ثم فسر ذلك فقال : { تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } أنه يستحق أن يعبد من دون الله ، والقول على الله بلا علم من أكبر الذنوب وأقبحها ، { وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ } الذي له القوة كلها ، وغيره ليس بيده من الأمر شيء . { الْغَفَّارُ } الذي يسرف العباد على أنفسهم ويتجرؤون على مساخطه ثم إذا تابوا وأنابوا إليه ، كفر عنهم السيئات والذنوب ، ودفع موجباتها من العقوبات الدنيوية والأخروية .
فهو يبدل الدعوة بالدعوة في تعبيره في الآية التالية :
( تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم . وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار ) . .
وشتان بين دعوة ودعوة . إن دعوته لهم واضحة مستقيمة . إنه يدعوهم إلى العزيز الغفار . يدعوهم إلى إله واحد تشهد آثاره في الوجود بوحدانيته ، وتنطق بدائع صنعته بقدرته وتقديره . يدعوهم إليه ليغفر لهم وهو القادر على أن يغفر ، الذي تفضل بالغفران : ( العزيز الغفار ) . . فإلى أي شيء يدعونه ? يدعونه للكفر بالله . عن طريق إشراك ما لا علم له به من مدعيات وأوهام وألغاز !
تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } أي : جهل {[25513]} بلا دليل { وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ } أي : هو في عزته وكبريائه يغفر ذنب من تاب إليه .
وقوله : تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بالله وأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ يقول : وأشرك بالله في عبادته أوثانا ، لست أعلم أنه يصلح لي عبادتها وإشراكها في عبادة الله ، لأن الله لم يأذن لي في ذلك بخبر ولا عقل .
وقوله : وأنا أدْعُوكُمْ إلى العَزِيزِ الغَفّارِ يقول : وأنا أدعوكم إلى عبادة العزيز في انتقامه ممن كفر به ، الذي لا يمنعه إذا انتقم من عدوّ له شيء ، الغفار لمن تابه إليه بعد معصيته إياه ، لعفوه عنه ، فلا يضرّه شيء مع عفوه عنه ، يقول : فهذا الذي هذه الصفة صفته فاعبدوا ، لا ما لا ضرّ عنده ولا نفع .
وكذلك دعاؤهم إياه إلى الكفر واتباع دنيهم : هو دعاء إلى سبب دخول النار ، فجعله دعاء إلى النار اختصاراً ، ثم بين عليهم ما بين الدعوتين من البون في أن الواحدة شرك وكفر ، والأخرى دعوة إلى الإسناد إلى عزة الله وغفرانه .
وقوله : { ما ليس لي به علم } ليس معناه أني جاهل به ، بل معناه العلم بأن الأوثان وفرعون وغيره ليس لهم مدخل في الألوهية ، وليس لأحد من البشر علم بوجه من وجوه النظر بأن لهم في الألوهية مدخلاً ، بل العلم اليقين بغير ذلك من حدوثهم متحصل .
وجملة { تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بالله } بيان لجملة { وتدعونني إلى النار } لأن الدعوة إلى النار أمر مجمل مستغرب فبينه ببيان أنهم يدعونه إلى التلبس بالأسباب الموجبة عذاب النار . والمعنى : تدعونني للكفر بالله وإشراك ما لا أعلم مع الله في الإِلهية .
ومعنى { مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } ما ليس لي بصحته أو بوجوده علم ، والكلام كناية عن كونه يعلم أنها ليست آلهة بطريق الكناية بنفي اللازم عن نفي الملزوم .
وعطف عليه { وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفَّار } فكان بياناً لمجمل جملة { أدْعُوكُمْ إلَى النجاة } . وإبراز ضمير المتكلم في قوله : { وأنا أدعوكم } لإِفادة تقوِّي الخبر بتقديم المسند إليه على خبره الفعلي .
وفعل الدعوة إذا ربط بمتعلق غير مفعوله يعدّى تارة باللام وهو الأكثر في الكلام ، ويعدى بحرف ( إلى ) وهو الأكثر في القرآن لما يشتمل عليه من الاعتبارات ولذلك علق به معموله في هذه الآية أربع مرات ب ( إلى ) ومرة باللام مع ما في ربط فعل الدعوة بمتعلقه الذي هو من المعنويات من مناسبة لام التعليل مثل { تدعونني لأكْفُرَ بالله وأُشْرِكَ بِهِ } ، وربطِه بما هو ذات بحرف ( إلى ) في قوله : { أدْعُوكم إلى النجاة } فإن النجاة هي نجاة من النار فهي نجاة من أمر محسوس ، وقوله : { وتدعونني إلى النَّار } وقوله : { وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا } الخ ، لأن حرف ( إلى ) دالّ على الانتهاء لأن الذي يدعو أحداً إلى شيء إنما يدعوه إلى أن ينتهي إليه ، فالدعاء إلى الله الدعاء إلى توحيده بالربوبية فشبه بشيء محسوس تشبيه المعقول بالمحسوس ، وشبه اعتقادُه صحتَه بالوصول إلى الشيء المسعي إليه ، وشبهت الدعوة إليه بالدلالة على الشيء المرغوب الوصول إليه فكانت في حرف ( إلى ) استعارة مكنية وتخييلية وتبعية ، وفي { العَزِيزِ الغفار } استعارة مكنية ، وفي { أدعوكم } استعارة تبعية وتخييلية .
وعدل عن اسم الجلالة إلى الصفتين { العَزِيزِ الغفار } لإِدماج الاستدلال على استحقاقه الإِفراد بالإِلهية والعبادة ، بوصفه { العزيز } لأنه لا تناله الناس بخلاف أصنامهم فإنها ذليلة توضع على الأرض ويلتصق بها القتام وتلوثها الطيور بذرقها ، ولإِدماج ترغيبهم في الإقلاع عن الشرك بأن الموحد بالإِلهية يغفر لهم ما سلف من شركهم به حتى لا ييأسوا من عفوه بعد أن أساءوا إليه .