{ وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِلَىَ اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : أنه يعاقب الذين كفروا بعد إيمانهم بما ذكر أنه معاقبهم به من العذاب العظيم ، وتسويد الوجوه ، ويثيب أهل الإيمان به ، الذين ثبتوا على التصديق والوفاء بعهودهم التي عاهدوا عليها ، بما وصف أنه مثيبهم به ، من الخلود في جناته ، من غير ظلم منه لأحد الفريقين فيما فعل ، لأنه لا حاجة به إلى الظلم ، وذلك أن الظالم إنما يظلم غيره ليزداد إلى عزّته عزّة بظلمه إياه ، وإلى سلطانه سلطانا ، وإلى ملكه ملكا ، لنقصان في بعض أسبابه ، يتمم بما ظلم غيره فيه ما كان ناقصا من أسبابه عن التمام ، فأما من كان له جميع ما بين أقطار المشارق والمغارب ، وما في الدنيا والاَخرة ، فلا معنى لظلمه أحدا فيجوز أن يظلم شيئا ، لأنه ليس من أسبابه شيء ناقص يحتاج إلى تمام ، فيتمّ ذلك بظلم غيره ، تعالى الله علوّا كبيرا¹ ولذلك قال جلّ ثناؤه عقيب قوله : { وَما اللّهُ يُرِيدُ ظُلْما للْعالَمِينَ } { ولِلّهِ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ وإلى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } .
واختلف أهل العربية في وجه تكرير الله تعالى ذكره اسمه مع قوله : { وإلى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ } ظاهرا وقد تقدم اسمه ظاهرا مع قوله : { وَلِلّهِ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ } فقال بعض أهل العربية من أهل البصرة : ذلك نظير قول العرب : أما زيد فذهب زيد ، وكما قال الشاعر :
لا أرَى الموتَ يسبقُ الموتَ شَيْءٌ *** نَغّصَ المَوْتُ ذا الغنى والفقيرا
فأظهر في موضع الإضمار . وقال بعض نحويي الكوفة : ليس ذلك نظير هذا البيت ، لأن موضع الموت الثاني في البيت موضع كناية ، لأنه كلمة واحدة ، وليس ذلك كذلك في الاَية ، لأن قوله : { وَلِلّهِ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ } خبر ليس من قوله : { وإلى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } في شيء ، وذلك أن كل واحدة من القصتين مفارق معناها معنى الأخرى ، مكتفية كل واحدة منهما بنفسها ، غير محتاجة إلى الأخرى ، وما قال الشاعر : «لا أرى » الموت محتاج إلى تمام الخبر عنه .
وهذا القول الثاني عندنا أولى بالصواب ، لأن كتاب الله عزّ وجلّ لا يؤخذ معانيه ، وما فيه من البيان إلى الشواذّ من الكلام والمعاني وله في الفصيح من المنطق والظاهر من المعاني المفهوم وجه صحيح موجود .
وأما قوله : { وإلى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ } فإنه يعني تعالى ذكره : إلى الله مصير أمر جميع خلقه الصالح منهم ، والطالح والمحسن والمسيء ، فيجازي كلاّ على قدر استحقاقهم منه الجزاء بغير ظلم منه أحدا منهم .
{ تلك آيات الله } الواردة في وعده ووعيده { نتلوها عليك بالحق } ملتبسة بالحق لا شبهة فيها . { وما الله يريد ظلما للعالمين } إذ يستحيل الظلم منه لأنه لا يحق عليه شيء فيظلم بنقصه ، ولا يمنع عن شيء فيظلم بفعله ، لأنه المالك على الإطلاق كما قال .
{ ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور } فيجازي كلا بما وعد له وأوعد .
ولما كان للذهن أن يقف هنا في الوجه الذي به خص الله قوماً بعمل يرحمهم من أجله ، وآخرين بعمل يعذبهم عليه ، ذكر تعالى الحجة القاطعة في ملكه جميع المخلوقات ، وأن «الحق » لا يعترض عليه ، وذلك في قوله ، { ولله ما في السموات وما في الأرض } الآية ، وقال : { ما } ولم يقل «من » من حيث هي جمل وأجناس ، وذكر الطبري : أن بعض البصريين نظر قوله تعالى : { وإلى الله } فأظهر الاسم ، ولم يقل إليه بقول الشاعر :
لا أرى الموتَ يسبقُ الموتَ شيءٌ . . . نَغَّصَ الموتُ ذا الغنى والْفَقيرا{[3414]}
وما جرى مجراه ، وقاله الزجّاج ، وحكي أن العرب تفعل ذلك إرادة تفخيم الكلام والتنبيه على عظم المعنى .
قال القاضي أبو محمد : والآية تشبه البيت في قصد فخامة النظم ، وتفارقه من حيث الآية جملتان مفترقتان في المعنى ، فلو تكررت جمل كثيرة على هذا الحد لحسن فيها كلها إظهار الاسم ، وليس التعرض بالضمير في ذلك بعرف ، وأما البيت وما أشبهه فالضمير فيه هو العرف ، إذ الكلام في معنى واحد ، ولا يجوز إظهار الاسم إلا في المعاني الفخمة في النفوس من التي يؤمن فيها اللبس على السامع ، وقرأ بعض السبعة ، «تَرجع الأمور » بفتح التاء على بناء الفعل للفاعل ، وقد تقدم ذكر ذلك .
وقوله { ولله ما في السماوات وما في الأرض } [ البقرة : 284 ] عطف على التذييل : لأنَّه إذا كان له ما في السموات وما في الأرض فهو يريد صلاح حالهم ، ولا حاجة له بإضرارهم إلا للجزاء على أفعالهم . فلا يريد ظلمهم ، وإليه ترجع الأشياء كُلّها فلا يفوته ثواب محسن ولا جزاء مسيء .
وتكرير اسم الجلالة ثلاث مرات في الجمل الثلاث التي بعد الأولى بدون إضمار للقصد إلى أن تكون كلّ جملة مستقلّة الدلالة بنفسها ، غير متوقّفة على غيرها ، حتَّى تصلح لأن يتمثّل بها ، وتستحضرها النُّفوس وتحفظها الأسماع .