اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (190)

اعلم أنه - تعالى - لما قرَّر الأحكام ، وأجاب عن شُبَه المُبْطِلين ، عاد إلى ذِكْر ما يدل على التوحيد فذكر هذه الآية .

قال ابنُ عبيد قلت لعائشة - رضي الله عنها - : أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكَتْ وأطالت ، ثم قالت : " كُلُّ أمره عَجَبٍ ، أتاني في ليلتي ، فدخل في لحافي ، حتى ألصق جِلدَه بجلدي ، ثم قال لي : يَا عَائِشَة ، هَلْ لَكِ أنْ تَأذَنِي لِي اللَّيْلةَ في عِبَادَةِ رَبِّي ؟ فقلتُ : يا رسولَ اللَّهِ ، إنِّي لأحبُّكَ وأحِبُّ مُرَادَكَ ، فَقَدْ أذِنْتُ لَكَ ، فَقَامَ إلى قِرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ في البيتِ ، فَتَوَضَّأ ، ولم يُكْثِرْ من صَبِّ الْمَاءِ ، ثُمَّ قَامَ يُصلِّي ، فَقَرأ مِنَ الْقُرْآنِ ، وجَعَلَ يَبْكِي ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ، فَجَعَلَ يَبْكِي حَتَّى رَأَيْتُ دُمُوعَه قَدْ بَلَّتِ الأرْض فأتاه بلالٌ يُؤذنُهُ بِصَلاَةِ الْغَدَاةِ ، فَرَآهُ يَبْكِي ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أتَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأخَّرَ ؟ فَقَالَ : يَا بِلاَلُ ، أفَلا أكُونُ عَبْداً شَكُوراً ، ثُمَّ قَالَ : مَا لِيَ لا أبكي وَقَدْ أنْزَلَ اللَّهُ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } الآيات ، ثُمَّ قَالَ : وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا " {[6287]} وروي : " ويلٌ لِمَنْ لاَكَها بَيْنَ فَكَّيْهِ وَلَمْ يَتَأمَّلْ فِيهَا " {[6288]} .

وروي عن عَلِيٌّ - رضي الله عنه - " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قامَ من الليلِ يتسوكُ ، ثم ينظر إلى السماء ويقول : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ } " .

واعلم أنه - تعالى - ذكر هذه الآية في سورة البقرة{[6289]} ، وختمها بقوله :

{ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } وختمها هنا - بقوله : { لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ } وذكر في سورة البقرة - مع هذه الدلائل الثلاثة - خمسة أنواعٍ أخر حتى كان المجموع ثمانية أنواع من الدلائل ، وهنا اكتفى بذكر ثلاثةٍ - وهي السموات والأرض والليل والنهار - فأمّا الأول فلأن العقلَ له ظاهرٌ ، وله لُبّ ، ففي أولِ الأمرِ يكون عقْلاً ، وفي كمالِ الحالِ يكون لُبًّا ، ففي حالةِ كمالِهِ لا يحتاجُ إلى كَثرة الدلائلِ ، فلذلك ذكر له ثلاثةَ أنواعٍ من الدلائلِ ، وأسقط الخمسةَ ، واكتفى بذكر هذه الثلاثة ؛ لأن الدلائل السماوية أقْهَر وأبْهَر ، والعجائب فيها أكثر .


[6287]:أخرجه ابن حبان (523 ـ موارد) وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" ص: 186. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/195) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في "التفكر" وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم والأصبهاني في"الترغيب" وابن عساكر عن عطاء. أما قوله صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبدا شكورا فهو عند البخاري كتاب التفسير باب: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر (4837).
[6288]:ذكره الرازي في "تفسيره" (9/109).
[6289]:آية: 164.