{ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } للرسل ومنزلين للكتب والرسل تبلغ أوامر المرسل وتخبر بأقداره ، { رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } أي : إن إرسال الرسل وإنزال الكتب التي أفضلها القرآن رحمة من رب العباد بالعباد ، فما رحم الله عباده برحمة أجل من هدايتهم بالكتب والرسل ، وكل خير ينالونه في الدنيا والآخرة فإنه من أجل ذلك وسببه ، { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : يسمع جميع الأصوات ويعلم جميع الأمور الظاهرة والباطنة وقد علم تعالى ضرورة العباد إلى رسله وكتبه فرحمهم بذلك ومن عليهم فله تعالى الحمد والمنة والإحسان .
وكان ذلك كله رحمة من الله بالبشر إلى يوم الدين :
( رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ) . .
وما تتجلى رحمة الله بالبشر كما تتجلى في تنزيل هذا القرآن ، بهذا اليسر ، الذي يجعله سريع اللصوق بالقلب ، ويجعل الاستجابة له تتم كما تتم دورة الدم في العروق . وتحول الكائن البشري إلى إنسان كريم ، والمجتمع البشري إلى حلم جميل ، لولا أنه واقع تراه العيون !
إن هذه العقيدة - التي جاء بها القرآن - في تكاملها وتناسقها - جميلة في ذاتها جمالاً يحبّ ويعشق ؛ وتتعلق به القلوب ! فليس الأمر فيها أمر الكمال والدقة وأمر الخير والصلاح . فإن هذه السمات فيها تظل ترتفع وترتفع حتى يبلغ الكمال فيها مرتبة الجمال الحبيب الطليق . الجمال الذي يتناول الجزئيات كلها بأدق تفصيلاتها ، ثم يجمعها ، وينسقها ، ويربطها كلها بالأصل الكبير .
( رحمة من ربك )نزل بها هذا القرآن في الليلة المباركة . . ( إنه هو السميع العليم ) . يسمع ويعلم ، وينزل ما ينزل للناس على علم وعلى معرفة بما يقولون وما يعملون ، وما يصلح لهم ويصلحون به من السنن والشرائع والتوجيه السليم .
{ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا } أي : جميع ما يكون ويقدره الله تعالى وما يوحيه{[26167]} فبأمره وإذنه وعلمه ، { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } أي : إلى الناس رسولا يتلو عليهم آيات الله مبينات ، فإن الحاجة كانت ماسة إليه ؛ ولهذا قال : { رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا }
وقوله : أمْرا مِنْ عِنْدِنا إنّا كُنّا مُرْسِلِينَ يقول تعالى ذكره : في هذه الليلة المباركة يُفْرق كلّ أمر حكيم ، أمرا من عندنا .
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله : أمْرا فقال بعض نحويي الكوفة : نصب على إنا أنزلناه أمرا ورحمة على الحال . وقال بعض نحويي البصرة : نصب على معنى يفرق كل أمر فرقا وأمرا . قال : وكذلك قوله : رَحْمَةً مِنْ رَبّكَ قال : ويجوز أن تنصب الرحمة بوقوع مرسلين عليها ، فجعل الرحمة للنبيّ صلى الله عليه وسلم .
وقوله : إنّا كُنّا مُرْسِلِينَ يقول تعالى ذكره : إنا كنا مرسلي رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى عبادنا رحمة من ربك يا محمد إنّهُ هُوَ السّمِيعُ العَلِيمُ يقول : إن الله تبارك وتعالى هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون فيما أنزلنا من كتابنا ، وأرسلنا من رسلنا إليهم ، وغير ذلك من منطقهم ومنطق غيرهم ، العليم بما تنطوي عليه ضمائرهم ، وغير ذلك من أمورهم وأمور غيرهم .
و{ رحمة من ربّك } مفعول له من { إنَّا كنّا مرسلين } أي كنّا مرسلين لأجل رحمتنا ، أي بالعباد المرسل إليهم لأن الإرسال بالإنذار رحمة بالناس لِيتَجنَبوا مهاوي العذاب ويكتسبوا مكاسب الثواب ، قال تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] . ويجوز أن يكون { رحمة } حالاً من الضمير المنصوب في { أنزلناه } .
وإيراد لفظ الربّ في قوله : { من ربك } إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقول : رحمة منا . وفائدة هذا الإظهار الإشعار بأن معنى الربوبية يستدعي الرحمة بِالمَرْبُوبينَ ثم إضافة ( ربّ ) إلى ضمير الرّسول صلى الله عليه وسلم صرف للكلام عن مواجهة المشركين إلى مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب لأنه الذي جرى خطابهم هذا بواسطته فهو كحاضر معهم عند توجيه الخطاب إليهم فيصرف وجه الكلام تارة إليه كما في قوله : { يوسف أعْرِض عن هذا واستغفري لذنبكِ } [ يوسف : 29 ] وهذا لقصد التنويه بشأنه بعد التنويه بشأن الكتاب الذي جاء به .
وإضافة الربّ إلى ضمير الرّسول صلى الله عليه وسلم ليتوصل إلى حظ له في خلال هذه التشريعات بأن ذلك كله من ربّه ، أي بواسطته فإنه إذا كان الإرسال رحمة كان الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة قال تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] ، ويعلم من كونه ربّ الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رب الناس كلهم إذ لا يكون الرّب رب بعض الناس دون بعض فأغنى عن أن يقول : رحمة من ربّك وربهم ، لأن غرض إضافة رب إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم يأبى ذلك ، ثم سيصرح بأنه ربّهم في قوله { ربّكم ورب آبائكم الأولين } [ الدخان : 8 ] وهو مقام آخر سيأتي بيانه .
وجملة { إنه هو السميع العليم } تعليل لجملة { إنا كنّا مرسلين رحمة من ربّك } أي كنا مرسلين رحمة بالناس لأنه عَلم عبادة المشركين للأصنام وعلم إغواء أيمة الكفر للأمم وعلم ضجيج الناس من ظلم قويّهم ضعيفَهم وعلم ما سوى ذلك من أقوالهم فأرسل الرُسل لتقويمهم وإصلاحهم وعَلم أيضاً نوايا الناس وأفعالهم وإفسادهم في الأرض فأرسل الرّسل بالشرائع لكف الناس عن الفساد وإصلاح عقائدهم وأعمالهم ، فأشير إلى علم النوع الأول بوصف { السميع } لأن السميع هو الذي يعلم الأقوال فلا يخفى عليه منها شيء . وأشير إلى علم النّوع الثاني بوصف { العليم } الشامل لجميع المعلومات . وقدم { السميع } للاهتمام بالمسموعات لأنّ أصل الكفر هو دعاء المشركين أصنامهم .
واعلم أن السميع والعليم تعليلان لجملة { إنا كنا مرسلين } بطريق الكناية الرمزية لأن علة الإرسال في الحقيقة هي إرادة الصلاح ورحمة الخلق . وأما العلم فهو الصفة التي تجري الإرادة على وفقه ، فالتعليل بصفة العلم بناء على مقدمة أخرى وهي أن الله تعالى حكيم لا يحب الفساد ، فإذا كان لا يحب ذلك وكان عليماً بتصرفات الخلق كان علمه وحكمته مقتضيين أن يرسل للناس رسلاً رحمةً بهم . وضمير الفصل أفاد الحصر ، أي هو السميع العليم لا أصنامكم التي تدعونها . وفي هذا إيماء إلى الحاجة إلى إرسال الرّسول إليهم بإبطال عبادة الأصنام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
أنزلناه {رحمة من ربك} لمن آمن به.
{إنه هو السميع} لقولهم، {العليم} به...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"إنّهُ هُوَ السّمِيعُ العَلِيمُ": إن الله تبارك وتعالى هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون فيما أنزلنا من كتابنا، وأرسلنا من رسلنا إليهم، وغير ذلك من منطقهم ومنطق غيرهم.
العليم بما تنطوي عليه ضمائرهم، وغير ذلك من أمورهم وأمور غيرهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{رحمة من ربك} يحتمل قوله: {رحمة} أي ما أنزل من الكتاب هو رحمة من ربك.
ويحتمل ليلة القدر، أي جعلها رحمة منه.
ويحتمل ما ذكر من أمر حكيم هو رحمة منه.
ويحتمل أي الرسول المبعوث إليهم رحمة منه لهم، وهو كقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107].
{إنه هو السميع العليم} يحتمل {السميع} المجيب لمن دعا {العليم} بما يرجع إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{رَحْمَةً من ربِّكَ}: رأفته بهداية من آمن به.
{إنه هو السميع العليم} يعني أن تلك الرحمة كانت رحمة في الحقيقة؛ لأن المحتاجين، إما أن يذكروا بألسنتهم حاجاتهم، وإما أن لا يذكروها فإن ذكروها فهو تعالى يسمع كلامهم فيعرف حاجاتهم، وإن لم يذكروها فهو تعالى عالم بها فثبت أن كونه سميعا عليما يقتضي أن ينزل رحمته عليهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
بين سبحانه حال الرسالات بقوله: {رحمة} وعدل لأجل ما اقتضاه التعبير بالرحمة عما كان من أسلوب التكلم بالعظمة من قوله "منا "إلى قوله: {من ربك} أي المحسن إليك بإرسالك وإرسال كل نبي مضى من قبلك، فإن رسالاتهم كانت لبث الأنوار في العباد، وتمهيد الشرائع في العباد، حتى استنارت القلوب، واطمأنت النفوس، بما صارت تعهد من شرع الشرائع وتوطئة الأديان، فتسهلت طرق الرب لتعميم رسالتك حتى ملأت أنوارك الآفاق، فكنت نتيجة كل من تقدمك من الرفاق.
ولما كانت الرسالة لا بد فيها من السمع والعلم قال: {إنه هو} أي وحده {السميع} أي فهو الحي المريد {العليم} فهو القدير البصير المتكلم، يسمع ما يقوله رسله وما يقال لهم، وكل ما يمكن أن يسمع وإن كان بحيث لا يسمعه غيره من الكلام النفسي، وغيره الذي هو بالنسبة إلى سمعنا كنسبة ما تسمعه من الكلام إلى سمع الأصم وسمعه ليس كأسماعنا، بل هو متعلق بالمسموعات على ما هي عليه قبل وجودها، كما أن علمه متعلق بالمعلومات كما هي قبل كونها.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{رحْمةً مِن ربك} مقتضى الظاهر رحمه منَّا، لكن جيء بلفظ رب تشريفا له صلى الله عليه وسلم بإضافته إليه، مع أنه رب كل أحد...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ما تتجلى رحمة الله بالبشر كما تتجلى في تنزيل هذا القرآن بهذا اليسر، الذي يجعله سريع اللصوق بالقلب، ويجعل الاستجابة له تتم كما تتم دورة الدم في العروق. وتحول الكائن البشري إلى إنسان كريم، والمجتمع البشري إلى حلم جميل، لولا أنه واقع تراه العيون! إن هذه العقيدة -التي جاء بها القرآن- في تكاملها وتناسقها -جميلة في ذاتها جمالاً يحبّ ويعشق؛ وتتعلق به القلوب! فليس الأمر فيها أمر الكمال والدقة وأمر الخير والصلاح. فإن هذه السمات فيها تظل ترتفع وترتفع حتى يبلغ الكمال فيها مرتبة الجمال الحبيب الطليق. الجمال الذي يتناول الجزئيات كلها بأدق تفصيلاتها، ثم يجمعها، وينسقها، ويربطها كلها بالأصل الكبير. (رحمة من ربك) نزل بها هذا القرآن في الليلة المباركة.. (إنه هو السميع العليم). يسمع ويعلم وينزل ما ينزل للناس على علم وعلى معرفة بما يقولون وما يعملون، وما يصلح لهم ويصلحون به من السنن والشرائع والتوجيه السليم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {رحمة من ربّك} مفعول له من {إنَّا كنّا مرسلين} أي كنّا مرسلين لأجل رحمتنا، أي بالعباد المرسل إليهم لأن الإرسال بالإنذار رحمة بالناس لِيتَجنَبوا مهاوي العذاب ويكتسبوا مكاسب الثواب، قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين} [الأنبياء: 107]. ويجوز أن يكون {رحمة} حالاً من الضمير المنصوب في {أنزلناه}.
إضافة الربّ إلى ضمير الرّسول صلى الله عليه وسلم ليتوصل إلى حظ له في خلال هذه التشريعات بأن ذلك كله من ربّه، أي بواسطته فإنه إذا كان الإرسال رحمة كان الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107]، ويعلم من كونه ربّ الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رب الناس كلهم إذ لا يكون الرّب رب بعض الناس دون بعض فأغنى عن أن يقول: رحمة من ربّك وربهم، لأن غرض إضافة رب إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم يأبى ذلك، ثم سيصرح بأنه ربّهم في قوله {ربّكم ورب آبائكم الأولين} [الدخان: 8] وهو مقام آخر سيأتي بيانه.
وجملة {إنه هو السميع العليم} تعليل لجملة {إنا كنّا مرسلين رحمة من ربّك} أي كنا مرسلين رحمة بالناس لأنه عَلم عبادة المشركين للأصنام وعلم إغواء أيمة الكفر للأمم وعلم ضجيج الناس من ظلم قويّهم ضعيفَهم وعلم ما سوى ذلك من أقوالهم فأرسل الرُسل لتقويمهم وإصلاحهم وعَلم أيضاً نوايا الناس وأفعالهم وإفسادهم في الأرض فأرسل الرّسل بالشرائع لكف الناس عن الفساد وإصلاح عقائدهم وأعمالهم، فأشير إلى علم النوع الأول بوصف {السميع} لأن السميع هو الذي يعلم الأقوال فلا يخفى عليه منها شيء. وأشير إلى علم النّوع الثاني بوصف {العليم} الشامل لجميع المعلومات. وقدم {السميع} للاهتمام بالمسموعات لأنّ أصل الكفر هو دعاء المشركين أصنامهم.
واعلم أن السميع والعليم تعليلان لجملة {إنا كنا مرسلين} بطريق الكناية الرمزية لأن علة الإرسال في الحقيقة هي إرادة الصلاح ورحمة الخلق. وأما العلم فهو الصفة التي تجري الإرادة على وفقه، فالتعليل بصفة العلم بناء على مقدمة أخرى وهي أن الله تعالى حكيم لا يحب الفساد، فإذا كان لا يحب ذلك وكان عليماً بتصرفات الخلق كان علمه وحكمته مقتضيين أن يرسل للناس رسلاً رحمةً بهم. وضمير الفصل أفاد الحصر، أي هو السميع العليم لا أصنامكم التي تدعونها. وفي هذا إيماء إلى الحاجة إلى إرسال الرّسول إليهم بإبطال عبادة الأصنام.
وفي وصف {السميع العليم} تعريض بالتهديد.
أي: أن الإرسال رحمة من الله بالعباد، لأنه أمر لنا أنا وأنت من أعلى منا، لا نجد غضاضة في ذلك، فلا أحدَّ منَّا يتعالى على الآخر، لأننا نتلقى أوامرنا من الله...
إذن: تستقيم بنا الحياةُ حين نسير على المنهج، لذلك سماه (الصراط المستقيم) وسماه (سواء السبيل) يعني: في الوسط لا يميل هنا ولا هنا، لأنه يريد أنْ يُوفر عليك المجهود ويوفر الوقت، كل هذا ثمرة المنهج والسير على الصراط المستقيم.
وهذه رحمة من الله بنا، نعم رحمة بنا ألاَّ يتركنا للتجربة يموج بعضُنا في بعض حتى نصلَ إلى الصواب وإلى الحق وإلى الصراط المستقيم، من رحمته بنا ألاَّ يتركنا نتعاند ونتصادم بعضُنا ببعض، بل جعل لنا قوانين، وجعل لنا منهجاً نسير عليه من بداية الطريق.
وفرْق بين أمر يُلجئك إلى أنْ تُعدِّل مسارك وبين أمر معتدل من البداية، من رحمة الله بنا أنْ يجعلنا نسير في اتجاه واحد بحيث تكون كُلُّ الحركات في اتجاه البناء، وكل المجهودات إلى غاية واحدة، يتعاون فيها كل الأفراد، ويتساند فيها كل الأفراد.
وإلاَّ لو كانتْ الحركاتُ متصادمة فهي تهدم وتدمر، وما فائدة أنْ تبني وغيرُك يهدم... وتأمل لفظ القرآن {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} [الدخان: 6] ولم يقُلْ رحمة من الله، لأن الربّ هَو مُتولِّي التربية والرعاية، وسبق أنْ قلنا إن الألوهية تكليف والربوبية عطاء، فهذه الرحمة رحمة الرب الراعي الرحيم كالأم تربي طفلها الصغير وتحنو عليه وتُقوِّيه.
وما دام هو سبحانه ربكم ومُربِّيكم وخالقكم كان يجب عليكم أنْ تطيعوه وألاَّ تخرجوا عن منهجه {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} السميع لكل آلام الناس وشكاواهم إنْ جهروا بها، وهو (العليم) بأحوالهم وما يختلج في صدورهم إنْ كتموها في أنفسهم، وإنْ كان الخطاب هنا بصيغة المفرد ومُوجهاً إلى سيدنا رسول الله.
{رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أي: يا محمد. وهذه عناية خاصة من الله برسوله وبيان لمنزلته صلى الله عليه وسلم من الله، فعيْنُ الله تحرسه، وعزيزٌ عليه أنْ يصيبه أذىً أو ألم من قومه، فهو أغلى البشر عنده، لذلك ربَّاه التربيةَ التي تجعله لا مهدياً في نفسه فحسب، إنما وهادياً للناس.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
نعم، فإن رحمته التي لا تُحدُّ توجب أن لا يترك العباد وشأنهم، بل يجب أن ترسل إليهم التعليمات اللازمة لترشدهم في سيرهم إلى الله عبر ذلك المسير التكاملي المليء بالالتواءات والتعرجات، فإن كل عالم الوجود يصدر عن رحمته الواسعة وينبع منها، والبشر أكثر تنعماً بهذه الرحمة من كل الموجودات. وتذكر نهاية هذه الآية والآيات التالية سبع صفات لله سبحانه، وكلها تبين توحيده ووحدانيته، فتقول: (إنّه هو السميع العليم) فهو يسمع طلبات العباد، وهو عليم بأسرار قلوبهم.