بعدئذ يجيء بتلك البشرى العظيمة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وامته من ورائه :
( سنقرئك فلا تنسى - إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى - ونيسرك لليسرى . فذكر إن نفعت الذكرى ) . .
وتبدأ البشرى برفع عناء الحفظ لهذا القرآن والكد في إمساكه عن عاتق الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] : ( سنقرئك فلا تنسى ) . . فعليه القراءة يتلقاها عن ربه ، وربه هو المتكفل بعد ذلك بقلبه ، فلا ينسى ما يقرئه ربه .
وهي بشرى للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] تريحه وتطمئنه على هذا القرآن العظيم الجميل الحبيب إلى قلبه . الذي كان يندفع بعاطفة الحب له ، وبشعور الحرص عليه ، وبإحساس التبعة العظمى فيه . . إلى ترديده آية آية وجبريل يحمله إليه ، وتحريك لسانه به خيفة أن ينسى حرفا منه . حتى جاءته هذه البشائر المطمئنة بأن ربه سيتكفل بهذا الأمر عنه .
وهي بشرى لأمته من ورائه ، تطمئن بها إلى أصل هذه العقيدة . فهي من الله . والله كافلها وحافظها في قلب نبيها . وهذا من رعايته سبحانه ، ومن كرامة هذا الدين عنده ، وعظمة هذا الأمر في ميزانه .
وفي هذا الموضع كما في كل موضع يرد فيه وعد جازم ، أو ناموس دائم ، يرد ما يفيد طلاقة المشيئة الإلهية من وراء ذلك ، وعدم تقيدها بقيد ما ولو كان هذا القيد نابعا من وعدها وناموسها . فهي طليقة وراء الوعد والناموس . ويحرص القرآن على تقرير هذه الحقيقة في كل موضع - كما سبق أن مثلنا لهذا في الظلال - ومن ذلك ما جاء هنا :
وقوله : { سَنُقْرِئُكَ } أي : يا محمد { فَلا تَنْسَى } وهذا إخبار من الله ، عز وجل ، ووعد منه له ، بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها ، { إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ } وهذا اختيار ابن جرير .
وقال قتادة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسى شيئا إلا ما شاء الله .
وقيل : المراد بقوله : { فَلا تَنْسَى } طلب ، وجعلوا معنى الاستثناء على هذا ما يقع من النسخ ، أي : لا تنسى ما نقرئك إلا ما شاء الله رفعه ؛ فلا عليك أن تتركه .
وقوله : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى } أي : يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من أقوالهم وأفعالهم ، لا يخفى عليه من ذلك شيء .
قوله : سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إلاّ ما شاءَ اللّهُ يقول تعالى ذكره : سنقرئك يا محمد هذا القرآن فلا تنساه ، إلاّ ما شاء الله .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله فلا تَنْسَى إلاّ ما شاءَ اللّهُ فقال بعضهم : هذا إخبار من الله نبيه عليه الصلاة والسلام أنه يعلمه هذا القرآن ، ويحفظه عليه ، ونهي منه أن يعجل بقراءته ، كما قال جلّ ثناؤه : لا تُحَرّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بهِ إنّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرآنَهُ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى قال : كان يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى .
فقال قائلو هذه المقالة : معنى الاستثناء في هذا الموضع على النسيان ، ومعنى الكلام : فلا تنسى ، إلاّ ما شاء الله أن تنساه ، ولا تذكُرَه ، قالوا : ذلك هو ما نسخه الله من القرآن ، فرفع حكمه وتلاوته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى كان صلى الله عليه وسلم لا ينسى شيئا إلاّ ما شاءَ اللّهُ .
وقال آخرون : معنى النسيان في هذا الموضع : الترك وقالوا : معنى الكلام : سنقرئك يا محمد فلا تترك العمل بشيء منه ، إلاّ ما شاء الله أن تترك العمل به ، مما ننسخه .
وكان بعض أهل العربية يقول في ذلك : لم يشأ الله أن تنسى شيئا ، وهو كقوله : خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السّمَوَاتُ والأرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبّكَ ولا يشاء . قال : وأنت قائل في الكلام : لأعطينك كلّ ما سألت إلاّ ما شئت ، وإلاّ أن أشاء أن أمنعك ، والنية أن لا تمنعه ، ولا تشاء شيئا . قال : وعلى هذا مجارِي الأَيمان ، يستثنى فيها ، ونية الحالف : اللمام .
والقول الذي هو أولى بالصواب عندي ، قول من قال : معنى ذلك : فلا تنسى إلاّ أن نشاء نحن أن نُنسيكه بنسخه ورفعه . وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن ذلك أظهر معانيه .
وقوله تعالى : { سنقرئك فلا تنسى } ، قال الحسن وقتادة ومالك ابن أنس : هذه الآية في معنى قوله تعالى : { لا تحرك به لسانك } [ القيامة : 16 ] الآية{[11749]} ، وعد الله أن يقرئه وأخبره أنه لا ينسى نسياناً لا يكون بعده ذكر ، فتذهب الآية ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرك شفتيه مبادرة خوفاً منه أن ينسى ، وفي هذا التأويل آية النبي صلى الله عليه وسلم في أنه أمي ، وحفظ الله تعالى عليه الوحي ، وأمنه من نسيانه ، وقال آخرون : ليست هذه الآية في معنى تلك ، وإنما هذه وعد بإقرار الشرع والسور ، وأمره أن لا ينسى على معنى التثبيت والتأكيد ، وقد علم أن ترك النسيان ليس في قدرته ، فقد نهي عن إغفال التعاهد ، وأثبت الياء في «تنسى » لتعديل رؤوس الآي{[11750]} ، وقال الجنيد : معنى { فلا تنسى } ، لا تترك العمل بما تضمن من أمر ونهي
قد عرفت أن الأمر بالتسبيح في قوله : { سبح اسم ربك الأعلى } [ الأعلى : 1 ] بشارة إجمالية للنبيء صلى الله عليه وسلم بخير يحصل له ، فهذا موقعُ البيان الصريح بوعده بأنه سيعصمه من نسيان ما يُقرئه فيبلِّغُه كما أوحي إليه ويحفظه من التفلت عليه ، ولهذا تكون هذه الجملة استئنافاً بيانياً لأن البشارة تنشىء في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ترقباً لوعد بخير يأتيه فبشره بأنه سيزيده من الوحي ، مع ما فرَّع على قوله : { سنقرئك } من قوله : { فلا تنسى } .
وإذ قد كانت هذه السورة من أوائل السور نزولاً . وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس : « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعالج من التنزيل شِدة إذا نزل جبريل ، وكان ممَّا يحرك شفتيْه ولسانَه ، يريد أن يحفظه ويخشى أن يتفلت عليه فقيل له : { لا تحرّك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه } [ القيامة : 16 ، 17 ] ، إنّ علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه أن تقرأه : { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } [ القيامة : 18 ] . يقول : إذا أُنزل عليك فاستمع ، قال : فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما قرأ جبريل كما وعده الله » وسورة القيامة التي منها { لا تحرك به لسانك } نزلت بعد سورة الأعلى فقد تعين أن قوله : { سنقرئك فلا تنسى } وعد من الله بعَونه على حفظ جميع ما يُوحى إليه .
وإنما ابتدىء بقوله : { سنقرئك } تمهيداً للمقصود الذي هو : { فلا تنسى } وإدماجاً للإِعلام بأن القرآن في تزايد مستمر ، فإذا كان قد خاف من نسيان بعض ما أُوحي إليه على حين قِلَّته فإنه سيتتابع ويتكاثر فلا يخش نسيانه فقد تكفل له عدم نسيانه مع تزايده .
والسين علامة على استقبال مدخولها ، وهي تفيد تأكيد حصول الفعل وخاصةً إذا اقترنت بفعل حاصل في وقت التكلم فإنها تقتضي أنه يستمر ويتجدد وذلك تأكيد لحصوله وإذ قد كان قوله : { سنقرئك فلا تنسى } إقراءً ، فالسين دالة على أن الإِقراء يستمر ويتجدد .
والالتفات بضمير المتكلم المعظَّم لأن التكلّم أنسب بالإِقبال على المبشَّر .
وإسناد الإقراء إلى الله مجاز عقلي لأنه جاعل الكلام المقروء وآمر بإقرائه .
فقوله : { فلا تنسى } خبر مراد به الوعد والتكفل له بذلك .
والنسيان : عدم خطور المعلوم السابق في حافظة الإنسان برهة أو زماناً طويلاً .