تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان  
{إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (190)

الخلق : التقدير والترتيب الدال على الإتقان .

اختلاف الليل والنهار : تعاقبهما .

الألباب : العقول .

وعلى جنوبهم : مضطجعين .

الأبرار : المحسنون ، واحدُها بار أو بَر .

على رسُلك : على أَلسنة رسلك .

من أسلوب القرآن الكريم أنه يجذب النفوس والعقول من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق ، فيأتي بين الآيات وفي أواخر السور بآيات مشوّقة تريح الأعصاب وتشوق القلوب .

فقد اشتملت هذه الآية الحكيمة على أمر هو :

لما طال الكلام في تقرير الأخذ والرد والجواب عن شبهات المبطلين ، عاد التنزيل إلى إثارة القلوب بِذِكر ما يدل على التوحيد والألوهية . فقال : إن هذا الكون بذاته كتابٌ مفتوح ، يحمل دلائل الإيمان وآياته ، ويشير إلى أن وراء هذا الكون يداً تدبره بحكمة ، ويوحي بأن وراء هذه الحياة الدنيا حياةً أخرى ، وحساباً وجزاء .

هذا ما اتفقت على وجوده الأديان الكتابيّة ، وان اختلفت في تمثيل الحياة الأخرى .

وقد آمن الفلاسفة بالحياة الأخرى قبل الأديان الكتابية جميعاً وبعد مجيئها أيضا . فمن أشهر المؤمنين بها قبل الأديان «أفلاطون » ، ومن أشهرهم بعدها «عمانويل كانت » ، وهما يجمعان أطراف الآراء الفلسفية في سبب الإيمان ببقاء النفس بعد الموت . . . . ونريد من الإشارة الموجزة إلى رأي هذين الفيلسوفين ، أن يذكر الناظرون في مسألة الحياة بعد الموت أنها مسألة بحث وتفكير ، لا قضية اعتقاد وإيمان فحسب . . إن العقل لا يخرجها من تناول بحثه ، فلا بد من توضيح الحقيقة الاعتقادية بالمحسوسات في كثير من الأحوال . وعلى هذا ، ينبغي أن يروض فكره كلُّ من ينظر إلى عقيدة الحياة الأخرى في القرآن الكريم . وإنما يدرك هذه الدلائل ، ويرى هذه الحكمة «أُولو الألباب » من الناس ، لا الذين يمرون بهذا الكتاب المفتوح وأعينهم مغمضة ، وعقولهم مغلقة غير واعين .

وها هو التفسير باقتضاب :

إن في خلق الله للسماوات و الأرض ، بما فيهما من إبداع ، وإحكام نظام ، وبديع تقدير ، وفي اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما بنظام دقيق نحسّ آثاره في أجسامنا بفعل حرارة الشمس وبرد الليل ، لدلائل بيناتٍ لأصحاب العقول المدركة على وحدانية الله ، وكمال قدرته .

وفي هذه الآية إشارة إلى حقائق مذهلة في هذا الكون العجيب ، ذلك أن السماء ما هي إلا آية من آيات الله تبدو لنا بتأثير الأشعة الشمسية على الغلاف الجوي المحيط بالأرض .

فعندما تسقط هذه الأشعة على ذريرات العناصر الكيماوية التي يتألف منها الجو ، وما يحمله من دقائق عالقة به ، تنعكس هذه الأشعة وتتشتت ، فنرى نحن الضوء الأبيض الذي يتألف من جميع الألوان المرئية .

وصفوة القول ، أن ضوء النهار يتطلب الإشعاع الشمسي ، وكميةً متناسية من الغبار الجوي . فقد حدث في سنة 1944 أن أظلمت السماء فجأة في وضح النهار ، ولشدة ظلمتها صار النهار كأنه الليل . وقد ظل الأمر كذلك زمناً وجيزاً ، ثم تحولت السماء إلى لون أحمر ، تدرّج إلى لون برتقالي ، فأصفر ، حتى عادت إلى حالتها الطبيعية ، بعد نحو ساعة أو أكثر .

وقد تبين فيما بعد أن هذه الظاهرة نشأت من تفتُّت نيزك في السماء ، استحال إلى رماد ، وحملته الرياح إلى مسافات بعيدة من أواسط إفريقية إلى شمالها ، ثم إلى غربي آسيا ، حيث شوهدت هذه الظاهرة في سورية . وتفسير ذلك أن الغبار المعلق في الفضاء قد حجب نور الشمس ، فلما قلّت كثافته أخذ الضوءُ في الاحمرار والاصفرار إلى أن عاد طبيعيا .

أما ما نراه في هذه السماء من نجوم وأجرام سماوية ومجرّات وكائنات ، فهي أمور كُتب فيها مجلدات وموسوعات يتطلب التعرف على أنظمتها دراسة واسعة وتخصصا كبيرا ، وهي مظهر من مظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى التي تتجلى في خلقه كلَّ ذلك .

والأرض أهم عالم عرفناه ، وفيها أحوال لا تُوجد مثلها في شيء من هذا الكون الواسع . هي على ضخامتها في نظرنا لا تساوي في الحقيقة ذرة في هذا الكون العجيب . ولو أن حجمها كان أقل أو أكثر مما هي عليه الآن ، لاستحالت الحياة فوقها . وهي تدور بسرعة مقدراها ألف ميل في الساعة ، وفيها جاذبية غير عادية ، وهي تشد كل شيء إليها بفعل تلك الجاذبية .

وتُكمل الأرض دورة واحدة حول محورها كل أربع وعشرين ساعة ، ولو فرضنا أن انخفضت هذه السرعة إلى مائتي ميل في الساعة ، لطالت أوقات لَيلِنا ونهارنا عشرات المرات ، عما هي عليه الآن . ويترتب على ذلك أن تحرق الشمس كل شيء فوق الأرض ، فإن بقي بعد ذلك شيء قضت عليه البرودة الشديدة في الليل .

ثم إن هذه الأرض دائرة في الفضاء حول الشمس ، وعلى زاوية محددة ، الأمر الذي تنشأ عنه فصول السنة ، وصلاحية البقاع للزراعة والسكن ، فلو لم تَسِر الأرض على هذه الزاوية لغمر الظلام القطبين طوال السنة ، ولسار بخار البحار شمالاً وجنوبا ، ولما بقي على الأرض غير جبال الثلج وفيافي الصحراوات . . إذ ذاك تغدو الحياة على هذه الأرض مستحيلة تماماً .

ولو كانت قشرة الأرض أكثر سُمكاً مما هي الآن بمقدار عشرة أقدام لما وجد الأوكسجين ، لأن القشرة الأرضية ستمتص الأوكسجين في تلك الحال . وبدونه تستحيل الحياة الحيوانية .

وكذلك لو كانت البحار أعمق مما هي الآن بضعة أقدام ، لانجذبَ إليها غاز ثاني أوكسيد الكربون ، والأوكسجين ، ولاستحال وجود النباتات عند ذلك .

ويحيط بالأرض غلاف جوي خليط من الغازات التي تحتفظ بخصائصها ، وأقربُ طبقات الأرض إلى سطحها تسمى تروبوسفير ، وهي تمتد إلى ارتفاع ثمانية كليو مترات عند القطبين والى 11 كم في خطوط العرض الوسطى ، و12 كم عند خط الاستواء . وفي هذه الطبقة يحدث خلط مستمر للهواء نتيجة للتيارات الصاعدة والهابطة . . . . ويتركب الغلاف الجوي من الأزوت والأوكسجين ، والأرغون ، وثاني أوكسيد الكربون ، وكميات ضئيلة من غازات النيون والكريتون والهيليوم والأيدروجين والكسينون والأوزون ، بالإضافة إلى كميات متغيرة من بخار الماء والغبار . ولكل هذه المواد نسب معينة محددة لا تزيد ولا تنقص .

ولو كان الغلاف الجوي للأرض ألطف مما عليه الآن ، لاخترقت النيازك الغلاف الخارجي منه كل يوم ، ولرأينا هذه النيازك مضيئة في الليل ، ولسقطت على كل بقعة من الأرض وأحرقتها . فولا أن غلاف الأرض الهوائي يقينا من هذه الشهب لأحرقتنا . ذلك أن سرعتها أكبر من سرعة طلقة البندقية بتسعين مرة ، كما أن حرارتها الشديدة كافية لإهلاك كل ما على سطح الأرض .

والآن . ألا يدل هذا التوازن الدقيق العجيب جداً على قدرة الخالق وبديع صنعه ! الحق أنه لم يكن صدفة ، ولا وُجد عفوا كما يقول المبطلون الجاهلون .

لكن ، من يدرك ذلك ؟ إنهم أولوا الألباب ،