قوله تعالى : { قال اخسؤوا } أبعدوا ، { فيها } كما يقال للكلب إذا طرد : اخسأ ، { ولا تكلمون } في رفع العذاب ، فإني لا أرفعه عنكم ، فعند ذلك أيس المساكين من الفرج ، قال الحسن : هو آخر كلام يتكلم به أهل النار ثم لا يتكلمون بعدها إلا الشهيق والزفير ، ويصير لهم عواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون .
روي عن عبد الله بن عمرو : " أن أهل جهنم يدعون مالكاً خازن النار أربعين يوما : يا مالك ليقض علينا ربك ، فلا يجيبهم ، ثم يقول : إنكم ماكثون ، ثم ينادون ربهم : ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيدعهم مثل عمر الدنيا مرتين ثم يرد عليهم : { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } فلا ينبس القوم بعد ذلك بكلمة إن كان إلا الزفير والشهيق " . وقال القرطبي : إذا قيل لهم : { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } انقطع رجاؤهم ، وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض ، وأطبقت عليهم .
ولم يبق الله لهم حجة ، بل قطع أعذارهم ، وعمرهم في الدنيا ، ما يتذكر فيه [ من ] المتذكر ، ويرتدع فيه المجرم ، فقال الله جوابا لسؤالهم :قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ, وهذا القول - نسأله تعالى العافية- أعظم قول على الإطلاق يسمعه المجرمون في التخييب ، والتوبيخ ، والذل ، والخسار ، والتأييس من كل خير ، والبشرى بكل شر ، وهذا الكلام والغضب من الرب الرحيم ، أشد عليهم وأبلغ في نكايتهم من عذاب الجحيم ،
وهو اعتراف تتجلى فيه المرارة والشقوة . . ولكن كأنما هم قد تجاوزوا حدهم وأساءوا أدبهم ، فلم يكن مأذونا لهم في غير الإجابة على قدر السؤال . بل لعله كان سؤالا للتبكيت لا يطلب عليه منهم جواب . فهم يزجرون زجرا عنيفا قاسيا :
قال : اخسأوا فيها ولا تكلمون . .
اخرسوا واسكتوا سكوت الأذلاء المهنين ، فإنكم لتستحقون ما أنتم فيه من العذاب الأليم والشقاء المهين :
هذا جواب من الله تعالى للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى هذه الدار{[20695]} ، يقول : { اخْسَئُوا فِيهَا } أي : امكثوا فيها صاغرين مُهانين أذلاء . { وَلا تُكَلِّمُونِ } أي : لا تعودوا إلى سؤالكم هذا ، فإنه لا جواب لكم عندي .
قال العَوْفِي ، عن ابن عباس : { اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } قال : هذا قول الرحمن حين انقطع كلامهم منه .
{ قال اخسئوا فيها } اسكتوا سكوت هوان في النار فإنهما ليست مقام سؤال من خسأت الكلب إذا زجرته فخسأ . { ولا تكلمون } في رفع العذاب أو لا تكلمون رأسا . قيل إن أهل النار يقولون ألف سنة : { ربنا أبصرنا وسمعنا } ، فيجابون { حق القول مني } فيقولون ألفا { ربنا أمتنا اثنتين } ، فيجابون { إنكم ماكثون } ، فيقولون ألفا { ربنا أخرنا إلى أجل قريب } ، فيجابون { أو لم تكونوا أقسمتم من قبل } ، فيقولون ألفا { ربنا أخرجنا نعمل صالحا } ، فيجابون { أو لم نعمركم } فيقولون ألفا { رب ارجعون } ، فيجابون { اخسئوا فيها } ثم لا يكون لهم فيها إلا زفير وشهيق وعواء .
ثم تدرجوا من الإقرار إلى الرغبة والتضرع وذلك أنهم ذلوا لأن الإقرار بالذنب اعتذار وتنصل ، فوقع جواب رغبتهم بحسب ما حتمه الله من عذابهم بقوله تعالى : { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } وجاء { ولا تكلمون } بلفظ نهي وهم لا يستطيعون الكلام على ما روي فهذا مبالغة في المنع ، ويقال إن هذه الكلمة إذا سمعوها يئسوا ، وحكى الطبري حديثاً طويلاً في مقاولة تكون بين الكفار وبين مالك خازن النار ، ثم بينهم وبين ربهم وآخرها هذه الكلمة { اخسؤوا فيها } قال فتنطبق عليهم جهنم ويقع اليأس ويبقون ينبح بعضهم في وجه بعض{[8551]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : واختصرت هذا الحديث لعدم صحته لكن معناه صحيح عافانا الله من ناره بمنه ، وقوله { اخسؤوا } زجر يستعمل في زجر الكلاب ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد اخسأ فلن تعدو قدرك{[8552]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال اخسئوا فيها} يقول: اصغروا في النار {ولا تكلمون} فلا يتكلم أهل النار بعدها أبدا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"قالَ اخْسَئُوا فِيها" يقول تعالى ذكره: قال الربّ لهم جلّ ثناؤه مجيبا: "اخْسَئُوا فِيها" أي اقعدوا في النار...
"وَلا تُكَلّمُونِ" فعند ذلك أيس المساكين من الفرج ولقد كانوا طامعين فيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قال اخسئوا فيها ولا تكلمون} قال بعضهم: قوله: {اخسئوا} أي اسكنوا، وقال بعضهم: {اخسئوا فيها} أي ابعدوا فيها. قال أبو عوسجة: يقال: خسأت فلانا، وأخسأته، أي باعدته، فخسئ، أي تباعد.
وقوله تعالى: {ولا تكلمون} يحتمل وجهين:
أحدهما: جائز أن يكون هذا السؤال منهم في أول ما أدخلوا، فقال لهم: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} فإنكم ماكثون.
والثاني: جائز أن يكون هذا السؤال منهم بعدما سألوا الملك الموت مرة بقوله: {ونادوا يا مالك} (الزخرف: 77) وسألوا مرة تخفيف العذاب بقوله: {ادعوا ربكم يخفف عنا يوما العذاب} (غافر: 49) فلما أيسوا منه، فعند ذلك يسألون ربهم إخراجهم منها والإعادة إلى المحنة، فقال: {اخسئوا فيها} أي ابعدوا فيها {ولا تكلمون} أي تصيرون بحال، لا تقدرون على الكلام لشدة العذاب، فعند ذلك يكون منهم الشهيق والزفير.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"ولا تكلمون" قيل في معناه قولان: أحدهما: أن ذلك على وجه الغضب اللازم لهم، فذكر ذلك ليدل على هذا المعنى، لأن من لا يكلم إهانة له وغضبا، فقد بلغ به الغاية في الإذلال. والثاني -ولا تكلمون في رفع العذاب عنكم، فإني لا أرفعه عنكم، ولا أفتره.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{اخسئوا فِيهَا} ذلوا فيها وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا زجرت...
{وَلاَ تُكَلّمُونِ} في رفع العذاب، فإنه لا يرفع ولا يخفف.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذا القول -نسأله تعالى العافية- أعظم قول على الإطلاق يسمعه المجرمون في التخييب والتوبيخ والذل والخسار والتأييس من كل خير، والبشرى بكل شر، وهذا الكلام والغضب من الرب الرحيم، أشد عليهم وأبلغ في نكايتهم من عذاب الجحيم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ولا تكلمون}، ياء المتكلم محذوفة والمعنى "لا تكلموني"، وذلك لأن كلام الله تعالى منزلة من الرضا لا يصل إليها إلا الأبرار المتقون الذين يكلمهم الله وينظر إليهم ويزكيهم، أما هؤلاء فهم مطرودون من رحمته محرومون من رضاه، وذلك رد عنيف لطلبهم أن يخرجوا كأنهم يخدعون ربهم، وحالهم في الدنيا كاشف، وقد كانوا يتضرعون في الشديدة فإذا عادوا كأن لم يتضرعوا من قبل.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنه الزجر الإلهي الغاضب الذي يعبِّر عن اشتداد سخط الله عليهم، فلا مجال لأي كلام بعد أن أقام عليهم الحجة، وأعطاهم كل الفرص التي لا تترك مجالاً لأي عذر.