ثم التهديد السافر بجند الله ، والمتآمرون في نهاية الحياة :
( فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ) !
وهو مشهد مفزع مهين . وهم يحتضرون . ولا حول لهم ولا قوة . وهم في نهاية حياتهم على هذه الأرض . وفي مستهل حياتهم الأخرى . هذه الحياة التي تفتتح بضرب الوجوه والأدبار . في لحظة الوفاة ، لحظة الضيق والكرب والمخافة . الأدبار التي ارتدوا عليها من بعد ما تبين لهم الهدى ! فيا لها من مأساة !
ثم قال : { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } أي : كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعصت الأرواح في أجسادهم ، واستخرجتها الملائكة بالعنف والقهر والضرب ، كما قال : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } الآية [ الأنفال : 50 ] ، وقال : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ } أي : بالضرب { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [ الأنعام : 93 ] ؛ ولهذا قال ها هنا : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }
وقوله تعالى : { فكيف إذا توفتهم } الآية ، يحتمل أن يتوعدوا به على معنيين : أحدهما هذا هلعهم وجزعهم لفرض القتال وقراع الأعداء ، { فكيف } فزعهم وجزعهم { إذا توفتهم الملائكة } ؟ والثاني أن يريد : هذه معاصيهم وعنادهم وكفرهم ، { فكيف } تكون حالهم مع الله { إذا توفتهم الملائكة } ؟ وقال الطبري : المعنى { والله يعلم أسرارهم فكيف } علمه بها { إذا توفتهم الملائكة } . و { الملائكة } هنا : ملك الموت والمصرفون معه . والضمير في : { يضربون } ل { الملائكة } ، وفي نحو هذا أحاديث تقتضي صفة الحال ومن قال إن الضمير في : { يضربون } للكفار الذين يتوفون ، فذلك ضعيف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والله يعلم إسرار هؤلاء المنافقين، فكيف لا يعلم حالهم إذا توفتهم الملائكة، وهم يضربون وجوههم وأدبارهم، يقول: فحالهم أيضا لا يخفى عليه في ذلك الوقت ويعني بالأدبار: الأعجاز، وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى قبل.
اعلم أنه لما قال الله تعالى: {والله يعلم إسرارهم} قال فهب أنهم يسرون والله لا يظهره اليوم فكيف يبقى مخفيا وقت وفاتهم، أو نقول كأنه تعالى قال: {والله يعلم إسرارهم} وهب أنهم يختارون القتال لما فيه الضراب والطعان، مع أنه مفيد على الوجهين جميعا، إن غلبوا فالمال في الحال والثواب في المآل، وإن غلبوا فالشهادة والسعادة، فكيف حالهم إذا ضرب وجوههم وأدبارهم، وعلى هذا فيه لطيفة، وهي أن القتال في الحال إن أقدم المبارزة فربما يهزم الخصم ويسلم وجهه وقفاه، وإن لم يهزمه فالضرب على وجهه إن صبر وثبت وإن لم يثبت وانهزم، فإن فات القرن فقد سلم وجهه وقفاه وإن لم يفته فالضرب على قفاه لا غير، ويوم الوفاة لا نصرة له ولا مفر، فوجهه وظهره مضروب مطعون، فكيف يحترز عن الأذى ويختار العذاب الأكبر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فكيف} أي حالهم {إذا توفتهم الملائكة} أي قبضت رسلنا وهم ملك الموت وأعوانه أرواحهم كاملة، فجازتها إلى دار الجزاء مقطوعة عن جميع أسبابهم وأنسابهم- فلم ينفعهم تقاعدهم عن الجهاد في تأخير آجالهم، وصور حالهم وقت توفيهم فقال: {يضربون} أي يتابعون في حال التوفية ضربهم {وجوههم} التي هي أشرف جوارحهم التي جبنوا عن الحرب صيانة لها- عن ضرب الكفار. ولما كان حالهم في جبنهم مقتضياً لضرب الأقفاء، صوره بأشنع صوره فقال: {وأدبارهم} التي ضربها أدل ما يكون على هوان المضروب وسفالته ثم تتصل بعد ذلك آلامهم وعذابه وهوانهم إلى ما لا آخر له...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهو مشهد مفزع مهين. وهم يحتضرون. ولا حول لهم ولا قوة. وهم في نهاية حياتهم على هذه الأرض. وفي مستهل حياتهم الأخرى. هذه الحياة التي تفتتح بضرب الوجوه والأدبار. في لحظة الوفاة، لحظة الضيق والكرب والمخافة...
الأدبار التي ارتدوا عليها من بعد ما تبين لهم الهدى! فيا لها من مأساة!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إذا كانوا فروا من القتال هلعاً وخوفاً فكيف إذا توفتهم الملائكة، أي كيف هلعهم ووجلهم الذي ارتدوا بهما عن القتال. وهذا يقتضي شيئين: أولهما أنهم ميّتون لا محالة، وثانيهما أن موتتهم يصحبها تعذيب...
والمقصود: وعيدهم بأنهم سيعجل لهم العذاب من أول منازل الآخرة وهو حالة الموت. ولما جعل هذا العذاب محققاً وقوعُه رتب عليه الاستفهام عن حالهم استفهاماً مستعملاً في معنى تعجيب المخاطب من حالهم عند الوفاة، وهذا التعجيب مؤذن بأنها حالة فظيعة غير معتادة إذ لا يتعجب إلاّ من أمْر غير معهود، والسياق يدل على الفظاعة...
والتقدير: كيف يصنعون ويحتالون...
وجملة {يضربون وجوههم وأدبارهم}...
أي يضربون وجوههم التي وَقَوْهَا من ضرب السيف حين فرُّوا من الجهاد فإن الوجوه مما يقصد بالضرب بالسيوف عند القتال... ويضربون أدبارهم التي كانت محل الضرب لو قاتلوا، وهذا تعريض بأنهم لو قاتلوا لفرُّوا فلا يقع الضرب إلا في أدبارهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
نعم، إنّ هؤلاء الملائكة مأمورون أن يذيقوا هؤلاء العذاب وهم على أعتاب الموت ليذوقوا وبال الكفر والنفاق والعناد، وهم يضربون وجوههم لأنّها اتجهت نحو أعداء الله، ويضربون أدبارهم لأنّهم أدبروا عن آيات الله ونبيّه...