قوله عز وجل : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه } ، وذلك أن المشركين أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف ، فاستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم ، قال الله تعالى : { قل } للمشركين { ادعوا الذين زعمتم من دونه } أنها آلهة { فلا يملكون كشف الضر } ، القحط والجوع ، { عنكم ولا تحويلاً } ، إلى غيركم ، أو تحويل الحال من العسر إلى اليسر .
{ 56-57 } { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }
يقول تعالى : { قُلْ } للمشركين بالله الذين اتخذوا من دونه أندادا يعبدونهم كما يعبدون الله ويدعونهم كما يدعونه ملزما لهم بتصحيح ما زعموه واعتقدوه إن كانوا صادقين :
{ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ } آلهة من دون الله فانظروا هل ينفعونكم أو يدفعون عنكم الضر ، فإنهم لا { يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ } من مرض أو فقر أو شدة ونحو ذلك فلا يدفعونه بالكلية ، { وَلَا } يملكون أيضا تحويله من شخص إلى آخر من شدة إلى ما دونها .
فإذا كانوا بهذه الصفة فلأي شيء تدعونهم من دون الله ؟ فإنهم لا كمال لهم ولا فعال نافعة ، فاتخاذهم آلهة نقص في الدين والعقل وسفه في الرأي .
ومن العجب أن السفه عند الاعتياد والممارسة وتلقيه عن الآباء الضالين بالقبول يراه صاحبه هو الرأي : السديد والعقل المفيد .
ويرى إخلاص الدين لله الواحد الأحد الكامل المنعم بجميع النعم الظاهرة والباطنة هو السفه والأمر المتعجب منه كما قال المشركون : { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب }
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ ادْعُواْ الّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضّرّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لمشركي قومك الذين يعبدون من دون الله من خلقه : ادعو أيها القوم الذين زعمتم أنهم أرباب وآلهة من دونه عند ضرّ ينزل بكم ، فانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم ، أو تحويله عنكم إلى غيركم ، فتدعوهم آلهة ، فإنهم لا يقدرون على ذلك ، ولا يملكونه ، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم . وقيل : إن الذين أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول ، كانوا يعبدون الملائكة وعُزيرا والمسيح ، وبعضهم كانوا يعبدون نفرا من الجنّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قُلِ ادْعُوا الّذِين زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضّرّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً قال : كان أهل الشرك يقولون : نعبد الملائكة وعُزَيرا ، وهم الذين يدعون ، يعني الملائكة والمسيح وعُزيرا .
لم أر لهذه الآية تفسيراً ينثلج له الصدر ، والحيرة بادية على أقوال المفسرين في معناها وانتظام موقعها مع سابقها ، ولا حاجة إلى استقراء كلماتهم . ومرجعها إلى طريقتين في محمل { الذين زعمتم من دونه } إحداهما في « تفسير الطبري » وابن عطية عن ابن مسعود والحسن . وثانيتهما في « تفسير القرطبي » والفخر غير معزوة لقائل .
والذي أرى في تفسيرها أن جملة { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه } إلى { تحويلاً } معترضة بين جملة { ولقد فضلنا بعض النبيئين } [ الإسراء : 55 ] وجملة { أولئك الذين يدعون } [ الإسراء : 57 ] . وذلك أنه لما جرى ذكر الأفضلين من الأنبياء في أثناء آية الرد على المشركين مقالتهم في اصطفاء محمد صلى الله عليه وسلم للرسالة واصطفاء أتباعه لولايته ودينه ، وهي آية { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } [ الإسراء : 55 ] إلى آخرها ، جاءت المناسبة لرد مقالة أخرى من مقالاتهم الباطلة وهي اعتذارهم عن عبادة الأصنام بأنهم ما يعبدونهم إلا ليقربوهم إلى الله زلفى ، فجعلوهم عباداً مقربين ووسائل لهم إلى الله ، فلما جرى ذكر المقربين حقاً انتُهزت مناسبة ذكرهم لتكون مخلصاً إلى إبطال ما ادعوه من وسيلة أصنامهم على عادة إرشاد القرآن من اغتنام مناسبات الموعظة ، وذلك من أسلوب الخطباء . فهذه الآية متصلة المعنى بآية { قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً } [ الإسراء : 42 ] . فبعد أن أبطل أن يكون مع الله آلهة ببرهان العقل عاد إلى إبطال إلهيتهم المزعومة ببرهان الحسّ . وهو مشاهدة أنها لا تغني عنهم كشف الضر .
فأصل ارتباط الكلام هكذا : { ولقد فضلنا بعض النبيئين على بعض وآتينا داوود زبورا أولئك الذين يدعون يبتغون } الآية . فبمناسبة الثناء عليهم بابتهالهم إلى ربهم ذكر ضد ذلك من دعاء المشركين آلهتهم . وقدم ذلك ، على الكلام الذي أثار المناسبة ، اهتماماً بإبطال فعلهم ليكون إبطاله كالغرض المقصود ويكون ذكر مقابله كالاستدلال على ذلك الغرض . ولعل هذه الآية نزلت في مدة إصابة القحط قريشاً بمكّة ، وهي السبع السنون التي هي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف " وتسلسل الجدال وأخذ بعضه بحُجز بعض حتى انتهى إلى هذه المناسبة .
والمِلْكُ بمعنى الاستطاعة والقدرة كما في قوله : { قل فمن يملك من الله شيئاً } [ المائدة : 17 ] ، وقوله : { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً } في سورة [ العقود : 76 ] .
والمقصود من ذلك بيان البون بين الدعاء الحق والدعاء الباطل . ومن نظائر هذا المعنى في القرآن قوله تعالى : { إن وَلِيّي الله الذي نزَّل الكتاب وهو يتولَّى الصالحين والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون } في سورة [ الأعراف : 196 ، 197 ] .
والتحويل : نقل الشيء من مكان إلى مكان ، أي لا يستطيعون إزالة الضر عن الجميع ولا إزالته عن واحد إلى غيره .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.