ولهذا قال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } أي : مدة مقامه في الدنيا لا ينتفع به بمثقال ذرة { وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } لا يسمعون منهم دعاء ولا يجيبون لهم نداء هذا حالهم في الدنيا ، ويوم القيامة يكفرون بشركهم .
ثم يأخذ بهم إلى نظرة موضوعية في حقيقة هذه الآلهة المدعاة ، منددا بضلالهم في اتخاذها ، وهي لا تستجيب لهم ، ولا تشعر بدعائهم في الدنيا ؛ ثم هي تخاصمهم يوم القيامة ، وتنكر دعواهم في عبادتها :
( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة ، وهم عن دعائهم غافلون ? وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ) . .
وقد كان بعضهم يتخذ الأصنام آلهة . إما لذاتها وإما باعتبارها تماثيل للملائكة . وبعضهم يتخذ الأشجار ، وبعضهم يتخذ الملائكة مباشرة أو الشيطان . . وكلها لا تستجيب لداعيها أصلا . أو لا تستجيب له استجابة نافعة . فالأحجار والأشجار لا تستجيب . والملائكة لا يستجيبون للمشركين . والشياطين لا تستجيب إلا بالوسوسة والإضلال .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ أَضَلّ مِمّن يَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَن لاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وأيّ عبد أضلّ من عبد يدعو من دون الله آلهة لا تستجيب له إلى يوم القيامة : يقول : لا تُجيب دعاءه أبدا ، لأنها حجر أو خشب أو نحو ذلك .
وقوله : وهُمْ عَنْ دُعائهِمْ غافِلُون يقول تعالى ذكره : وآلهتهم التي يدعونهم عن دعائهم إياهم في غفلة ، لأنها لا تسمع ولا تنطق ، ولا تعقل . وإنما عنى بوصفها بالغفلة ، تمثيلها بالإنسان الساهي عما يقال له ، إذ كانت لا تفهم مما يقال لها شيئا ، كما لا يفهم الغافل عن الشيء ما غفل عنه . وإنما هذا توبيخ من الله لهؤلاء المشركين لسوء رأيهم ، وقُبح اختيارهم في عبادتهم ، من لا يعقل شيئا ولا يفهم ، وتركهم عبادة من جميع ما بهم من نعمته ، ومن به استغاثتهم عندما ينزل بهم من الحوائج والمصائب . وقيل : من لا يستجيب له ، فأخرج ذكر الاَلهة وهي جماد مخرج ذكر بني آدم ، ومن له الاختيار والتمييز ، إذ كانت قد مثلتها عبدتها بالملوك والأمراء التي تخدم في خدمتهم إياها ، فأجرى الكلام في ذلك على نحو ما كان جاريا فيه عندهم .
{ ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له } إنكار أن يكون أحد أضل من المشركين حيث تركوا عبادة السميع البصير المجيب القادر الخبير إلى عبادة من لا يستجيب لهم لو سمع دعاءهم ، فضلا أن يعلم سرائرهم ويراعي مصالحهم . { إلى يوم القيامة } ما دامت الدنيا . { وهم عن دعائهم غافلون } لأنهم إما جمادات وإما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن أضل ممن يدعوا} يقول: فلا أحد أضل ممن يعبد {من دون الله} من الآلهة {من لا يستجيب له} أبدا إذا دعاء يقول: لا تجيبهم الآلهة يعني الأصنام بشيء أبدا {إلى يوم القيامة}.
ثم قال: {وهم عن دعائهم غافلون} يعني الآلهة غافلون عن من يعبدها، فأخبر الله عنها في الدنيا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأيّ عبد أضلّ من عبد يدعو من دون الله آلهة لا تستجيب له إلى يوم القيامة: يقول: لا تُجيب دعاءه أبدا، لأنها حجر أو خشب أو نحو ذلك.
وقوله:"وهُمْ عَنْ دُعائهِمْ غافِلُون" يقول تعالى ذكره: وآلهتهم التي يدعونهم عن دعائهم إياهم في غفلة، لأنها لا تسمع ولا تنطق، ولا تعقل. وإنما عنى بوصفها بالغفلة، تمثيلها بالإنسان الساهي عما يقال له، إذ كانت لا تفهم مما يقال لها شيئا، كما لا يفهم الغافل عن الشيء ما غفل عنه. وإنما هذا توبيخ من الله لهؤلاء المشركين لسوء رأيهم، وقُبح اختيارهم في عبادتهم، من لا يعقل شيئا ولا يفهم، وتركهم عبادة من جميع ما بهم من نعمته، ومن به استغاثتهم عندما ينزل بهم من الحوائج والمصائب. وقيل: من لا يستجيب له، فأخرج ذكر الآلهة وهي جماد مخرج ذكر بني آدم، ومن له الاختيار والتمييز، إذ كانت قد مثلتها عبدتها بالملوك والأمراء التي تخدم في خدمتهم إياها، فأجرى الكلام في ذلك على نحو ما كان جاريا فيه عندهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم ذكر سفههم، وبيّن نهاية تعنّتهم، وهو قوله تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة} يحتمل وجهين: أحدهما: لأنه لا يملك إجابته، ولا يحتمل ذلك. والثاني: {لا يستجيب له إلى يوم القيامة} ثم إجابته يوم القيامة إجابة باللعن والتّبرّي كقوله تعالى: {ويوم القيامة يكفُر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا} [العنكبوت: 25...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" غافلون "أي ذاهبون عن الفكر فيه، لأنهم لا يعقلون ولا يفقهون.
والغفلة: ذهاب المعنى عن نفس العاقل بمعنى يمتنع به إدراكه. وضده اليقظة، وهو حضور المعنى لنفس العاقل بما يجد إدراكه،...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مَنْ أشدُّ ضلالاً مِمَّنْ عَبَدَ الجمادَ الذي ليس له حياة ولا له في النفع أو الضر إثبات؟...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَنْ أَضَلُّ} معنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالاً من عبدة الأصنام، حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر عل تحصيل كلّ بغية ومرام، ويدعون من دونه جماداً لا يستجيب لهم ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة، وإذا قامت القيامة وحشر الناس: كانوا لهم أعداء، وكانوا عليهم ضداً، فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرّة، لا تتولاهم في الدنيا بالاستجابة؛ وفي الآخرة تعاديهم وتجحد عبادتهم...
ووصفهم بترك الاستجابة والغفلة طريقه طريق التهكم بها وبعبدتها...
{ومن أضل ممن يدعوا من دون الله} استفهام على سبيل الإنكار والمعنى أنه لا أمرا أبعد عن الحق، وأقرب إلى الجهل ممن يدعوا من دون الله الأصنام، فيتخذها آلهة ويعبدها وهي إذا دعيت لا تسمع، ولا تصح منها الإجابة لا في الحال ولا بعد ذلك اليوم إلى يوم القيامة، وإنما جعل ذلك غاية لأن يوم القيامة قد قيل إنه تعالى يحييها وتقع بينها وبين من يعبدها مخاطبة فلذلك جعله تعالى حدا.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وهم في الآخرة أعداء لهم، فليس لهم في الدنيا بهم نفع، وهم عليهم في الآخرة ضرر، كما قال تعالى: {سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ومن أضل ممن} يدعي أعظم الأشياء بغير دليل ما عقلي ولا نقلي، فهو {يدعوا} ما لا قدرة له ولا علم، وما انتفت قدرته وعلمه لم تصح عبادته ببديهة العقل، وأرشد إلى سفولها بقوله تعالى: {من دون الله} أي من أدنى رتبة من رتب- الذي له جميع صفات الجلال والجمال والكمال...
{من لا يستجيب له} أي لا يوجد الإجابة ولا يطلب إيجادها من الأصنام وغيرها لأنه لا أهلية له لذلك. ولما كان أقل الاستجابة مطلق الكلام، وكانوا في الآخرة يكلمونهم في الجملة وإن كان بما يضرهم، غيى هذا النفي بوقت لا ينفع فيه استجابة أصلاً ولا يغني أحد عن أحد أبداً فقال تعالى: {إلى يوم القيامة} أي الذي صرفنا لهم من أدلته ما هو أوضح من الشمس ولا يزيدهم لك إلا- إنكاراً وركوناً إلى ما لا دليل عليه أصلاً...
{وهم عن دعائهم} أي دعاء المشركين إياهم {غافلون} أي لهم هذا الوصف ثابت لا ينفكون عنه، لا يعلمون من يدعوهم ولا من لا يدعوهم، وعبر بالغفلة التي هي من أوصاف العقلاء للجماد تغليباً إن كان المراد أعم من الأصنام وغيرها ممن عبدوه من عقلاء الإنس والجن وغيرهم واتصافاً إن كان المراد الأصنام خاصة، أو تهكماً كأنه قيل: هم علماء فإنكم أجل مقاماً من أن تعبدوا ما لا يعقل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: لا أحد أشدّ ضلالاً وأعجب حالاً ممن يدعون من دون الله من لا يستجيب له دعاءه فهو أقصى حد من الضلالة. ووجه ذلك أنهم ضلوا عن دلائل الوحدانية وادّعوا لله شركاء بلا دليل واختاروا الشركاء من حجارة وهي أبعد الموجودات عن قبول صفات الخلق والتكوين والتصرف ثم يدعونها في نوائبهم وهم يشاهدون أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تجيب ثم سمعوا آيات القرآن توضح لهم الذكرى بنقائص آلهتهم، فلم يعتبروا بها وزعموا أنها سحر ظاهر فكان ضلالهم أقصى حد في الضلال...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويرى بعض المفسّرين أنّ مرجع الضمير في هذه الآية إلى الأصنام الجامدة الميتة، باعتبار أنّ أكثر آلهة مشركي العرب كانت الأصنام. واعتبره البعض إشارة إلى الملائكة والبشر الذين عبدوا من دون الله، لأنّ عبدة الملائكة والجن لم يكونوا قلّة بين العرب، والتعبيرات المختلفة لهذه الآية، والمتناسبة مع ذوي العقول تؤيد هذا المعنى. لكن لا مانع من أن نفسر الآية بمعناها الواسع، فتدخل فيه كلّ هذه المعبودات، سواء الحية والميتة، العاقلة وغير العاقلة، فتكون التعابير متناسبة مع ذوي العقول من باب التغليب...