{ إن كل نفس } جواب القسم ، { لما عليها حافظ } قرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة : { لما } بالتشديد ، يعنون : ما كل نفس إلا عليها حافظ ، وهي لغة هذيل يجعلون { لما } بمنزلة إلا يقولون : نشدتك الله لما قمت ، أي إلا قمت . وقرأ الآخرون بالتخفيف ، جعلوا ما صلة ، مجازه : إن كل نفس لعليها حافظ ، وتأويل الآية : كل نفس عليها حافظ من ربها يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكتسب من خير وشر . قال ابن عباس : هم الحفظة من الملائكة . قال الكلبي : حافظ من الله يحفظها ويحفظ قولها وفعلها حتى يدفعها ويسلمها إلى المقادير ، ثم يخلي عنها
يقسم بالسماء ونجمها الثاقب : أن كل نفس عليها من أمر الله رقيب : ( إن كل نفس لما عليها حافظ ) . . وفي التعبير بصيغته هذه معنى التوكيد الشديد . . ما من نفس إلا عليها حافظ . يراقبها ، ويحصي عليها ، ويحفظ عنها ، وهو موكل بها بأمر الله . ويعين النفس لأنها مستودع الأسرار والأفكار . وهي التي يناط بها العمل والجزاء .
ليست هنالك فوضى إذن ولا هيصة ! والناس ليسوا مطلقين في الأرض هكذا بلا حارس . ولا مهملين في شعابها بلا حافظ ، ولا متروكين يفعلون كيف شاءوا بلا رقيب . إنما هو الإحصاء الدقيق المباشر ، والحساب المبني على هذا الإحصاء الدقيق المباشر .
ويلقي النص إيحاءه الرهيب حيث تحس النفس أنها ليست أبدا في خلوة - وإن خلت - فهناك الحافظ الرقيب عليها حين تنفرد من كل رقيب ، وتتخفي عن كل عين ، وتأمن من كل طارق . هنالك الحافظ الذي يشق كل غطاء وينفذ إلى كل مستور . كما يطرق النجم الثاقب حجاب الليل الساتر . . وصنعة الله واحدة متناسقة في الأنفس وفي الآفاق .
وقوله : إنْ كُلّ نَفْسٍ لَمّا عَلَيْها حافِظٌ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه من قرّاء المدينة أبو جعفر ، ومن قرّاء الكوفة حمزة لَمّا عَلَيْها بتشديد الميم . وذُكِر عن الحسن أنه قرأ ذلك كذلك .
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا أبو عبيد ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن الحسن أنه كان يقرؤها : إنْ كُلّ نَفْسٍ لَمّا عَلَيْها حافِظٌ مشدّدة ، ويقول : إلاّ عليها حافظ ، وهكذا كلّ شيء في القرآن بالتثقيل .
وقرأ ذلك من أهل المدينة نافع ، ومن أهل البصرة أبو عمرو : «لَمَا » بالتخفيف ، بمعنى : إن كلّ نفس لعليها حافظ . وعلى أن اللام جواب «إن » و«ما » التي بعدها صلة . وإذا كان ذلك كذلك لم يكن فيه تشديد .
والقراءة التي لا أختار غيرها في ذلك : التخفيف ، لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب ، وقد أنكر التشديد جماعة من أهل المعرفة بكلام العرب ، أن يكون معروفا من كلام العرب ، غير أن الفرّاء كان يقول : لا نعرف جهة التثقيل في ذلك ، ونرى أنها لغة من هُذَيل ، يجعلون إلا مع إن المخففة لَمَا ، ولا يجاوزون ذلك ، كأنه قال : ما كلّ نفس إلاّ عليها حافظ ، فإن كان صحيحا ما ذكر الفرّاء ، من أنها لغة هُذَيل ، فالقراءة بها جائزة صحيحة ، وإن كان الاختيار أيضا إذا صحّ ذلك عندنا ، القراءة الأخرى ، وهي التخفيف ، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب ، ولا ينبغي أن يترك الأعرف إلى الأنكر . وقد :
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا أبو عبيد ، قال : حدثنا معاذ ، عن ابن عون ، قال : قرأت عند ابن سيرين : «إنْ كُلّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْها حافِظٌ » فأنكره ، وقال : سبحان الله ، سبحان الله .
فتأويل الكلام : إذن : إن كلّ نفس لَعَليها حافظ من ربها ، يحفظ عملها ، وَيَحْصِي عليها ما تكسب من خير أو شرّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : «إنْ كُلّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْها حافِظٌ » قال : كلّ نفس عليها حفظة من الملائكة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : «إنْ كُلّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْها حافِظٌ » : حفظة يحفظون عملك ورزقك وأجلك إذا توفيته يا بن آدم قبضت إلى ربك .
وقرأ جمهور الناس : «لما » مخففة الميم ، قال الحذاق من النحويين وهم البصريون : مخففة من الثقيلة ، واللام : لام التأكيد الداخلة على الخبر ، وقال الكوفيون : { إن } ، بمعنى : ما النافية ، واللام بمعنى : إلا ، فالتقدير ما كان نفس إلا { عليها حافظ } ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والحسن والأعرج وأبو عمرو ونافع بخلاف عنهما وقتادة : «لمّا » بتشديد الميم ، وقال أبو الحسن الأخفش : «لمّا » بمعنى : إلا ، لغة مشهورة في هذيل وغيرهم ، يقال : أقسمت عليك لمّا فعلت كذا ، أي إلا فعلت كذا ، ومعنى هذه الآية فيما قال قتادة وابن سيرين وغيرهما : إن كل نفس مكلفة فعليها حافظ يحصي أعمالها ويعدها للجزاء عليها ، وبهذا الوجه تدخل الآية في الوعيد الزاجر ، وقال الفراء ، المعنى : { عليها حافظ } يحفظها حتى يسلمها إلى القدر ، وهذا قول فاسد المعنى لأن مدة الحفظ إنما هي بقدر ، وقال أبو إمامة : قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية «إن لكل نفس حفظة من الله تعالى يذبون عنها كما يذب عن العسل ، ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الطير والشياطين ، {[11735]} »
وجواب القسم هو قوله : { إنْ كل نفس لمَا عليها حافظ } جُعل كناية تلويحية رمزية عن المقصود . وهو إثبات البعث فهو كالدليل على إثباته ، فإن إقامة الحافظ تستلزم شيئاً يحفظه وهو الأعمال خيرُها وشرُّها ، وذلك يستلزم إرادة المحاسبة عليها والجزاء بما تقتضيه جزاء مُؤخراً بعد الحياة الدنيا لئلا تذهب أعمال العاملين سدى وذلك يستلزم أن الجزاء مؤخر إلى ما بعد هذه الحياة إذ المُشَاهَدُ تخلُّف الجزاء في هذه الحياة بكثرة ، فلو أهمل الجزاء لكان إهماله منافياً لحكمة الإله الحكيم مبدع هذا الكون كما قال : { أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً } [ المؤمنون : 115 ] وهذا الجزاء المؤخر يستلزم إعادة حياة للذوات الصادرة منها الأعمالُ .
فهذه لوازم أربعة بها كانت الكناية تلويحية رمزية .
وقد حصل مع هذا الاستدلال إفادةُ أن على الأنفس حفظةً فهو إدماج .
والحافظ : هو الذي يحفظ أمراً ولا يهمله ليترتب عليه غرض مقصود .
وقرأ الجمهور : { لَمَا } بتخفيف الميم ، وقرأه ابن عامر وحمزة وأبو جعفر وخلَف بتشديد الميم .
فعلى قراءة تخفيف الميم تكون ( إنْ ) مخففة من الثقيلة و { لَمَا } مركبة من اللام الفارقة بين ( إنْ ) النافية و ( إنْ ) المخففةِ من الثقيلة ومعها ( مَا ) الزائدة بعد اللام للتأكيد وأصل الكلام : إن كل نفس لَعَليْها حافظ .
وعلى قراءة تشديد الميم تكون ( إنْ ) نافية و { لمَّا } حرف بمعنى ( إلاّ ) فإن ( لَمَّا ) ترد بمعنى ( إلاّ ) في النفي وفي القَسم ، تقول : سألتُك لَمَّا فعلت كذا أي إلاّ فعلت ، على تقدير : ما أسألك إلاّ فعل كذا فآلت إلى النفي وكلٌ من ( إنْ ) المخففة و ( إنْ ) النافية يُتلقَّى بها القسم .
وقد تضمن هذا الجواب زيادةً على إفادته تحقيق الجزاء إنذاراً للمشركين بأن الله يعلم اعتقادهم وأفعالهم وأنه سيجازيهم على ذلك .