي معها ، وذلك أنه إذا كان قبلها واو ، كان معنى «إذا » التأخير بعد الفعل ، كأنه قيل : ولو فرّوا لا يمتّعون إلاّ قليلاً إذا ، وقد يُنصب بها أحيانا ، وإن كان معها واو ، لأن الفعل متروك ، فكأنها لأوّل الكلام .
أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية أن يخاطبهم بتوبيخ ، فأعلمهم بأن الفرار لا ينجيهم من القدر ، وأعلمهم أنهم لا يمتعون في تلك الأوطان كثيراً ، بل تنقطع أعمارهم في يسير من المدة ، و «القليل » الذي استثناه هي مدة الآجال قال الربيع بن خثيم{[9474]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل} لن تزدادوا على آجالكم {وإذا لا تمتعون} في الدنيا {إلا قليلا} إلى آجالكم القليل لا تزدادوا عليها شيئا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قُلْ" يا محمد لهؤلاء الذين يستأذنوك في الانصراف عنك ويقولون إن بيوتنا عورة: "لَنْ يَنْفَعَكُمُ الفِرَارُ إنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أوِ القَتْل "يقول: لأن ذلك، أو ما كتب الله منهما واصل إليكم بكل حال، كرهتم أو أحببتم.
"وإذا لا تُمَتّعُونَ إلاّ قَلِيلاً" يقول: وإذا فررتم من الموت أو القتل لم يزد فراركم ذلك في أعماركم وآجالكم، بل إنما تمتعون في هذه الدنيا إلى الوقت الذي كتب لكم، ثم يأتيكم ما كتب لكم وعليكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إن قضى عليكم الموت أو القتل فلن ينفعكم الفرار، وقال بعضهم: إن جعل القضاء آجالكم الموت أو القتل فلن ينفعكم الفرار، بل ينقضي، كقوله: {لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} الآية [آل عمران: 154] أي لا محالة.
{وإذا لا تمتعون إلا قليلا} قال بعضهم: إن الدنيا قليل إلى آجالكم، وجائز أن يكون معناه: ولئن نفعكم الفرار عنه فلا تمتعون إلا قليلا، كقوله: {أفرأيت إن متعناهم سنين} {ثم جاءهم ما كانوا يوعدون} [الشعراء: 205 و206]...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والفرار: الذهاب عن الشيء خوفا منه، ومثله الهرب...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لأَن الآجالَ لا تأخيرَ لها ولا تقديم عليها، وكما قالوا: إنّ الهاربَ عمّا هو كائن في كفِّ الطالب يتقلبُ.
{وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}: فإنّ ما يدّخرُه العبدُ عن الله من مالٍ أو جاهٍ أو نَفيسٍ أو قريب لا يُبارَك له فيه، ولا يجدُ به مَنَعَةً، ولا يُرزقُ منة غبطة.
إشارة إلى أن الأمور مقدرة لا يمكن الفرار مما وقع عليه القرار، وما قدره الله كائن فمن أمر بشيء إذا خالفه، يبقى في ورطة العقاب آجلا ولا ينتفع بالمخالفة عاجلا.
{وإذا لا تمتعون إلا قليلا} كأنه يقول ولو فررتم منه في يومكم مع أنه غير ممكن، لما دمتم بل لا تمتعون إلا قليلا، فالعاقل لا يرغب في شيء قليل مع أنه يفوت عليه شيئا كثيرا، فلا فرار لكم ولو كان لما متعتم بعد الفرار إلا قليلا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أتم سبحانه ما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم كما دل عليه التعبير بالنبي، استأنف أمره بجوابهم جواباً لمن كأنه قال: ماذا يقال لهم؟ وإجراءً للنصيحة على لسانه لما هو مجبول عليه من الشفقة، {قل} أي لهم، وأكد لظنهم نفع الفرار: {لن ينفعكم} أي في تأخير آجالكم في وقت من الأوقات {الفرار} أي الذي ما كان استئذانكم إلا بسببه {إن فررتم من الموت} أي بغير عدو {أو القتل} لأن الأجل إن كان قد حضر، لم يتأخر بالفرار وإلا لم يقصره الثبات،كما كان علي رضي الله عنه يقول: إذا دهم الأمر، وتوقد الجمر، واشتد من الحرب الحر، أيّ يومي من الموت أفر؟ يوم لا يقدر أو يوم قدر، وذلك أن أجل الله الذي أجله محيط بالإنسان لا يقدر أن يتعداه أصلاً {وإذا} أي وإذ فررتم. ولما كانوا لا يقصدون بالعيش إلا التمتع، بين ذلك بالبناء للمجهول فقال: {لا تمتعون} أي تمتعاً مبالغاً فيه كما تريدون بما بقي من أعماركم إن كان بقي منها شيء {إلا قليلاً} بل يتمكن العدو منكم بأدباركم، ومن أموالكم وأحسابكم ودياركم، فيفسد مهما قدر عليه من ذلك، فلا تقدرون على تداركه إلا بعد زمان طويل وتعب كبير، بخلاف ما إذا ثبتم وفاء بالعهد وحفظاً للثناء فلاقيتم الأقران، وقارعتم الفرسان، اعتماداً على ربكم وطاعة لنبيكم، فإن كان الأجل قد أتى لم ينقصكم ذلك شيئاً، ومتم أعزة كراماً، وإلا فزتم بالنصر، وحزتم الأجر، وعشتم بأتم نعمة إلى تمام العمر، فالثبات أبقى للمهج، وأحفظ للعيش البهج...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَوِ القتل}... وهذا من باب فرض المحال ولم يقل: ولو نفعكم، إخراجاً للكلام مخرج المماشاة أو إذا نفعكم الفرار فمتعتم بالتأخير بأن كان ذلك معلقاً عند الله تعالى على الفرار مربوطاً به، لم يكن التمتيع إلا قليلاً فإن أيام الحياة وإن طالت قصيرة، وعمر تأكله ذرات الدقائق وإن كثر قليل.
وقال بعض الأجلة: المعنى لا ينفعكم نفعاً دائماً أو تاماً في دفع الأمرين المذكورين الموت أو القتل بالكلية؛ إذ لا بد لكل شخص من موت حتف أنفه، أو قتل في وقت معين، لا لأنه سبق به القضاء لأنه تابع للمقضي فلا يكون باعثاً عليه، بل لأنه مقتضى ترتب الأسباب والمسببات بحسب جرى العادة على مقتضى الحكمة، فلا دلالة فيه على أن الفرار لا يغني شيئاً حتى يشكل بالنهي عن الإلقاء إلى التهلكة وبالأمر بالفرار عن المضار،
{وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} يدل على أن في الفرار نفعاً في الجملة إذ المعنى لا تمتعون على تقدير الفرار إلا متاعاً قليلاً، وفيه ما فيه فتأمل...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
الأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة، ظنها الإنسان تنجيه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعند هذا المقطع -وهم أمام العهد المنقوض ابتغاء النجاة من الخطر والأمان من الفزع- يقرر القرآن إحدى القيم الباقية التي يقررها في أوانها؛ ويصحح التصور الذي يدعوهم إلى نقض العهد والفرار إن قدر الله هو المسيطر على الأحداث والمصائر، يدفعها في الطريق المرسوم، وينتهي بها إلى النهاية المحتومة. والموت أو القتل قدر لا مفر من لقائه في موعده، لا يستقدم لحظة ولا يستأخر.
ولن ينفع الفرار في دفع القدر المحتوم عن فار. فإذا فروا فإنهم ملاقون حتفهم المكتوب، في موعده القريب. وكل موعد في الدنيا قريب، وكل متاع فيها قليل. ولا عاصم من الله ولا من يحول دون نفاذ مشيئته. سواء أراد بهم سوءا أم أراد بهم رحمة، ولا مولى لهم ولا نصير، من دون الله، يحميهم ويمنعهم من قدر الله.