{ 43 } { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ }
أي : { مَا يُقَالُ لَكَ } أيها الرسول من الأقوال الصادرة ، ممن كذبك وعاندك { إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ } أي : من جنسها ، بل ربما إنهم تكلموا بكلام واحد ، كتعجب جميع الأمم المكذبة للرسل ، من دعوتهم إلى الإخلاص للّه وعبادته وحده لا شريك له ، وردهم هذا بكل طريق يقدرون عليه ، وقولهم : { مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا }
واقتراحهم على رسلهم الآيات ، التي لا يلزمهم الإتيان بها ، ونحو ذلك من أقوال أهل التكذيب ، لما تشابهت قلوبهم في الكفر ، تشابهت أقوالهم ، وصبر الرسل عليهم السلام على أذاهم وتكذيبهم ، فاصبر كما صبر من قبلك .
ثم دعاهم إلى التوبة والإتيان بأسباب المغفرة ، وحذرهم من الاستمرار على الغيّ فقال : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } أي : عظيمة ، يمحو بها كل ذنب لمن أقلع وتاب { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } لمن : أصر واستكبر .
ثم يربط السياق بين القرآن وسائر الوحي قبله ؛ وبين رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وسائر الرسل قبله . ويجمع اسرة النبوة كلها في ندوة واحدة تتلقى من ربها حديثاً واحداً ، ترتبط به أرواحها وقلوبها ، وتتصل به طريقها ودعوتها ؛ ويحس المسلم الأخير أنه فرع من شجرة وارفة عميقة الجذور ، وعضو من أسرة عريقة قديمة التاريخ :
( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك . إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم ) . .
إنه وحي واحد ، ورسالة واحدة ، وعقيدة واحدة . وإنه كذلك استقبال واحد من البشرية ، وتكذيب واحد ، واعتراضات واحدة . . ثم هي بعد ذلك وشيجة واحدة ، وشجرة واحدة ، وأسرة واحدة ، وآلام واحدة ، وتجارب واحدة ، وهدف في نهاية الأمر واحد ، وطريق واصل ممدود .
أي شعور بالأنس ، والقوة ، والصبر ، والتصميم . توحيه هذه الحقيقة لأصحاب الدعوة ، السالكين في طريق سار فيها من قبل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم جميعاً - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ?
وأي شعور بالكرامة والاعتزاز والاستعلاء على مصاعب الطريق وعثرتها وأشواكها وعقباتها ، وصاحب الدعوة يمضي وهو يشعر أن اسلافه في هذا الطريق هم تلك العصبة المختارة من بني البشر أجمعين ?
إنها حقيقة : ( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ) . . ولكن أي آثار هائلة عميقة ينشئها استقرار هذه الحقيقة في نفوس المؤمنين ?
وهذا ما يصنعه هذا القرآن ، وهو يقرر مثل هذه الحقيقة الضخمة ويزرعها في القلوب .
ومما قيل للرسل وقيل لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] خاتم الرسل :
( إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم ) . .
ذلك كي تستقيم نفس المؤمن وتتوازن . فيطمع في رحمة الله ومغفرته فلا ييأس منها أبداً . ويحذر عقاب الله ويخشاه فلا يغفل عنه أبداً .
{ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } .
استئناف بياني جواب لسؤال يثيره قوله : { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا } [ فصلت : 40 ] ، وقوله : { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } [ فصلت : 41 ] وما تخلل ذلك من الأوصاف فيقول سائل : فما بال هؤلاء طعنوا فيه ؟ فأجيب بأن هذه سنة الأنبياء مع أممهم لا يعدمون معاندين جاحدين يكفرون بما جاءوا به . وإذا بنيت على ما جوزته سابقاً أن يكون جملة : { مَّا يُقَالُ } خبر { إنّ } [ فصلت : 41 ] كانت خبراً وليست استئنافاً .
وهذا تسلية للنبيء بطريق الكناية وأمر له بالصبر على ذلك كما صبر من قبله من الرسل بطريق التعريض . ولهذا الكلام تفسيران :
أحدهما : أن ما يقوله المشركون في القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم هو دأب أمثالهم المعاندين من قَبلهم فما صدقُ { مَا قَدْ قِيلَ للِرُّسُلِ } هو مقالات الذين كذبوهم ، أي تشابهت قلوب المكذبين فكانت مقالاتهم متماثلة قال تعالى : { أتواصوا به } [ الذاريات : 53 ] .
التفسير الثاني : ما قُلنا لك إلا ما قلناه للرسل من قبلك ، فأنت لم تكن بدعاً من الرسل فيكون لقومك بعض العذر في التكذيب ولكنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم ، فمَا صدقُ : { مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسل } هو الدين والوحي فيكون من طريقة قوله تعالى : { إن هذا لفي الصحف الأولى } [ الأعلى : 18 ] . وكلا المعنيين وارد في القرآن فيحمل الكلام على كليهما .
وفي التعبير ب { ما } الموصولة وفي حذف فاعل القولين في قوله : { مَّا يُقَالُ } وقوله : { مَا قَدْ قِيلَ } نظم متين حمَّل الكلام هذين المعنيين العظيمين ، وفي قوله : { إلاَّ ما قَدْ قِيل للرسل } تشبيه بليغ . والمعنى : إلا مثل ما قد قيل للرسل .
واجتلاب المضارع في { مَا يُقَال } لإِفادة تجدد هذا القول منهم وعدم ارعوائهم عنه مع ظهور ما شأنه أن يصدهم عن ذلك .
واقتران الفعل ب { قد } لتحقيق أنه قد قيل للرسل مثل ما قال المشركون للرسول صلى الله عليه وسلم فهو تأكيد للازم الخبر وهو لزوم الصبر على قولهم . وهو منظور فيه إلى حال المردود عليهم إذ حسبوا أنهم جابهوا الرسول بما لم يخطر ببال غيرهم ، وهذا على حد قوله تعالى : { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون } [ الذاريات : 52 ، 53 ] .
{ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أليم }
تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ووعد بأن الله يغفر له . ووقوع هذا الخبر عقب قوله : { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } يومىء إلى أن هذا الوعد جزاء على ما لقيه من الأذى في ذات الله وأن الوعيد للذين آذوه ، فالخبر مستعمل في لازمه .
ومعنى المغفرة له : التجاوز عما يلحقه من الحزن بما يسمع من المشركين من أذى كثير . وحرف { إنَّ } فيه لإِفادة التعليل والتسبب لا للتأكيد .
وكلمة { ذو } مؤذنة بأن المغفرة والعقاب كليهما من شأنه تعالى وهو يضعهما بحكمته في المواضع المستحقة لكل منهما .
ووصف العقاب ب { أَلِيمٍ } دون وصف آخر للاشارة إلى أنه مناسب لما عوقبوا لأجله فإنهم آلموا نفس النبي صلى الله عليه وسلم بما عصوا وآذوا .
وفي جملة : { إنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرة وَذُو عِقَابٍ ألِيم } مُحسِّن الجمع ثم التقسيم ، فقوله : { ما يقال لك } يجمع قائلاً ومقولاً له فكان الإِيماء بوصف ( ذو مغفرة ) إلى المقول له ، ووصف { ذو عقاب أليم } إلى القائلين ، وهو جار على طريقة اللف والنشر المعكوس وقرينة المقام ترد كُلاًّ إلى مناسبه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ما يقال لك} يا محمد من التكذيب بالقرآن أنه ليس بنازل عليك.
{إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} من قومهم من التكذيب لهم أنه ليس العذاب بنازل بهم، يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على الأذى والتكذيب.
{إن ربك لذو مغفرة}: ذو تجاوز في تأخير العذاب عنهم إلى الوقت، حين سألوا العذاب في الدنيا، وإذا جاء الوقت.
{وذو عقاب} فهو ذو عقاب {أليم} يعني وجيع.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ما يقول لك هؤلاء المشركون المكذّبون ما جئتهم به من عند ربك إلا ما قد قاله من قبلهم من الأمم الذين كانوا من قبلك، يقول له: فاصبر على ما نالك من أذى منهم، كما صبر أولو العزم من الرسل، "وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ"...
وقوله: "إنّ رَبّك لَذُو مَغْفِرَةٍ "يقول: إن ربك لذو مغفرة لذنوب التائبين إليه من ذنوبهم بالصفح عنهم "وَذُو عِقابٍ ألِيمٍ" يقول: وهو ذو عقاب مؤلم لمن أصر على كفره وذنوبه، فمات على الإصرار على ذلك قبل التوبة منه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم} على الابتداء: {إن ربك لذو مغفرة} لو تابوا ورجعوا عن ذلك، أو يقول والله أعلم، على الصلة لقوله تعالى: {إن الذين كفروا بالذّكر لما جاءهم} أي إنه: {لذو مغفرة} يغفر لهم ما كان منهم من التكذيب لك والتكذيب للقرآن لو تابوا، ورجعوا، صدقوا.
{وذو عقاب أليم} إن لم يتوبوا، ويثبتوا على ذلك، والله أعلم، أو يذكر هذا: أي ليس إليك مكافأتهم ومجازاتهم بما كان منهم، إنما ذلك إلينا؛ إن شئت غفرت لهم إذا رجعوا عنه، وإن شئت عاقبتُهم، وهو كقوله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم} الآية [أل عمران: 128]...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أصولُ التوحيدِ لا تختلف بالشرائع؛ فجوهرُها في الأحكام واحد: هو أنه تجب موافقة أوامره، واجتناب مزاجره. ثم إن الله تعالى قال في كل كتابٍ، وشَرَعَ لكل أمة أَنْ يعرفوا أنه للمطيعين مُثيبٌ، وللكافرين ذو عذاب شديد...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} يحتمل معنيين:
المعنى الثاني: أن تكون الآية تخليصاً لمعاني الشرع، أي ما يقال لك من الوحي وتخاطب به من جهة الله تعالى إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، ثم فسر ذلك الذي قيل لجميعهم وهو {إن ربك لذو مغفرة} للطائعين {وذو عقاب} للكافرين. وفي هذه الكلمات جماع النهي والزجر الموعظة، وإليها يرجع كل نظر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يربط السياق بين القرآن وسائر الوحي قبله؛ وبين رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وسائر الرسل قبله. ويجمع اسرة النبوة كلها في ندوة واحدة تتلقى من ربها حديثاً واحداً، ترتبط به أرواحها وقلوبها وتتصل به طريقها ودعوتها؛ ويحس المسلم الأخير أنه فرع من شجرة وارفة عميقة الجذور، وعضو من أسرة عريقة قديمة التاريخ:
(ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك. إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم)..
إنه وحي واحد، ورسالة واحدة، وعقيدة واحدة. وإنه كذلك استقبال واحد من البشرية، وتكذيب واحد، واعتراضات واحدة.. ثم هي بعد ذلك وشيجة واحدة، وشجرة واحدة، وأسرة واحدة، وآلام واحدة، وتجارب واحدة، وهدف في نهاية الأمر واحد، وطريق واصل ممدود.
أي شعور بالأنس، والقوة، والصبر، والتصميم. توحيه هذه الحقيقة لأصحاب الدعوة، السالكين في طريق سار فيها من قبل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم جميعاً -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟
وأي شعور بالكرامة والاعتزاز والاستعلاء على مصاعب الطريق وعثرتها وأشواكها وعقباتها، وصاحب الدعوة يمضي وهو يشعر أن اسلافه في هذا الطريق هم تلك العصبة المختارة من بني البشر أجمعين؟
إنها حقيقة: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك).. ولكن أي آثار هائلة عميقة ينشئها استقرار هذه الحقيقة في نفوس المؤمنين؟
وهذا ما يصنعه هذا القرآن، وهو يقرر مثل هذه الحقيقة الضخمة ويزرعها في القلوب.
ومما قيل للرسل وقيل لمحمد [صلى الله عليه وسلم] خاتم الرسل:
(إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم)..
ذلك كي تستقيم نفس المؤمن وتتوازن. فيطمع في رحمة الله ومغفرته فلا ييأس منها أبداً. ويحذر عقاب الله ويخشاه فلا يغفل عنه أبداً.
إنه التوازن طابع الإسلام الأصيل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ}.
أحدهما: أن ما يقوله المشركون في القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم هو دأب أمثالهم المعاندين من قَبلهم.
التفسير الثاني: ما قُلنا لك إلا ما قلناه للرسل من قبلك.
وفي التعبير ب {ما} الموصولة وفي حذف فاعل القولين في قوله: {مَّا يُقَالُ} وقوله: {مَا قَدْ قِيلَ} نظم متين حمَّل الكلام هذين المعنيين العظيمين.
{إلاَّ ما قَدْ قِيل للرسل} تشبيه بليغ. والمعنى: إلا مثل ما قد قيل للرسل.
واجتلاب المضارع في {مَا يُقَال} لإِفادة تجدد هذا القول منهم وعدم ارعوائهم عنه مع ظهور ما شأنه أن يصدهم عن ذلك.
واقتران الفعل ب {قد} لتحقيق أنه قد قيل للرسل مثل ما قال المشركون للرسول صلى الله عليه وسلم، فهو تأكيد للازم الخبر وهو لزوم الصبر على قولهم. وهو منظور فيه إلى حال المردود عليهم إذ حسبوا أنهم جابهوا الرسول بما لم يخطر ببال غيرهم، وهذا على حد قوله تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون} [الذاريات: 52، 53].
{إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أليم} تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ووعد بأن الله يغفر له. ووقوع هذا الخبر عقب قوله: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} يومئ إلى أن هذا الوعد جزاء على ما لقيه من الأذى في ذات الله وأن الوعيد للذين آذوه، فالخبر مستعمل في لازمه.
ومعنى المغفرة له: التجاوز عما يلحقه من الحزن بما يسمع من المشركين من أذى كثير. وحرف {إنَّ} فيه لإِفادة التعليل والتسبب لا للتأكيد.
وكلمة {ذو} مؤذنة بأن المغفرة والعقاب كليهما من شأنه تعالى وهو يضعهما بحكمته في المواضع المستحقة لكل منهما.
ووصف العقاب ب {أَلِيمٍ} دون وصف آخر للإشارة إلى أنه مناسب لما عوقبوا لأجله فإنهم آلموا نفس النبي صلى الله عليه وسلم بما عصوا وآذوا.
وفي جملة: {إنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرة وَذُو عِقَابٍ ألِيم} مُحسِّن الجمع ثم التقسيم، فقوله: {ما يقال لك} يجمع قائلاً ومقولاً له فكان الإِيماء بوصف (ذو مغفرة) إلى المقول له، ووصف {ذو عقاب أليم} إلى القائلين، وهو جار على طريقة اللف والنشر المعكوس وقرينة المقام ترد كُلاًّ إلى مناسبه.
كأن الحق سبحانه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد أنت سيد الرسل، والرسل أُوذُوا، فلو كان الإيذاء على قَدْر المنزلة لكان إيذاء قومك لك أضعاف إيذاء الرسل السابقين، وما يُقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، فلسْتَ بدعاً في الرسل.
والذي قيل للرُّسُل من قبلك: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173] وأنت يا محمد واحد منهم، فأبشر بنصر الله لك ولجندك ولمن تابعك.
ويصح أيضاً أنْ يكون المعنى {مَّا يُقَالُ لَكَ} [فصلت: 43] أي: من أعدائك والمعاندين لك {إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} [فصلت: 43] أي: من أعدائهم والمعاندين لهم. يعني: لا تحزن فهذه سنة الله في أهل الدعوات وحَمَلة الرسالات، وأنت واحد منهم فلا تُتعِبْ نفسك، ولا تُحمِّل نفسك في سبيل دعوتك ما لا تطيق.
{فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77].
ذلك لأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذاق حلاوة الإيمان بالله أحبه الناس جميعاً، وكانت عنده غيرة على ربه، يريد أن يسلم الناسُ جميعاً لا يفلت منهم أحد، ولا يشذ منهم عن الإيمان بالله أحد، لذلك كان يجهد نفسه وكثيراً ما عاتبه ربه على ذلك عتاب المحبِّ لحبيبه {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف: 6].
وبيَّن له صلى الله عليه وسلم {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [العنكبوت: 18].
وكثيراً ما نرى القرآن الكريم يقصُّ على سيدنا رسول الله قصص الأنبياء السابقين تسليةً لرسول الله وتخفيفاً عنه،... وقوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} تأمل هذا الكلام الذي يسميه العلماء ترغيب وترهيب، فالحق سبحانه وتعالى يراعي أحوال هؤلاء المعاندين لرسوله صلى الله عليه وسلم، ويخاطبهم بما يناسب كلَّ الاحتمالات، فمَنْ عاد منهم إلى الحق وإلى الصراط المستقيم فبابُ التوبة مفتوح والله غفور رحيم، ومَنْ أصرَّ وتمادى في عناده فالله ذو عقاب أليم.
وتلحظ هنا أن المغفرة سبقت العقاب، بل إن الحق سبحانه يَعِد مَنْ يؤمن ويَحسُنُ إيمانه أنْ يُكفِّر عنه ذنوبه، وأن يزيده بأنْ يُبدِّل سيئاته حسناتٍ تفضّلاً منه وكرماً، وكأن الحق سبحانه يُؤنس عباده ويُحنِّنهم إليه، وهو الغني عنهم.
وتاريخ الإسلام حافلٌ بهؤلاء الذين صادموا الإسلام ودعوته وعاندوا رسول الله والمؤمنين معه، وكانوا ألدَّ الأعداء، ثم صاروا بعد ذلك حملة لوائه، وقدَّموا نفوسهم رخيصة في سبيله ولو أغلق الباب في وجوههم ما دخلوا في دين الله، وأنتم تعرفون قصة إسلام عمر وحمزة وعكرمة بن أبي جهل وخالد وعمرو وغيرهم ممَّنْ كانوا صناديد في الكفر.
حتى أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين أخذوا دين الله على أنه دينٌ لا سلطة زمنية أنصفهم القرآن، فقال فيهم: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} [آل عمران: 75].
وبعد ذلك يأتي القرآن ويحكم على أُنَاس أنهم لن يؤمنوا ولن يهتدوا، وهم في سَعَة الدنيا وفي وقت الاختيار، مَنْ شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ومع ذلك ظلُّوا على كفرهم ولم يؤمنوا حتى نفاقاً، ولو رغبةً منهم في تكذيب القرآن لم يحدث...
فالله تعالى {لَذُو مَغْفِرَةٍ} لكل كافر ولكُل مُكذِّب ولكل معاند، رجع إلى الجادة وتاب وأناب {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} لمن أصرَّ على كفره وتمادى في عناده ومصادمته لدعوة الحق.
ولا يخفى أن الجمع بين المعنى وضده في موضع واحد سِمةٌ من سمات الأسلوب القرآني، لأن الضدَّ يُظهره الضد، وبضدِّها تتميَّز الأشياء، وربك يخبرك ويترك لك أنْ تختار لنفسك دواعي المغفرة أو دواعي العقاب.