190- إن في خلق الله للسماوات والأرض مع ما فيهما من إبداع وإحكام ، واختلاف الليل والنهار نوراً وظلمة وطولاً وقصراً لدلائل بينات لأصحاب العقول المدركة على وحدانية الله وقدرته{[37]} .
قوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الاسفرايني أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ أنا أحمد بن عبد الجبار أنا ابن فضيل عن حصين بن عبد الرحمن عن حبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما " أنه رقد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه استيقظ فتسوك ثم توضأ وهو يقول : إن في خلق السماوات والأرض حتى ختم السورة ، ثم قام فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام والركوع والسجود ، ثم انصرف فنام حتى نفخ ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات كل ذلك يستاك ، ثم يتوضأ ثم يقرأ هؤلاء الآيات ، ثم أوتر بثلاث ركعات ثم أتاه المؤذن فخرج إلى الصلاة وهو يقول : اللهم اجعل في بصري نوراً وفي سمعي نوراً وفي لساني نوراً واجعل من خلفي نوراً وأمامي نوراً ، واجعل من فوقي نوراً ومن تحتي نوراً ، اللهم أعطني نوراً " . ورواه كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وزاد " اللهم اجعل في قلبي نوراً وفي بصري نوراً وفي سمعي نوراً وعن يميني نوراً وعن يساري نوراً " . قوله تعالى : { لآيات لأولي الألباب } . ذوي العقول . ثم وصفهم فقال : { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا بطلا سبحانك فقنا عذاب النار } .
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ }
يخبر تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } وفي ضمن ذلك حث العباد على التفكر فيها ، والتبصر بآياتها ، وتدبر خلقها ، وأبهم قوله : { آيات } ولم يقل : " على المطلب الفلاني " إشارة لكثرتها وعمومها ، وذلك لأن فيها من الآيات العجيبة ما يبهر الناظرين ، ويقنع المتفكرين ، ويجذب أفئدة الصادقين ، وينبه العقول النيرة على جميع المطالب الإلهية ، فأما تفصيل ما اشتملت عليه ، فلا يمكن لمخلوق أن يحصره ، ويحيط ببعضه ، وفي الجملة فما فيها من العظمة والسعة ، وانتظام السير والحركة ، يدل على عظمة خالقها ، وعظمة سلطانه وشمول قدرته . وما فيها من الإحكام والإتقان ، وبديع الصنع ، ولطائف الفعل ، يدل على حكمة الله ووضعه الأشياء مواضعها ، وسعة علمه . وما فيها من المنافع للخلق ، يدل على سعة رحمة الله ، وعموم فضله ، وشمول بره ، ووجوب شكره .
وكل ذلك يدل على تعلق القلب بخالقها ومبدعها ، وبذل الجهد في مرضاته ، وأن لا يشرك به سواه ، ممن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء .
وخص الله بالآيات أولي الألباب ، وهم أهل العقول ؛ لأنهم هم المنتفعون بها ، الناظرون إليها بعقولهم لا بأبصارهم .
قال الطبراني : حدثنا الحسن بن إسحاق التُسْتَرِي ، حدثنا يحيى الحِمَّاني ، حدثنا يعقوب القُمِّي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا : بم جاءكم موسى ؟ قالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين . وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى ؟ قالوا : كان يُبْرِئُ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى : فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : ادع لنا ربك يجعل لنا الصَّفا ذَهَبًا . فدعا ربه ، فنزلت هذه الآية : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } فليتفكروا فيها{[6358]} وهذا مُشْكل ، فإن هذه الآية مدنية . وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة . والله أعلم .
ومعنى الآية أنه يقول تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : هذه في ارتفاعها واتساعها ، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها{[6359]} وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات ، وثوابتَ وبحار ، وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار ، وحيوان ومعادن ومنافع ، مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص { وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : تعاقبهما وتَقَارضهما الطول والقصر ، فتارة يطُول هذا ويقصر هذا ، ثم يعتدلان ، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ، ويقصر الذي كان طويلا وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم{[6360]} ؛ ولهذا قال : { لأولِي الألْبَابِ } أي : العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها ، وليسوا كالصم البُكْم الذين لا يعقلون الذين قال الله [ تعالى ]{[6361]} فيهم : { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ . وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 105 ، 106 ] .
{ إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لاَيَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ } .
وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره على قائل ذلك وعلى سائر خلقه بأنه المدبر المصرف الأشياء ، والمسخر ما أحب ، وإن الإغناء والإفقار إليه وبيده ، فقال جل ثناؤه : تدبروا أيها الناس ، واعتبروا ففيما أنشأته فخلقته من السموات والأرض لمعاشكم وأقواتكم وأرزاقكم ، وفيما عقّبت بينه من الليل والنهار ، فجعلتهما يختلفان ويعتقبان عليكم ، تتصرفون في هذا لمعاشكم ، وتسكنون في هذا راحة لأجسادكم ، معتبرٌ ومدّكر ، وآيات وعظات . فمن كان منكم ذا لب وعقل ، يعلم أن من نسبني إلى أني فقير وهو غني كاذب مفتر ، فإن ذلك كله بيدي أقلبه وأصرفه ، ولو أبطلت ذلك لهلكتم ، فكيف ينسب فقر إلى من كان كل ما به عيش ما في السموات والأرض بيده وإليه ! أم كيف يكون غنيا من كان رزقه بيد غيره ، إذا شاء رزقه ، وإذا شاء حرمه ! فاعتبروا يا أولي الألباب .