يوبخ تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى على كفرهم بآيات الله التي أنزلها الله على رسله ، التي جعلها رحمة لعباده يهتدون بها إليه ، ويستدلون بها على جميع المطالب المهمة والعلوم النافعة ، فهؤلاء الكفرة جمعوا بين الكفر بها وصد من آمن بالله عنها وتحريفها وتعويجها عما جعلت له ، وهم شاهدون بذلك عالمون بأن ما فعلوه أعظم الكفر الموجب لأعظم العقوبة { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون } فلهذا توعدهم هنا بقوله : { وما الله بغافل عما تعملون } بل محيط بأعمالكم{[160]} ونياتكم ومكركم السيء ، فمجازيكم عليه أشر الجزاء .
بعد هذا البيان يلقن الرسول [ ص ] أن يتجه إلى أهل الكتاب بالتنديد والتهديد ، على موقفهم من الحق الذي يعلمونه ، ثم يصدون عنه ، ويكفرون بآيات الله . وهم شهداء على صحتها ، وهم من صدقها على يقين :
( قل : يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ، والله شهيد على ما تعملون ؟ قل : يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء ؟ وما الله بغافل عما تعملون ) . .
وقد تكرر مثل هذا التنديد في هذه السورة ، وفي سور غيرها كثيرة . وأول ما يتركه هذا التنديد من أثر هو مجابهته أهل الكتاب بحقيقة موقفهم ، ووصفهم بصفتهم ، التي يدارونها بمظهر الإيمان والتدين ، بينما هم في حقيقتهم كفار . فهم يكفرون بآيات الله القرآنية . ومن يكفر بشيء من كتاب الله فقد كفر بالكتاب كله . ولو أنهم آمنوا بالنصيب الذي معهم لآمنوا بكل رسول جاء من عند الله بعد رسولهم . فحقيقة الدين واحدة . من عرفها عرف أن كل ما يجيء به الرسل من بعد حق ، وأوجب على نفسه الإسلام لله على أيديهم . . وهي حقيقة من شأنها أن تهزهم وأن تخوفهم عاقبة ما هم فيه .
ثم إن المخدوعين من الجماعة المسلمة بكون هؤلاء الناس أهل كتاب ، يسقط هذا الخداع عنهم ، وهم يرون الله - سبحانه - يعلن حقيقة أهل الكتاب هؤلاء ، ويدمغهم بالكفر الكامل الصريح . فلا تبقى بعد هذا ريبة لمستريب .
وهو - سبحانه - يهددهم بما يخلع القلوب :
( والله شهيد على ما تعملون ) . . ( وما الله بغافل عما تعملون ) . .
وهو تهديد رعيب ، حين يحس إنسان أن الله يشهد عمله . وأنه ليس بغافل عنه . بينما عمله هو الكفر والخداع والإفساد والتضليل !
{ قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ }
يعني بذلك : يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر من ينتحل الديانة بما أنزل الله عزّ وجلّ من كتبه ، ممن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وجحد نبوّته¹ لم تجحدون بآيات الله ؟ يقول : لم تجحدون حجج الله التي آتاها محمدا في كتبكم وغيرها ، التي قد ثبتت عليكم بصدقه ونبوّته وحُجّته . «وأنتم تعلمون » ، يقول : لم تجحدون ذلك من أمره ، وأنتم تعلمون صدقه . فأخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم معتمدون الكفر بالله وبرسوله ، على علم منهم ومعرفة من كفرهم . وقد :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { يا أهْلِ الكِتابِ لِمَ تَكْفُرونَ بآياتِ اللّهِ } أما آيات الله : فمحمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : { يا أهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ واللّهُ شَهِيدٌ على ما تَعْمَلُونَ } قال : هم اليهود والنصارى .
{ قل يا أهل الكتاب لما تكفرون بآيات الله } أي بآياته السمعية والعقلية الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره ، وتخصيص أهل الكتاب بالخطاب دليل على أن كفرهم أقبح ، لأن معرفتهم بالآيات أقوى وأنهم وإن زعموا أنهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل فهم كافرون بهما . { والله شهيد على ما تعملون } والحال أنه شهيد مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها لا ينفعكم التحريف والاستسرار .
هذه الآيات توبيخ لليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم و { الكتاب } التوراة ، وجعلهم أهله بحسب زعمهم ونسبهم ، وإلا فأهله على الحقيقة هم المؤمنون ، و «آيات الله » يحتمل أن يريد بها القرآن ، ويحتمل أن يراد بالآيات العلامات الظاهرة على يدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { الله شهيد على ما تعملون } وعيد محض : أي يجازيكم به ويعاقبكم ، قال الطبري : هاتان الآيتان قوله ، { قل يا أهل الكتاب لم تكفرون } وما بعدهما ، إلى قوله { أولئك لهم عذاب عظيم } [ آل عمران : 105 ] ، نزلت بسبب رجل من يهود ، حاول الإغواء بين الأوس والخزرج ، قال ابن إسحاق{[3362]} : حدثني الثقة عن زيد بن أسلم ، مر شاس ابن قيس اليهودي ، وكان شيخاً قد عسا{[3363]} في الجاهلية ، عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين ، والحسد لهم ، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج ، وهم في مجلس يتحدثون ، فغاظه ما رأى من جماعتهم ، وصلاح ذات بينهم ، بعد ما كان بينهم من العداوة فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة{[3364]} بهذه البلاد ، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار ، فأمر فتى شاباً من يهود ، فقال أمد إليهم ، واجلس معهم ، وذكرهم يوم بعاث{[3365]} ، وما كان قبله من أيام حربهم ، وأنشدهم ما قالوه من الشعر في ذلك ، ففعل الفتى ، فتكلم القوم عند ذلك فتفاخروا وتنازعوا ، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب ، أوس بن قيظي{[3366]} ، أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس ، وجبار بن صخر{[3367]} من الخزرج ، فتقاولا ، ثم قال أحدهما : لصاحبه : إن شئتم والله رددناها الآن جذعة{[3368]} ، فغضب الفريقان : وقالوا : قد فعلنا السلاح السلاح ، موعدكم الظاهرة ، يريدون الحرة ، فخرجوا إليها ، وتحاور الناس على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين ، فقال : يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ، ووعظهم فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، فألقوا السلاح وبكوا وعانق الناس بعضهم بعضاً من الأوس والخزرج ، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سامعين مطيعين فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع هذه الآيات{[3369]} ، وقال الحسن وقتادة والسدي : إن هذه الآيات نزلت في أحبار اليهود الذين كانوا يصدون المسلمين عن الإسلام ، بأن يقولوا لهم ، إن محمداً ليس بالموصوف في كتابنا{[3370]} .
قال الفقيه الإمام : ولا شك في وقوع هذين السببين وما شاكلهما من أفعال اليهود وأقوالهم ، فنزلت الآيات في جميع ذلك .