{ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً } من شرك أو فسوق أو عصيان { فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا } أي : لا يجازى إلا بما يسوؤه ويحزنه لأن جزاء السيئة السوء .
{ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } من أعمال القلوب والجوارح ، وأقوال اللسان { فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : يعطون أجرهم بلا حد ولا عد ، بل يعطيهم الله ما لا تبلغه أعمالهم .
ويقرر لهم قاعدة الحساب والجزاء في دار القرار :
( من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها . ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ، فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ) . .
فقد اقتضى فضل الله أن تضاعف الحسنات ولا تضاعف السيئات ، رحمة من الله بعباده ، وتقديراً لضعفهم ، وللجواذب والموانع لهم في طريق الخير والاستقامة ، فضاعف لهم الحسنات ، وجعلها كفارة للسيئات . فإذا هم وصلوا إلى الجنة بعد الحساب ، رزقهم الله فيها بغير حساب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر بمستقر الفريقين جميعا، فقال تعالى: {من عمل سيئة} يعني الشرك.
{فلا يجزى إلا مثلها} فجزاء الشرك النار وهما عظيمان كقوله: {جزاء وفاقا} [النبأ:26]
{ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب}: بلا تبعة في الجنة فيما يعطون فيها من الخير.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول: من عمل بمعصية الله في هذه الحياة الدنيا، فلا يجزيه الله في الآخرة إلا سيئة مثلها، وذلك أن يعاقبه بها.
"وَمَنْ عَمِلَ صَالِحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى" يقول: ومن عمل بطاعة الله في الدنيا، وأتمر لأمره، وانتهى فيها عما نهاه عنه من رجل أو امرأة، وهو مؤمن بالله "فأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنّةَ" يقول: فالذين يعملون ذلك من عباد الله يدخلون في الآخرة الجنة...
وقوله: "يُرْزَقُونَ فِيها بغَيْرِ حِسابٍ" يقول: يرزقهم الله في الجنة من ثمارها، وما فيها من نعيمها ولذّاتها بغير حساب...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أخبر عن عدل الله تعالى في أعدائه وفضله في أوليائه حين قال: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} أي يجزي، ولا يزيد لهم على مثل جنايتهم؛ لأن المثل هو العدل في جميع الأشياء؛ يخبر ألا يزيد على قدر عقوبة عملهم، ولكن يجزيهم بمثله وأما جزاء الحسنة: فإنه يزيد لهم على قدر ما يستوجبون فضلا وإحسانا: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} دل هذا على أن العمل الصالح لا ينفع، ولا يجزى به إلا من كان منه الإيمان به...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا} لأنّ الزيادة على مقدار جزاء السيئة قبيحة؛ لأنها ظلم.
وأما الزيادة على مقدار جزاء الحسنة فحسنة؛ لأنها فضل...
{بِغَيْرِ حِسَابٍ} واقع في مقابلة إلاّ مثلها، يعني: أن جزاء السيئة لها حساب وتقدير، لئلا يزيد على الاستحقاق، فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب، بل ما شئت من الزيادة على الحق والكثرة والسعة.
بين كيف تحصل المجازاة في الآخرة، وأشار فيه إلى أن جانب الرحمة غالب على جانب العقاب فقال: {من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها} والمراد بالمثل ما يقابلها في الاستحقاق، فإن قيل كيف يصح هذا الكلام، مع أن كفر ساعة يوجب عقاب الأبد؟ قلنا إن الكافر يعتقد في كفره كونه طاعة وإيمانا فلهذا السبب يكون الكافر على عزم أن يبقى مصرا على ذلك الاعتقاد أبدا، فلا جرم كان عقابه مؤبدا بخلاف الفاسق فإنه يعتقد فيه كونه خيانة ومعصية فيكون على عزم أن لا يبقى مصرا عليه، فلا جرم قلنا إن عقاب الفاسق منقطع...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما حرك الهمم بهذا الوعظ إلى الإعراض عن دار الأنكاد والأمراض، والإقبال على دار الجلال والجمال بخدمة ذي العز والكمال، قال في جواب من سأل عن كيفية ذلك ما حاصله؛ أنه بالإقبال على محاسن الأعمال، وترك السيء من الخلال، واصلاً بذلك على طريق البيان للبيان، ذاكراً عاقبة كل ليثبط عما يتلف، وينشط لما يزلف، مشيراً إلى جانب الرحمة أغلب، مقدماً لما هم عليه من السوء محذراً منه ليرجعوا {من عمل سيئة} أي ما يسوء من أي صنف كان: الذكور والإناث والمؤمنين والكافرين {فلا يجزى} أي من الملك الذي لا ملك سواه.
{إلا مثلها} عدلاً لا يزاد عليها مقدار ذرة ولا أصغر منها، ويدخل النار إن لم يكن له ما يكفرها، فهذا هو الملك الذي ينبغي الإقبال على خدمته؛ لكونه الحكم العدل القادر على الجزاء والمساواة في الجزاء.
ولما بين العدل في العقاب، بين الفضل في الثواب، تنبيهاً على أن الرحمة سبقت الغضب فقال: {ومن عمل صالحاً} أي ولو قل.
ولما كان من يعهدون من الملوك إنما يستعملون الأقوياء لاحتياجهم، بين أنه على غير ذلك؛ لأنه لا حاجة به أصلاً فقال: {من ذكر أو أنثى}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
قد اقتضى فضل الله أن تضاعف الحسنات ولا تضاعف السيئات، رحمة من الله بعباده، وتقديراً لضعفهم، وللجواذب والموانع لهم في طريق الخير والاستقامة، فضاعف لهم الحسنات، وجعلها كفارة للسيئات. فإذا هم وصلوا إلى الجنة بعد الحساب، رزقهم الله فيها بغير حساب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
معنى {إلاَّ مِثْلَهَا} المماثلة في الوصف الذي دل عليه اسم السيّئة وهو الجزاء السّيّء أي لا يجزي عن عمل السوء بجزاء الخير، أي لا يطمعوا أن يعلموا السيئات وأنهم يجازَون عليها جزاءَ خير، وفي « صحيح البخاري» عن وهب بن منبه وكان كثير الوعظ للناس فقيل له، إنك بوعظك تقنط الناس فقال: « أأنا أقدر أن أقنط الناس والله يقول: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر: 53] ولكنكم تُحبون أن تُبشَّروا بالجنة على مساوي أعمالكم». وكأن المؤمن خصّ الجزاء بالأعمال؛ لأنهم كانوا متهاونِين بالأعمال، وكان قصارى ما يهتمون به هو حسن الاعتقاد في الآلهة، ولذلك توجد على جُدر المعابد المصرية صورة الحساب في هيئة وضع قلب الميت في الميزان ليكون جزاؤه على ما يفسر عنه ميزان قلبه، ولذلك ترى مؤمن آل فرعون لم يهمل ذكر الإِيمان بعد أن اهتم بتقديم الأعمال فتراه يقول: {ومَنْ عَمِلَ صالحا مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ}، فالإِيمان هو أُسٌّ هيكل النجاة، ولذلك كان الكفر أُسَّ الشقاء الأبدي.
وترتيبه دخول الجنة على عمل الصالحات معناه: من عمل صالحاً ولم يعمل سيئة بقرينة مقابلته بقوله: {مَنْ عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها}، فإنْ خلَط المؤمن عملاً صالحاً وسيئاً فالمقاصة...
و {مَن} في قوله: {وَمَنْ عَمِلَ صالحا} الخ شرطية، وجوابها {فأولئك يَدْخُلون الجنَّة}، وجيء باسم الإشارة لِلتنبيه على أن المشار إليه يستحق ما سيذكر بعد اسم الإشارة من أجْل ما ذكر قبل اسم الإشارة من الأوصاف، وهي عمل الصالحات مع الإِيمان زيادة على استفادة ذلك من تعليقه على الجملة الشرطية.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة جواب الشرط لإِفادة الحصر. والمعنى: أنكم إن متم على الشرك والعمل السيّىء لا تدخلونها.
{مِنْ ذَكَرٍ أوْ أنثى} بيان لما في {مَنْ} من الإِبهام من جانب احتمال التعميم فلفظ ذَكَرٍ أو أنثى مراد به عموم الناس بذكر صنفيهم تنصيصاً على إرادة العموم، وليس المقصود به إفادة مساواة الأنثى للذكر في الجزاء على الأعمال؛ إذ لا مناسبة له في هذا المقام، وتعريضاً بفرعون وخاصته أنهم غير مُفلَتين من الجزاء...
نعم ما دامت الآخرة هي دار القرار والمستقر فلابدّ من الرجوع إليَّ والوقوف بين يديّ أُجازي كُلاًّ بعمله، وأنا لستُ جباراً عليكم إنما أنا رحيم بكم أجازي السيئة بمثلها، أو أغفر وأضاعف الحسنة أضعافاً كثيرة.
والوقفة هنا عند قوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فهذا الشرط لا يمنع غير المؤمنين من فعل الخير والعمل الصالح، وقد بيَّن الحق سبحانه هذه المسألة في قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].
والكافر حين يفعل الخير يأخذ حظه منه في الدنيا، لا نصيبَ له في ثواب الآخرة، يأخذه في الدنيا شهرةً وصيتاً وسُمعة طيبة على ألسنة الناس، يأخذه في صورة تكريم واحتفال، ألاَ تراهم يقيمون لهم التماثيل ويُخلِّدون ذكراهم.. إلخ.
إذن: أخذوا حظهم في الدنيا، لذلك يقول تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39].
تأمل {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ..} [النور: 39] يعني: فوجئ به لأنه لم يكُنْ في باله في الدنيا وما عمل من أجله قطّ، ومعلومٌ أن الإنسان يأخذ أجره ممَّنْ عمل له.
وقد سُئِلْنا في هذه المسألة في سان فرانسيسكو: أيضيع أجر الكافر الذي عمل الخير في الدنيا؟ قلت: أعملَ للخير لله أم للإنسانية ورُقيِّها؟ قالوا: عمل للإنسانية ورُقيِّها وخدمتها، قلت: فليأخذ أجره منها وقد أخذه شهرة وصيتاً وتخليداً، قال تعالى: {وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23].
لذلك نقول: إن الكافرين الذين عملوا لرقي المجتمع وتقدمه نحن ننتفع بأعمالهم ومخترعاتهم ومكتشفاتهم، بل ونطوعها لخدمة الإيمان والدعوة إلى الله، فهذا المسجِّل وهذا الميكرفون وغيرها ثمرة جهدهم، لكن لا حَظَّ لهم في ثوابه، لذلك نقول: إن هؤلاء خُدَّام حَرْف واحد من حروف القرآن، ما هو؟ هو السين في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ} [فصلت: 53].
فهم يتعبون ويعيشون حياة قاسية في تقشُّف ليتفرغوا للبحث والدراسة للوصول إلى سِرٍّ من أسرار الله في كونه، وفي النهاية ينتفع الناس بأعمالهم، ويُحْرمون هم ثواب هذا العمل.
وقوله: {فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} الرزق كل ما ينتفع به الإنسان، وليس مجرد المال كما يظن البعض، فالعافية رزق، والسلامة رزق، والعلم رزق، والحلم رزق، كلُّ ما تنتفع به رزقٌ لك {بِغَيْرِ حِسَابٍ} كلمة حساب تعني: أنك تحسب للشيء حساباً على قدره.
أما في الآخرة فالرزق فيها بغير حساب، أي: بغير حساب من أحد لأن المعطي الرازق هو الله، والله حين يعطيك لا يعطيك على قدر عملك، إنما يعطيك على قدره هو سبحانه.
وحين يأتيك الخير غير المظنون تقول: لم أكُنْ أعمل له حساباً، فمعنى {بِغَيْرِ حِسَابٍ} يعني: طلاقة قدرة في العطاء، قدرة تعطى للمعطي بلا حساب مُسبَّب منه، وبلا حساب على قدرك، فالمسألة إذن واسعة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} فلا فرق في قيمة العمل بين إنسانٍ وآخر ذكراً كان أو أنثى؛ لأن الأنوثة والذكورة لا تمنحان طبيعة العمل آية ميزةٍ، فقد يكون عمل المرأة أفضل من عمل الرجل أو العكس، وقد يتساوى عملهما في القيمة،
{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} لأن الإيمان هو المضمون الروحي الذي يميّز روحية العمل، ويمنحه معنى يتصل بالله بدلاً من أن يبقى جامداً في مضمونه المادي الذي يتصل بالأرض.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ القضية ليست فناء هذه الدنيا وبقاء الآخرة وحسب، بل الأهم من ذلك هي قضية الحساب والجزاء... إنّ مؤمن آل فرعون بكلامه هذا أثار أولا قضية عدالة الله تبارك وتعالى، حيث يقاضي الإنسان بما اكتسبت يداه خيراً أو شرّاً. و من جهة ثانية أشار في كلامه إلى الثواب والفضل الإلهي لذوي العمل الصالح، إنّه الجزاء الذي لا يخضع لموازين الحساب الكمية، إذ يهب الله تبارك وتعالى للمؤمنين بغير حساب، ممّا لم تره عين أو تسمعه أذن ولا يخطر على فكر إنسان. ومن جهة ثالثة أشار للتلازم القائم بين الإيمان والعمل الصالح. ورابعة يشير أيضاً إلى مساواة الرجل والمرأة في محضر الله تبارك وتعالى، وفي القيم الإنسانية. لقد استخلص مؤمن آل فرعون من خلال طرحه الآنف الذكر في أنّ الحياة الدنيا وإن كانت متاعاً لا يغني شيئاً عن الحياة الأُخرى، إلاّ أنّه يمكن أن يكون وسيلة للجزاء اللامتناهي والعطايا التي تصدر عن المطلق جلّ وعلا. إذن هل هناك تجارة أربح من هذا؟ كما ينبغي أن نقول: إنّ عبارة «مثلها» تشير إلى أنّ العقاب في العالم الآخر يشبه نفس العمل الذي قام به الإنسان في هذه الدنيا، متشابهة كاملة بكل ما للكلمة من دلالة ومعنى...