قوله تعالى :{ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } على الوفاء بما حملوا وأن يصدق بعضهم بعضاً ويبشر بعضهم ببعض . قال مقاتل : أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا الله ويدعوا إلى عبادة الله ويصدق بعضهم بعضاً وينصحوا لقومهم ، { ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } خص هؤلاء الخمسة بالذكر من بين النبيين لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولوا العزم من الرسل ، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر لما : أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد الحديثي ، أنبأنا عبد الله بن أحمد بن يعقوب المقرئ ، أنبأنا محمد بن محمد بن سليمان الساعدي ، أنبأنا هارون بن محمد بن بكار بن بلال ، أنبأنا أبي ، أنبأنا سعيد يعني : ابن بشير عن قتادة عن الحسن ، عن أبي هريرة قال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث " . قال قتادة : وذلك قول الله عز وجل : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح } فبدأ به صلى الله عليه وسلم قبلهم . { وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً } عهداً شديداً على الوفاء بما حملوا .
{ 7 - 8 } { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا }
يخبر تعالى أنه أخذ من النبيين عمومًا ، ومن أولي العزم -وهم ، هؤلاء الخمسة المذكورون- خصوصًا ، ميثاقهم الغليظ وعهدهم الثقيل المؤكد ، على القيام بدين اللّه والجهاد في سبيله ، وأن هذا سبيل ، قد مشى الأنبياء المتقدمون ، حتى ختموا بسيدهم وأفضلهم ، محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وأمر الناس بالاقتداء بهم .
وبمناسبة ما سطر في كتاب الله ، وما سبقت به مشيئته ، ليكون هو الناموس الباقي ، والمنهج المطرد ، يشير إلى ميثاق الله مع النبيين عامة ، والنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأولي العزم من الرسل خاصة ، في حمل أمانة هذا المنهج ، والاستقامة عليه ، وتبليغه للناس ، والقيام عليه في الأمم التي أرسلوا إليها ؛ وذلك حتى يكون الناس مسؤولين عن هداهم وضلالهم وإيمانهم وكفرهم ، بعد انقطاع الحجة بتبليغ الرسل عليهم صلوات الله وسلامه :
( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ، ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ؛ وأخذنا منهم ميثاقا غليظا . ليسأل الصادقين عن صدقهم ، وأعد للكافرين عذابا أليما ) . .
إنه ميثاق واحد مطرد من لدن نوح - عليه السلام - إلى خاتم النبيين محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ميثاق واحد ، ومنهج واحد ، وأمانة واحدة يتسلمها كل منهم حتى يسلمها .
وقد عمم النص أولا : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ) . . ثم خصص صاحب القرآن الكريم وصاحب الدعوة العامة إلى العالمين : ( ومنك ) . . ثم عاد إلى أولي العزم من الرسل ، وهم أصحاب أكبر الرسالات -
وبعد بيان أصحاب الميثاق عاد إلى وصف الميثاق نفسه : ( وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) . . ووصف الميثاق بأنه غليظ منظور فيه إلى الأصل اللغوي للفظ ميثاق - وهو الحبل المفتول - الذي استعير للعهد والرابطة . وفيه من جانب آخر تجسيم للمعنوي يزيد إيحاءه للمشاعر . . وإنه لميثاق غليظ متين ذلك الميثاق بين الله والمختارين من عباده ، ليتلقوا وحيه ، ويبلغوا عنه ، ويقوموا على منهجه في أمانة واستقامة .
يقول تعالى مخبرا عن أولي العزم الخمسة ، وبقية الأنبياء : أنه أخذ عليهم العهد والميثاق في إقامة دين الله ، وإبلاغ رسالته ، والتعاون والتناصر والاتفاق ، كما قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } [ آل عمران : 81 ] فهذا العهد والميثاق أخذ عليهم بعد إرسالهم ، وكذلك هذا . ونص من بينهم على هؤلاء الخمسة ، وهم أولو العزم ، وهو من باب عطف الخاص على العام ، وقد صرَّح بذكرهم أيضا في هذه الآية ، وفي قوله : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى : 13 ] ، فذكر الطرفين والوسط ، الفاتح والخاتم ، ومن بينهما على [ هذا ]{[23228]} الترتيب . فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها ، كما قال : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ [ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ] }{[23229]} ، فبدأ في هذه الآية بالخاتم ؛ لشرفه - صلوات الله [ وسلامه ]{[23230]} عليه - ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله [ وسلامه ]{[23231]} عليهم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة الدمشقي ، حدثنا محمد بن بكار ، حدثنا سعيد بن بشير ، حدثني قتادة ، عن الحسن{[23232]} ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في قول الله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ } الآية : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث ، [ فَبُدئ بي ]{[23233]} قبلهم " {[23234]} سعيد بن بشير فيه ضعف .
وقد رواه سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة مرسلا وهو أشبه ، ورواه بعضهم عن قتادة موقوفا ، والله أعلم .
وقال أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا حمزة الزيات ، حدثنا علي بن ثابت ، عن أبي حازم{[23235]} ، عن أبى هريرة قال : خيار ولد آدم خمسة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد ، وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم أجمعين{[23236]} . موقوف ، وحمزة فيه ضعف{[23237]} .
وقد قيل : إن المراد بهذا الميثاق الذي أخذ منهم حين أخرجوا في صورة الذّر من صلب آدم ، كما قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب قال : ورفع أباهم آدم ، فنظر إليهم - يعني : ذريته - وأن فيهم الغني والفقير ، وحسن الصورة ، ودون ذلك ، فقال : رب ، لو سويتَ بين عبادك ؟ فقال : إني أحببت أن أشكر . وأرى فيهم الأنبياء مثل السرج ، عليهم كالنور ، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة ، فهو الذي يقول الله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوح [ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ] }{[23238]} الآية . وهذا قول مجاهد أيضا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقاً غَلِيظاً } .
يقول تعالى ذكره : كان ذلك في الكتاب مسطورا ، إذ كتبنا كلّ ما هو كائن في الكتاب وَإذْ أخَذْنا مِنَ النّبِيّينَ مِيثاقَهُمْ كان ذلك أيضا في الكتاب مسطورا ، ويعني بالميثاق : العهد ، وقد بيّنا ذلك بشواهده فيما مضى قبل . وَمِنْكَ يا محمد وَمِنْ نُوحِ وإبْرَاهِيم وَمُوسَى وَعِيسَى ابنِ مَرْيَمَ ، وأخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقا غَلِيظا يقول : وأخذنا من جميعهم عهدا مؤكدا أن يصدّق بعضهم بعضا . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذْ أخَذْنا مِنَ النّبِيّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ قال : وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «كُنْتُ أوّلَ الأَنْبِياءِ فِي الخَلْقِ ، وآخِرَهُمْ فِي البَعْثِ » ، وَإبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وأخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقا غَلِيظا ميثاق أخذه الله على النبيين ، خصوصا أن يصدّق بعضهم بعضا ، وأن يتبع بعضهم بعضا .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : كان قتادة إذا تلا هذه الاَية وَإذْ أخَذْنا مِنَ النّبِيّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ قال : كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في أوّل النبيين في الخلق .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله مِنَ النّبِيّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ قال : في ظهر آدم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وأخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقا غَلِيظا قال : الميثاق الغليظ : العهد .
{ إذ } يحتمل أن تكون ظرفاً لتسطير الأحكام المتقدمة في الكتاب ، كأنه قال كانت هذه الأحكام مسطرة ملقاة إلى الأنبياء إذ أخذنا عليهم الميثاق في التبليغ والشرائع ، فتكون { إذ } متعلقة بقوله { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } [ الأحزاب : 6 ] ، ويحتمل أن تكون في موضع نصب بإضمار فعل تقديره واذكر إذ ، وهذا التأويل أبين من الأول ، وهذا «الميثاق » المشار إليه قال الزجاج وغيره إنه الذي أخذ عليهم وقت استخراج البشر من صلب آدم كالذر ، قالوا فأخذ الله تعالى حينئذ ميثاق النبيين بالتبليغ وبتصديق بعضهم بعضاً وبجميع ما تتضمنه النبوءة ، وروي نحوه عن أبيّ بن كعب ، وقالت فرقة بل أشار إلى أخذ الميثاق على كل واحد منهم عند بعثه وإلى إلقاء الرسالة إليه وأوامرها ومعتقداتها ، وذكر الله تعالى { النبيين } جملة ، ثم خصص بالذكر أفراداً منهم تشريفاً وتخصيصاً ، إذ هؤلاء الخمسة صلى الله عليهم هم أصحاب الكتب والشرائع والحروب الفاصلة على التوحيد وأولو العزم ، ذكره الثعلبي ، وقدم ذكر محمد على مرتبته في الزمن تشريفاً خاصاً له أيضاً ، وروي عنه عليه السلام أنه قال : «كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث{[9463]} » .
وكرر «أخذ الميثاق » لمكان الصفة التي وصف بها قوله { غليظاً } إشعار بحرمة هذا الميثاق وقوتها .
عطف على قوله { يا أيها النبي اتق الله ولا تُطِع الكافرين والمنافقين } إلى قوله : { وكفى بالله وكيلاً } [ الأحزاب : 1 3 ] فلذلك تضمن الأمر بإقامة الدين على ما أراده الله تعالى وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى نبذ سنن الكافرين الصرحاء والمنافقين من أحكام الهوى والأوهام .
فلما ذكر ذلك وعقب بمثل ثلاثة من أحكام جاهليتهم الضالة بما طال من الكلام إلى هنا ثُني عنان الكلام إلى الإعلام بأن الذي أمره الله به هو من عهود أخذها الله على النبيئين والمرسلين من أول عهود الشرائع . وتربط هذا الكلام بالكلام الذي عطف هو عليه مناسبة قوله : { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } [ الأحزاب : 6 ] . وبهذا الارتباط بين الكلامين لم يُحتج إلى بيان الميثاق الذي أخذه الله تعالى على النبيئين ، فعُلم أن المعنى : وإذا أخذنا من النبيئين ميثاقهم بتقوى الله وبنبذ طاعة الكافرين والمنافقين وباتباع ما أوحى الله به . وقوله { إن الله كان عليماً حكيماً } [ الأحزاب : 1 ] { ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً } فلما أمر النبي بالاقتصار على تقوى الله وبالإعراض عن دعوى الكافرين والمنافقين ، أُعلم بأن ذلك شأن النبيئين من قبله ، ولذلك عطف قوله { ومنك } عقب ذكر النبيئين تنبيهاً على أن شأن الرسل واحد وأن سنة الله فيهم متحدة ، فهذه الآية لها معنى التذييل لآية { يأيها النبي اتق الله ولا تُطع الكافرين والمنافقين } [ الأحزاب : 1 ] الآيات الثلاث ولكنها جاءت معطوفة بالواو لبعد ما بينها وما بين الآيات الثلاث المتقدمة .
وقوله { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } الآيتين لهما موقع المقدمة لقصة الأحزاب لأن مما أخذ الله عليه ميثاق النبيئين أن ينصروا الدين الذي يرسله الله به ، وأن ينصروا دين الإسلام ، قال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لَمَا ءاتيناكم من كتاب وحكمةٍ ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لَتُؤْمِنُنَّ به ولتنصرُنّه } [ آل عمران : 81 ] فمحمد صلى الله عليه وسلم مأمور بالنصرة لدينه بمن معه من المسلمين لقوله في هذه الآية : { ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً } وقال في الآية الآتية في الثناء على المؤمنين الذين صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه { ليجزي الله الصادقين بِصدْقِهم ويعذِّب المنافقين } الآية [ الأحزاب : 24 ] .
وقد جاء قوله : { وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم } جارياً على أسلوب ابتداء كثير من قصص القرآن في افتتاحها ب { إذْ } على إضمار ( اذكر ) . و { إذْ } اسم للزمان مجرد عن معنى الظرفية . فالتقدير : واذكر وقتاً ، وبإضافة { إذ } إلى الجملة بعده يكون المعنى : اذكر وقتَ أخذِنا ميثاقاً على النبيئين . وهذا الميثاق مجمل هنا بينته آيات كثيرة . وجُماعها أن يقولوا الحق ويبلِّغوا ما أمروا به دون ملاينة للكافرين والمنافقين ، ولا خشية منهم ، ولا مجاراة للأهواء ، ولا مشاطرة مع أهل الضلال في الإبقاء على بعض ضلالهم .
وأن الله واثقهم ووعدهم على ذلك بالنصر . ولما احتوت عليه هذه السورة من الأغراض مزيد التأثر بهذا الميثاق بالنسبة للنبيء صلى الله عليه وسلم وشديد المشابهة بما أخذ من المواثيق على الرسل من قبله . ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى هنا : { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } [ الأحزاب : 4 ] وقوله في ميثاق أهل الكتاب { ألَمْ يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق } في سورة الأعراف ( 169 ) .
وفي تعقيب أمر الرسول بالتقوى ومخالفة الكافرين والمنافقين والتثبيت على اتّباع ما يوحى إليه ، وأمره بالتوكل على الله ، وجعلها قبل قوله { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود } [ الأحزاب : 9 ] الخ . . إشارة إلى أن ذلك التأييد الذي أيد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه إذ ردّ عنهم أحزاب الكفار والمنافقين بغيظهم لم ينالوا خيراً ما هو إلا أثر من آثار الميثاق الذي أخذه الله على رسوله حين بعثه .
والميثاق : اسم العهد وتحقيق الوعد ، وهو مشتق من وثق ، إذا أيقن وتحقق ، فهو منقول من اسم آلة مجازاً غلب على المصدر ، وتقدم في قوله تعالى : { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } في سورة البقرة ( 27 ) . وإضافة ميثاق إلى ضمير النبيئين من إضافة المصدر إلى فاعله على معنى اختصاص الميثاق بهم فيما أُلزموا به وما وعدهم الله على الوفاء به . ويضاف أيضاً إلى ضمير الجلالة في قوله { واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به } [ المائدة : 7 ] .
وقوله { ومنك ومن نوح } الخ هو من ذكر بعض أفراد العام للاهتمام بهم فإن هؤلاء المذكورين أفضل الرسل ، وقد ذُكر ضمير محمد صلى الله عليه وسلم قبلهم إيماء إلى تفضيله على جميعهم ، ثم جعل ترتيب ذكر البقية على ترتيبهم في الوجود . ولهذه النكتة خص ضمير النبي بإدخال حرف ( من ) عليه بخصوصه ، ثم أدخل حرف ( مِن ) على مجموع الباقين فكان قد خصّ باهتمامين : اهتمام التقديم ، واهتمام إظهار اقتران الابتداء بضمير بخصوصه غير مندمج في بقيتهم عليهم السلام .
وسيجيء أن ما في سورة الشورى من تقديم { ما وصَّى به نوحاً على والذي أوحينا إليك } [ الشورى : 13 ] طريق آخر هو آثر بالغرض الذي في تلك السورة من قوله تعالى : { شَرَع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم } الآية [ الشورى : 13 ] .
وجملة { وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً } أعادت مضمون جملة { وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم } لزيادة تأكيدها ، وليبنى عليها وصف الميثاق بالغليظ ، أي : عظيماً جليل الشأن في جنسه فإن كل ميثاق له عظَمٌ فلما وصف هذا ب { غليظاً } أفاد أن له عظماً خاصاً ، وليعلّق به لام التعليل من قوله { لِيَسْأل الصادقين } .
وحقيقة الغليظ : القويّ المتين الخلق ، قال تعالى : { فاستغلظ فاستوى على سوقه } [ الفتح : 29 ] . واستعير الغليظ للعظيم الرفيع في جنسه لأن الغليظ من كل صنف هو أمكنُه في صفات جنسه .