{ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ } بهذه الفتنة العظيمة { وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } بالخوف والقلق ، والجوع ، ليتبين إيمانهم ، ويزيد إيقانهم ، فظهر -وللّه الحمد- من إيمانهم ، وشدة يقينهم ، ما فاقوا فيه الأولين والآخرين .
وعندما اشتد الكرب ، وتفاقمت الشدائد ، صار إيمانهم عين اليقين ، { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا }
ثم تزيد سمات الموقف بروزا ، وتزيد خصائص الهول فيه وضوحا : ( هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ) . . والهول الذي يزلزل المؤمنين لا بد أن يكون هولا مروعا رعيبا .
قال محمد بن مسلمة وغيره : كان ليلنا بالخندق نهارا ؛ وكان المشركون يتناوبون بينهم ، فيغدو أبو سفيان ابن حرب في اصحابه يوما ، ويغدو خالد بن الوليد يوما ، ويغدو عمرو بن العاص يوما ، ويغدو هبيرة ابن أبي وهب يوما ، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما . ويغدو ضرار بن الخطاب يوما . حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفا شديدا .
ويصور حال المسلمين ما رواه المقريزي في إمتاع الأسماع . قال :
ثم وافى المشركون سحرا ، وعبأ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أصحابه فقاتلوا يومهم إلى هوي من الليل ، وما يقدر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولا أحد من المسلمين أن يزولوا من موضعهم . وما قدر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء " فجعل أصحابه يقولون : يا رسول الله ما صلينا ! فيقول . ولا أنا والله ما صليت ! حتى كشف الله المشركين ، ورجع كل من الفريقين إلى منزله ، وقام أسيد بن حضير في مائتين على شفير الخندق ، فكرت خيل للمشركين يطلبون غرة - وعليها خالد بن الوليد - فناوشهم ساعة ، فزرق وحشى الطفيل بن النعمان بن خنساء الأنصاري السلمي بمزراق ، فقتله كما قتل حمزة - رضي الله عنه - بأحد . وقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يومئذ : " شغلنا المشركون عن صلاة الوسطى صلاة العصر . ملأ الله أجوافهم وقلوبهم نارا " . .
وخرجت طليعتان للمسلمين ليلا فالتقتا - ولا يشعر بعضهم ببعض ، ولا يظنون إلا أنهم العدو . فكانت بينهم جراحة وقتل . ثم نادوا بشعار الإسلام ! ( حم . لا ينصرون )فكف بعضهم عن بعض . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " جراحكم في سبيل الله ومن قتل منكم فإنه شهيد " . .
ولقد كان أشد الكرب على المسلمين ، وهم محصورون بالمشركين داخل الخندق ، ذلك الذي كان يجيئهم من انتقاض بني قريظة عليهم من خلفهم . فلم يكونوا يأمنون في أية لحظة أن ينقض عليهم المشركون من الخندق ، وأن تميل عليهم يهود ، وهم قلة بين هذه الجموع ، التي جاءت بنية استئصالهم في معركة حاسمة أخيرة .
ذلك كله إلى ما كان من كيد المنافقين والمرجفين في المدينة وبين الصفوف :
وقوله : هُنالكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ يقول : عند ذلك اختبر إيمان المؤمنين ، ومحّص القوم وعرف المؤمن من المنافق . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله هُنالكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ قال : محصوا .
وقوله : وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدا يقول : وحرّكوا بالفتنة تحريكا شديدا ، وابتلوا وفتنوا .
وقوله تعالى : { هنالك } ظرف زمان ، والعامل فيه { ابتلي } ، ومن قال إن العامل فيه { وتظنون } فليس قوله بالقوي لأن البدأة ليست متمكنة ، و { ابتلي } معناه اختبر وامتحن الصابر منهم من الجازع ، { وزلزلوا } معناه حركوا بعنف ، وقرأ الجمهور «زِلزالاً » بكسر الزاي ، وقرأها «زلزالاً » بالفتح الجحدري ، وكذلك { زلزالها } في { إذا زلزلت }{[9469]} [ الزلزلة : 1 ] وهذا الفعل هو مضاعف زل أي زلزله غيره .
الإشارة ب { هُنَالك } إلى المكان الذي تضمنه قوله { جاءتكم جنود } [ الأحزاب : 9 ] وقوله { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم } . والأظهر أن تكون الإشارة إلى الزمان الذي دلت عليه { إذْ في قوله : وإذ زاغت الأبصار . } وكثيراً ما ينزّل أحد الظرفين منزلة الآخر ولهذا قال ابن عطية : { هنالك } : ظرف زمان والعامل فيه ابتلي اهـ . قلت : ومنه دخول ( لات ) على ( هَنّا ) في قول حجل بن نضلة :
خنت نَوارُ ولات هَنَّا حِنت *** وبدا الذي كانت نوار أجنت
فإن ( لات ) خاصة بنفي أسماء الزمان فكان ( هَنَّا ) إشارة إلى زمان منكر وهو لغة في ( هُنا ) . ويقولون : يومُ هُنَا ، أي يوم أول ، فيشيرون إلى زمن قريب ، وأصل ذلك مجاز توسع فيه وشاع .
والابتلاء : أصله الاختبار ، ويطلق كناية عن إصابة الشدة لأن اختبار حال الثبات والصبر لازم لها ، وسمى الله ما أصاب المؤمنين ابتلاء إشارة إلى أنه لم يزعزع إيمانهم .
والزلزال : اضطراب الأرض ، وهو مضاعف زَلّ تضعيفاً يفيد المبالغة ، وهو هنا استعارة لاختلال الحال اختلالاً شديداً بحيث تُخَيَّل مضطربة اضطراباً شديداً كاضطراب الأرض وهو أشدّ اضطراباً للحاقه أعظم جسم في هذا العالم . ويقال : زُلْزِلَ فلان ، مبنياً للمجهول تبعاً لقولهم : زُلزلت الأرض ، إذ لا يعرف فاعل هذا الفعل عُرفاً . وهذا هو غالب استعماله قال تعالى : { وزلزلوا حتى يقول الرسول الآية } [ البقرة : 214 ] .
والمراد بزلزلة المؤمنين شدة الانزعاج والذعر لأن أحزاب العدو تفوقُهم عَدداً وعُدة .