قوله تعالى : { يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } . قرأ حمزة والكسائي وحفص بالياء فيهما ، إخبارا عن الأمة القائمة ، وقرأ الآخرون بالتاء فيهما ، لقوله ( كنتم خير أمة ) وأبو عمرو يرى القراءتين جميعاً ، ومعنى الآية : وما تفعلوا من خير فلن تعدموا ثوابه ، بل يشكر لكم وتجازون عليه .
يتألف هذا الجزء من بقية سورة آل عمران ، ومن أوائل سورة النساء ، إلى قوله تعالى : ( والمحصنات من النساء . . . ) .
وهذه البقية من سورة آل عمران تتألف من أربعة مقاطع رئيسية ، تكمل خط سير السورة ، الذي أفضنا في الحديث عنه في مطلعها - في الجزء الثالث - بما لا مجال لإعادته هنا ، فيرجع إليه هناك . .
( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل - إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة - قل : فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين . فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ) .
لقد كان اليهود يتصيدون كل حجة ، وكل شبهة ، وكل حيلة ، لينفذوا منها إلى الطعن في صحة الرسالة المحمدية ، وإلى بلبلة الأفكار وإشاعة الاضطراب في العقول والقلوب . . فلما قال القرآن : إنه مصدق لما في التوراة برزوا يقولون : فما بال القرآن يحلل من الأطعمة ما حرم على بني إسرائيل ؟ وتذكر الروايات أنهم ذكروا بالذات لحوم الإبل وألبانها . . وهي محرمة على بني إسرائيل . وهناك محرمات أخرى كذلك أحلها الله للمسلمين .
وهنا يردهم القرآن إلى الحقيقة التاريخية التي يتجاهلونها للتشكيك في صحة ما جاء في القرآن من أنه مصدق للتوراة ، وأنه مع هذا أحل للمسلمين بعض ما كان محرما على بني إسرائيل . . هذه الحقيقة هي أن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل - إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة - وإسرائيل هو يعقوب - عليه السلام - وتقول الروايات إنه مرض مرضا شديدا ، فنذر لله لئن عافاه ليمتنعن - تطوعا - عن لحوم الإبل وألبانها وكانت أحب شيء إلى نفسه . فقبل الله منه نذره . وجرت سنة بني إسرائيل على اتباع أبيهم في تحريم ما حرم . . كذلك حرم الله على بني إسرائيل مطاعم أخرى عقوبة لهم على معصيات ارتكبوها . وأشير إلى هذه المحرمات في آية " الأنعام " : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ، ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ) . .
وكانت قبل هذا التحريم حلالا لبني إسرائيل .
يردهم الله سبحانه إلى هذه الحقيقة ، ليبين أن الأصل في هذه المطاعم هو الحل ، وأنها إنما حرمت عليهم لملابسات خاصة بهم . فإذا أحلها للمسلمين فهذا هو الأصل الذي لا يثير الاعتراض ، ولا الشك في صحة هذا القرآن ، وهذه الشريعة الإلهية الأخيرة .
ويتحداهم أن يرجعوا إلى التوراة ، وأن يأتوا بها ليقرأوها ، وسيجدون فيها أن أسباب التحريم خاصة بهم ، وليست عامة .
( قل : فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) . .
وهذا الوعد الصادق لهم أنهم لن يبخسوا حقا ، ولن يكفروا أجرا . مع الإشارة إلى أن الله - سبحانه - علم أنهم من المتقين . .
وهي صورة ترفع أمام الراغبين في هذه الشهادة ، وفي هذا الوعد ، ليحققها في ذات نفسه كل من يشتاق إلى نورها الوضيء في أفقها المنير .
وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتّقِينَ
اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الكوفة : { وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْر فَلَنْ يُكْفَرُوهُ } جميعا ، ردّا على صفة القوم الذين وصفهم جلّ ثناؤه بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . وقرأته عامة قراء المدينة والحجاز وبعض قراء الكوفة بالتاء في الحرفين جميعا : { وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفُرُوهُ } بمعنى : وما تفعلوا أنتم أيها المؤمنون من خير فلن يكفركموه ربكم . وكان بعض قراء البصرة يرى القراءتين في ذلك جائزا بالياء والتاء في الحرفين .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا : { وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ } بالياء في الحرفين كليهما ، يعني بذلك الخبر عن الأمة القائمة ، التالية آيات الله . وإنما اخترنا ذلك ، لأن ما قبل هذه الاَية من الاَيات خبر عنهم ، فإلحاق هذه الاَية إذ كان لا دلالة فيها تدلّ على الانصراف عن صفتهم بمعاني الاَيات قبلها أولى من صرفها عن معاني ما قبلها . وبالذي اخترنا من القراءة كان ابن عباس يقرأ .
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن أبي عمرو بن العلاء ، قال : بلغني عن ابن عباس أنه كان يقرؤها جميعا بالياء .
فتأويل الاَية إذًا على ما اخترنا من القراءة : وما تفعل هذه الأمة من خير ، وتعمل من عمل لله فيه رضا فلن يكفرهم الله ذلك¹ يعني بذلك : فلن يبطل الله ثواب عملهم ذلك ، ولا يدعهم بغير جزاء منه لهم عليه ، ولكنه يجزل لهم الثواب عليه ، ويُسني لهم الكرامة والجزاء .
وقد دللنا على معنى الكفر مضى قبل بشواهده ، وأن أصله تغطية الشيء ، فكذلك ذلك في قوله : { فَلَنْ يُكْفَرُوهُ } : فلن يغطي على ما فعلوا من خير ، فيتركوا بغير مجازاة ، ولكنهم يشكرون على ما فعلوا من ذلك ، فيجزل لهم الثواب فيه .
وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل تأوّل ذلك من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَرُوهُ » يقول : لن يضلّ عنكم .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، بمثله .
وأما قوله : { وَاللّهُ عَليمٌ بالمُتّقِينَ } فإنه يقول تعالى ذكره : والله ذو علم بمن اتقاه بطاعته ، واجتناب معاصيه ، وحافظ أعمالهم الصالحة حتى يثيبهم عليها ، ويجازيهم بها . تبشيرا منه لهم جلّ ذكره في عاجل الدنيا ، وحضّا لهم على التمسك بالذي هم عليه من صالح الأخلاق التي ارتضاها لهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.