اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلِ ٱدۡعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُم مِّن دُونِهِۦ فَلَا يَمۡلِكُونَ كَشۡفَ ٱلضُّرِّ عَنكُمۡ وَلَا تَحۡوِيلًا} (56)

قوله تعالى : { الذين زَعَمْتُم } : مفعولا الزَّعم محذوفان ؛ لفهم المعنى ، أي : زعمتموهم آلهة ، وحذفهما اختصاراً جائزٌ ، واقتصاراً فيه خلاف .

فصل في سبب نزول الآية

قال المفسرون : إن المشركين أصابهم قحطٌ شديدٌ ؛ حتَّى أكلوا الكلاب والجيفَ واستغاثوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم ، قال الله تعالى { قُلِ } للمشركين { ادعوا الذين زَعَمْتُم } أنها آلهة من دونه .

واعلم أنه ليس المراد الأصنام ؛ لأنَّه تعالى قال في صفتهم :

{ أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } [ الإسراء : 57 ]

وابتغاءُ الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام البتَّة ، وإذا ثبت هذا ، فنقول : إنَّ قوماً عبدوا الملائكة ، فنزلت هذه الآية فيهم .

وقال ابن عبَّاس رضي الله عنه ومجاهدٌ : إنَّها نزلت في الذين عبدوا المسيح ، وعزيراً ، والملائكة ، و الشمس ، والقمر ، والنجوم{[20489]} .

وقيل : إنَّ قوماً عبدوا نفراً من الجنِّ ، فأسلم النَّفر ، وبقي أولئك الناس متمسِّكين بعبادتهم ، فنزلت فيهم الآية .

قال ابن عباس : كل موضعٍ في كتاب الله ورد فيه لفظ الزعم ، فهو كذبٌ{[20490]} . ثم إنَّه تعالى احتجَّ على فساد مذهب هؤلاء بأنَّ الإله المعبود هو القادر على إزالةِ الضرر ، وإيصال النفع وهذه الأشياء التي يعبدونها ، وهي الملائكة ، والجنُّ ، والمسيحُ ، وعزيرٌ لا يقدرون على كشف الضرِّ ، ولا على تحصيل النَّفع ، فما الدليل على أنَّ الأمر كذلك ؟ فإن قلتم : لأنَّا نرى أولئك الكفَّار يتضرَّعون إليها ، ولا تحصل الإجابة . قلنا : ونرى أيضاً المسلمين يتضرَّعون إلى الله تعالى ، ولا تحصل الإجابة والمسلمون يقولون بأجمعهم : إنَّ القدرة على كشف الضرِّ ، وتحصيل النفع ليست إلاَّ لله تعالى ، وعلى هذا التقدير ، فالدليل غير تامٍّ .

فالجواب : أنَّ الدليل تامٌّ كاملٌ ؛ لأنَّ الكفار كانوا مقرِّين بأنَّ الملائكة عباد الله تعالى ، وخالق الملائكة ، وخالق العالم لا بدَّ وأن يكون أقدر من الملائكة ، وأقوى منهم ، وأكمل حالاً منهم .

وإذا ثبت هذا ، فنقول : كمال قدرة الله معلوم متفقٌ عليه ، وكمال قدرة غير الله غير معلوم ، ولا متفقٍ عليه ، بل المتَّفق عليه أنَّ قدرتهم بالنِّسبة إلى قدرة الله تعالى قليلة حقيرةٌ ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الله أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة ؛ لأنَّ استحقاق الله العبادة معلومٌ ، وكون الملك كذلك مجهولٌ ؛ والأخذ بالمعلوم أولى ، وسلك المتكلِّمون من أهل السنَّة طريقة أخرى ، وهو أنَّهم أقاموا الحجة العقليَّة على أنَّه لا موجد{[20491]} إلاَّ الله تعالى ، ولا يخرج الشيء من العدم إلى الوجود إلا الله ، وإذا ثبت ذلك ثبت أنه لا ضارّ ولا نافع إلا الله تعالى ، فوجب القطع بأنه لا معبود إلا الله تعالى ، وهذه الطريقة لا تتم للمعتزلة ، لأنهم لما{[20492]} جوزوا كون العبد موجداً لأفعاله امتنع عليهم الاستدلال على أن الملائكة - عليهم السلام - لا قدرة لها على الإحياء والإماتة ، وخلق الجسم ، وإذا عجزوا عن ذلك ، لا يتمُّ لهم هذا الدليلُ ، فهذا هو الدليل القاطع على صحَّة قوله : { فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } ، والتحويلُ عبارة عن النَّقل من حالٍ إلى حالٍ ، ومن مكانٍ إلى مكانٍ ، يقال : حوَّله ، فتحوَّل .


[20489]:ذكره الرازي في "تفسيره" (20/184).
[20490]:ينظر: المصدر السابق.
[20491]:في ب: موجود.
[20492]:في ب: لو.