قوله تعالى : { هذا ما توعدون } قرأ ابن كثير بالياء والآخرون بالتاء ، يقال لهم : هذا الذي ترونه ما توعدون على ألسنة الأنبياء عليهم السلام ، { لكل أواب } رجاع إلى الطاعة عن المعاصي ، قال سعيد بن المسيب : هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب . وقال الشعبي ومجاهد : الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها . وقال الضحاك : هو التواب . وقال ابن عباس وعطاء : هو المسبح ، من قوله : { يا جبال أوبي معه } ( سبأ-10 ) وقال قتادة : هو المصلي . { حفيظ } قال ابن عباس : الحافظ لأمر الله ، وعنه أيضاً : هو الذي يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها ويستغفر منها . قال قتادة : حفيظ لما استودعه الله من حقه . قال الضحاك : المحافظ على نفسه المتعهد لها . قال الشعبي : المراقب . قال سهل بن عبد الله : هو المحافظ على الطاعات والأوامر .
ويقال لهم على وجه التهنئة : { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } أي : هذه الجنة وما فيها ، مما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، هي التي وعد الله كل أواب أي : رجاع إلى الله ، في جميع الأوقات ، بذكره وحبه ، والاستعانة به ، ودعائه ، وخوفه ، ورجائه .
{ حَفِيظٍ } أي : يحافظ على ما أمر الله به ، بامتثاله على وجه الإخلاص والإكمال له ، على أكمل{[835]} الوجوه ، حفيظ لحدوده .
وقوله : هَذَا ما تُوعَدُونَ يقول : قال لهم : هذا الذي توعدون أيها المتقون ، أن تدخلوها وتسكنوها وقوله : لِكُلّ أوّابٍ يعني : لكل راجع من معصية الله إلى طاعته ، تائب من ذنوبه .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : هو المسبح ، وقال بعضهم : هو التائب ، وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك فيما مضى بما أغني عن إعادته ، غير أنا نذكر في هذا الموضع ما لم نذكره هنالك .
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس لِكُلّ أوّابٍ قال : لكلّ مسبّح .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مسلم الأعور ، عن مجاهد ، قال : الأوّاب : المسبح .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثني يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية ، قال : ثني أبي ، عن الحكم بن عُتيبة في قول الله : لِكُلّ أوّابٍ حَفِيظٍ قال : هو الذاكر الله في الخلاء .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن يونس بن خباب ، عن مجاهد لِكُلّ أوّابٍ حَفِيظٍ قال : الذي يذكر ذنوبه فيستغفر منها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : هَذَا ما تُوعَدُونَ لِكُلّ أوّابٍ .
قال : ثنا مهران ، عن خارجة ، عن عيسى الحناط ، عن الشعبيّ ، قال : هو الذي يذكر ذنوبه في خلاء فيستغفر منها حَفِيظٍ : أي مطيع لله كثير الصلاة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لِكُلّ أوّابٍ حَفِيظٍ قال : الأوّاب : التوّاب الذي يؤوب إلى طاعة الله ويرجع إليها .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن يونس بن خباب في قوله : لِكُلّ أوّابٍ حَفِيظٍ قال : الرجل يذكر ذنوبه ، فيستغفر الله لها .
وقوله : حَفِيظٍ اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : حفظ ذنوبه حتى تاب منها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي سنان ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، قال : سألت ابن عباس ، عن الأوّاب الحفيظ ، قال : حفظ ذنوبه حتى رجع عنها .
وقال آخرون : معناه : أنه حفيظ على فرائض الله وما ائتمنه عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة حَفِيظٍ قال : حفيظ لما استودعه الله من حقه ونعمته .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره وصف هذا التائب الأوّاب بأنه حفيظ ، ولم يخصّ به على حفظ نوع من أنواع الطاعات دون نوع ، فالواجب أن يعمّ كما عمّ جلّ ثناؤه ، فيقال : هو حفيظ لكلّ ما قرّ به إلى ربه من الفرائض والطاعات والذنوب التي سلَفت منه للتوبة منها والاستغفار .
وقوله تعالى : { هذا ما توعدون } الآية ، يحتمل أن يكون معناه : يقال لهم في الآخرة عند إزلاف الجنة هذا هو الذي كنتم توعدون في الدنيا ، ويحتمل أن يكون المعنى خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، أي هذا الذي توعدون به أيها الناس { لكل أواب حفيظ } . والأواب : الرجاع إلى الطاعة وإلى مراشد نفسه . وقال ابن عباس وعطاء : الأواب : المسبح لقوله : { يا جبال أوبي معه }{[10556]} [ سبأ : 10 ] . وقال الشعبي ومجاهد : هو الذي يذكر ذنوبه فيستغفر . وقال المحاسبي : هو الراجح بقلبه إلى ربه . وقال عبيد بن عمير : كنا نحدث أنه الذي إذا قام من مجلسه استغفر الله مما جرى في ذلك المجلس وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل . والحفيظ معناه : بأوامر الله فيمتثلها ، أو لنواهيه فيتركها . وقال ابن عباس : { حفيظ } لذنوبه حتى يرجع عنها .
جملة { هذا ما توعدون } معترضة ، فلك أن تجعلها وحدها معترضة وما بعدها متصلاً بما قبلها فتكون معترضة بين البدل والمبدل منه وهما { للمتقين } و { لكل أواب } ، وتجعل { لكل أواب } بدلاً من { للمتقين } ، وتكرير الحرف الذي جُرّ به المبدَل منه لقصد التأكيد كقوله تعالى : { قال الذين استكبروا للذين استضعفوا } [ سبأ : 32 ] لمن آمن منهم الآية وقوله : { ولأبَوَيْه لكلّ واحد منهما السدس } [ النساء : 11 ] . واسم الإشارة المذكر مراعى فيه مجموع ما هو مشاهد عندهم من الخيرات .
والأوّاب : الكثير الأوب ، أي الرجوع إلى الله ، أي إلى امتثال أمره ونهيه .
والحفيظ : الكثير الحفظ لوصايا الله وحدوده . والمعنى : أنه محافظ على الطاعة فإذا صدرت منه فلتة أعقبها بالتوبة .