{ فكذبوه } يعني صالحاً ، { فعقروها } يعني الناقة . { فدمدم عليهم ربهم } قال عطاء ومقاتل : فدمر عليهم ربهم فأهلكهم . قال المدرج : الدمدمة الهلاك باستئصال . { بذنبهم } بتكذيبهم الرسول وعقرهم الناقة ، { فسواها } الدمدمة عليهم جميعاً ، وعمهم بها فلم يفلت منهم أحد . وقال الفراء : سوى الأمة وأنزل العذاب بصغيرها وكبيرها ، يعني سوى بينهم .
{ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ } أي : دمر عليهم وعمهم بعقابه ، وأرسل عليهم الصيحة من فوقهم ، والرجفة من تحتهم ، فأصبحوا جاثمين على ركبهم ، لا تجد منهم داعيًا ولا مجيبا .
{ فَسَوَّاهَا } عليهم أي : سوى بينهم بالعقوبة{[1440]}
فكذبوا النذير فعقروا الناقة . والذي عقرها هو هذا الأشقى . ولكنهم جميعا حملوا التبعة وعدوا أنهم عقروها ، لأنهم لم يضربوا على يده ، بل استحسنوا فعلته . وهذا مبدأ من مبادئ الإسلام الرئيسية في التكافل في التبعة الإجتماعية في الحياة الدنيا . لا يتعارض مع التبعة الفردية في الجزاء الأخروي حيث لا تزر وازرة وزر أخرى . على أنه من الوزر إهمال التناصح والتكافل والحض على البر والأخذ على يد البغي والشر .
عندئذ تتحرك يد القدرة لتبطش البطشة الكبرى : ( فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ) . .
والدمدمة الغضب وما يتبعه من تنكيل . واللفظ ذاته . . ( دمدم )يوحي بما وراءه ، ويصور معناه بجرسه ، ويكاد يرسم مشهدا مروعا مخيفا ! وقد سوى الله أرضهم عاليها بسافلها ، وهو المشهد الذي يرتسم بعد الدمار العنيف الشديد . .
وقوله : فَكَذّبُوهُ فَعَقَرُوها يقول : فكذّبوا صالحا في خبره الذي أخبرهم به ، من أن الله الذي جعل شِرْبَ الناقة يوما ، ولهم شربُ يوم معلوم ، وأن اللّهُ يحِلّ بهم نقمته ، إن هم عقروها ، كما وصفهم جلّ ثناؤه فقال : كَذّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقَارِعَةِ ، وقد يحتمل أن يكون التكذيب بالعقْر . وإذا كان ذلك كذلك ، جاز تقديم التكذيب قبل العقر ، والعقر قبل التكذيب ، وذلك أن كلّ فعل وقع عن سبب حسن ابتداؤه قبل السبب وبعده ، كقول القائل : أعطيت فأحسنت ، وأحسنت فأعطيت ، لأن الإعطاء : هو الإحسان ، ومن الإحسان الإعطاء ، وكذلك لو كان العَقْر هو سبب التكذيب ، جاز تقديم أيّ ذلك شاء المتكلم . وقد زعم بعضهم أن قوله : فَكَذّبُوهُ كلمة مكتفية بنفسها ، وأن قوله : فَعَقَرُوها جواب لقوله : إذِ انْبَعَث أشْقاها كأنه قيل : إذ انبعث أشقاها فعقرها ، فقال : وكيف ؟ قيل فَكَذّبُوهُ فَعَقَرُوها وقد كان القوم قبل قتل الناقة مُسَلّمين ، لها شرب يوم ، ولهم شرب يوم آخر . قيل : جاء الخبر أنهم بعد تسليمهم ذلك ، أجمعوا على منعها الشربَ ، ورضُوا بقتلها ، وعن رضا جميعهم قَتَلها قاتِلُها ، وعَقَرها مَنْ عقرها ولذلك نُسب التكذيب والعقر إلى جميعهم ، فقال جلّ ثناؤه : فَكَذّبُوهُ فَعَقَرُوها .
وقوله : فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوّاها يقول تعالى ذكره : فدمّر عليهم ربهم بذنبهم ذلك ، وكفّرهم به ، وتكذيبهم رسوله صالحا ، وعَقْرهم ناقته فَسَوّاها يقول : فَسوّى الدمدمة عليهم جميعهم ، فلم يُفْلِت منهم أحد ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوّاها ذُكر لنا أن أحيمرَ ثمود أبى أن يعقِرَها ، حتى بايعه صغيرُهم وكبيرُهم ، وذَكَرُهم وأنثاهم ، فلما اشترك القومُ في عَقْرها دمدم الله عليهم بذنبهم فسوّاها .
حدثني بشر بن آدم ، قال : حدثنا قُتيبة ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : سمعت الحسن يقول : لما عقروا الناقةَ طلبوا فَصِيلَها ، فصار في قارة الجبل ، فقطع اللّهُ قلوبَهم .
وبهذا الاعتبار استقام التعبير عن مقابلة التحذير بالتكذيب مع أن التحذير إنشاء ، فالتكذيب إنما يتوجه إلى ما في التحذير من الإِنذار بالعذاب .
والعَقْر : جرح البعير في يديه ليبرك على الأرض من الألم فينحَر في لبته ، فالعقر كناية مشهورة عن النحر لتلازمهما .
{ فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا } .
أي صاح عليهم ربهم صيحة غضب . والمراد بهذه الدمدمة صوت الصاعقة والرجفة التي أهلكوا بها قال تعالى : { فأخذتهم الصيحة } [ الحجر : 73 ] ، وإسناد ذلك إلى الله مجاز عقلي لأن الله هو خالق الصيحة وكيفياتها .
فوزن دَمْدَم فَعْلَل ، وقال أكثر المفسرين : دمدم عليهم أطبق عليهم الأرض ، يقال : دَمَّمَ عليه القبر ، إذا أطبقه ودَمْدَم مكرر دَمَّم للمبالغة مثل كَبْكَب ، وعليه فوزن دَمْدَم فَعْلَلَ .
وفرع على « دمدم عليهم » { فسواها } أي فاستَووا في إصابتها لهم ، فضمير النصب عائد إلى الدمدمة المأخوذة من « دمدم عليهم » .
ومن فسروا « دمدم » بمعنى : أطبق عليهم الأرض قالوا معنَى « سوَّاها » : جعل الأرض مستوية عليهم لا تظهر فيها أجسادهم ولا بلادهم ، وجَعَلوا ضمير المؤنث عائداً إلى الأرض المفهومة من فعل « دمدم » فيكون كقوله تعالى : { لو تسوى بهم الأرض } [ النساء : 42 ] .
وبين { فسواها } هنا وقوله : { وما سواها } [ الشمس : 7 ] قبله محسن الجناس التام .
والعقبى : ما يحصل عقِب فعل من الأفعال مِن تبعة لفاعِلِه أو مَثوبة ، ولما كان المذكور عقاباً وغلبة وكان العرف أن المغلوب يكنّى في نفسه الأخذ بالثأر من غالبه فلا يهدَأ له بال حتى يثأر لنفسه ، ولذلك يقولون : الثَّأْر المُنِيم ، أي الذي يزيل النوم عن صاحبه ، فكان الذي يغلب غيره يتقي حذراً من أن يتمكن مغلوبُه من الثأر ، أخْبَرَ الله أنه الغالب الذي لا يقدر مغلوبُه على أخذ الثأر منه ، وهذا كناية عن تمكن الله من عقاب المشركين ، وأن تأخير العذاب عنهم إمهال لهم وليس عن عجز فجملة { فلا يخاف عقباها } تذييل للكلام وإيذان بالختام .
ويجوز أن يكون قوله : { فلا يخاف عقباها } تمثيلاً لحالهم في الاستئصال بحال من لم يترك مَن يثأر له فيكون المثَل كناية عن هلاكهم عن بكرة أبيهم لم يبق منهم أحد .