قوله تعالى : { ولقد آتينا إبراهيم رشده } قال القرطبي أي صلاحه { من قبل } يعني : من قبل موسى وهارون ، وقال المفسرون : رشده من قبل أي : هداه من قبل أي من قبل البلوغ ، وهو حين خرج من السرب وهو صغير ، يريد هديناه صغيراً كما قال تعالى ليحيى عليه السلام : { وآتيناه الحكم صبياً } { وكنا به عالمين } أنه أهل للهداية والنبوة .
{ 51 - 73 ْ } { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ْ } إلى آخر هذه القصة ،
وهو قوله : { وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ْ } لما ذكر تعالى موسى ومحمدا صلى الله عليهما وسلم ، وكتابيهما قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ْ } أي : من قبل إرسال موسى ومحمد ونزول كتابيهما ، فأراه الله ملكوت السماوات والأرض ، وأعطاه من الرشد ، الذي كمل به نفسه ، ودعا الناس إليه ، ما لم يؤته أحدا من العالمين ، غير محمد ، وأضاف الرشد إليه ، لكونه رشدا ، بحسب حاله ، وعلو مرتبته ، وإلا فكل مؤمن ، له من الرشد ، بحسب ما معه من الإيمان . { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ْ } أي : أعطيناه رشده ، واختصصناه بالرسالة والخلة ، واصطفيناه في الدنيا والآخرة ، لعلمنا أنه أهل لذلك ، وكفء له ، لزكائه وذكائه ، ولهذا ذكر محاجته لقومه ، ونهيهم عن الشرك ، وتكسير الأصنام ، وإلزامهم بالحجة ، فقال : { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ ْ }
ثم تسوق السورة بعد ذلك بشىء من التفصيل قصة إبراهيم - عليه السلام - مع قومه ، وما دار بينه وبينهم من محاورات ومحاولات فتقول : { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ . . . } .
قصة إبراهيم - عليه السلام - مع قومه ، قد وردت فى سور متعددة منها : سورة البقرة ، والعنكبوت ، والصافات .
وهنا تحدثنا سورة الأنبياء عن جانب من قوة إيمانه - عليه السلام - ومن سلامة حجته ومن تصميمه على تنفيذ ما يرضى الله - تعالى - بالقول والعمل .
والمراد بالرشد : الهداية إلى الحق والبعد عن ارتكاب ما نهى الله - تعالى - عنه .
والمراد بقوله - تعالى - { مِن قَبْلُ } أى : من قبل أن يكون نبيا .
والمعنى : ولقد آتينا - بفضلنا وإحساننا - إبراهيم - عليه السلام - الرشد إلى الحق ، والهداية إلى الطريق المستقيم ، " من قبل " أى : من قبل النبوة بأن جنبناه ما كان عليه قومه من كفر وضلال .
وقد أكتفى الإمام ابن كثير بهذا المعنى فى قوله - تعالى - { مِن قَبْلُ } فقال : يخبر - تعالى - عن خليله إبراهيم - عليه السلام - ، أنه آتاه رشده من قبل .
أى : من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه ، كما قال - تعالى - : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ . . . } ومن المفسرين من يرى أن المقصود بقوله - تعالى - { مِن قَبْلُ } أى : من قبل موسى وهارون ، فقد كان الحديث عنهما قبل ذلك بقليل فى قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ . . . } فيكون المعنى : ولقد آتينا إبراهيم رشده وهداه ، ووفقنا للنظر والاستدلال على الحق ، من قبل موسى وهارون ، لأنه يسبقهما فى الزمان .
وقد رجح هذا المعنى الإمام الآلوسى فقال : " ولقد آتينا إبراهيم رشده " .
أى : الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار ، وهو الرشد الكامل ، أعنى : الاهتداء إلى وجوه الصلاح فى الدين والدنيا . . . " من قبل " أى : من قبل موسى وهارون ، وقيل : من قبل البلوغ . . . والأول مروى عن ابن عباس وابن عمر ، وهو الوجه الأوفق لفظا ومعنى ، أما لفظا فللقرب ، وأما معنى فلأن ذكر الأنبياء - عليهم السلام - للتأسى ، وكان القياس أن يذكر نوح ثم إبراهيم ثم موسى ، لكن روعى فى ذلك ترشيخ التسلى والتأسى ، فقد ذكر موسى ، لأن حاله وما قاساه من قومه . . . أشبه بحال نبينا - صلى الله عليه وسلم - .
ويبدو لنا أن الآية الكريمة تتسع للمعنيين . أى : أن الله - تعالى - قد أعطى إبراهيم رشده ، من قبل النبوة ، ومن قبل موسى وهارون لسبقه لهما فى الزمان .
وقوله : { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } بيان لكمال علم الله - تعالى - أى : وكنا به وبأحواله وبسائر شئونه عالمين ، بحيث لا يخفى علينا شىء من أحواله أو من أحوال غيره
الرشد عام في هدايته إلى رفض الأصنام وفي هدايته في أمر الكوكب والشمس والقمر وغير ذلك من النبوءة فما دونها ، وقال بعضهم معناه وفق للخير صغيراً وهذا كله متقارب ، و { من قبل } معناه من قبل موسى وهارون ، فبهذه الإضافة هو قبل كما هي نسبة نوح منه ، قوله { وكنا به عالمين } مدح ل { إبراهيم } أي بأنه يستحق ما أهل له وهذا نحو قوله تعالى : { الله أعلم حيث يجعل رسالته }{[8239]} [ الأنعام : 124 ] والعامل في { إذ } قوله { آتينا }
أعقبت قصة موسى وهارون بقصة إبراهيم فيما أوحي إليه من مقاومة الشرك ووضوح الحجة على بطلانه ، لأن إبراهيم كان هو المَثَل الأول قبل مجيء الإسلام في مقاومة الشرك إذ قاومه بالحجة وبالقوة وبإعلان التوحيد إذْ أقام للتوحيد هيكلاً بمكة هو الكعبة وبجَبل ( نابو ) من بلاد الكنعانيين حيث كانت مدينةٌ تسمى يومئذ ( لوزا ) ثم بنى بيت ايل بالقرب من موضع مدينة ( أورشليم ) في المكان الذي أقيم به هيكل سليمان من بعد ، فكانت قصة إبراهيم مع قومه شاهداً على بطلان الشرك الذي كان مماثلاً لحال المشركين بمكة الذين جاء محمد صلى الله عليه وسلم لقطع دابره . وفي ذكر قصة إبراهيم تورك على المشركين من أهل مكة إذ كانوا على الحالة التي نعاها جدُّهم إبراهيم على قومه ، وكفى بذلك حجة عليهم . وأيضاً فإن شريعة إبراهيم أشهر شريعة بعد شريعة موسى .
وتأكيد الخبر عنه بلام القَسم للوجه الذي بيناه آنفاً في تأكيد الخبر عن موسى وهارون ، وهو تنزيل العرب في مخالفتهم لشريعة أبيهم إبراهيم منزلة المنكر لكون إبراهيم أوتي رشداً وهدياً .
وكذلك الإخبار عن إيتاء الرشد إبراهيم بإسناد الإيتاء إلى ضمير الجلالة لمثل ما قرّر في قصة موسى وهارون للتنبيه على تفخيم ذلك الرشد الذي أوتيه .
والرشد : الهدى والرأي الحق ، وضده الغي ، وتقدم في قوله تعالى : { قد تبين الرشد من الغي } في [ سورة البقرة : 256 ] . وإضافة { الرشد } إلى ضمير إبراهيم من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي الرشد الذي أرْشِده . وفائدة الإضافة هنا التنبيه على عظم شأن هذا الرشد ، أي رشداً يليق به ؛ ولأن رشد إبراهيم قد كان مضرب الأمثال بين العرب وغيرهم ، أي هو الذي علمتم سمعته التي طبقت الخَافقين فما ظنكم برشد أوتيه من جانب الله تعالى ، فإن الإضافة لما كانت على معنى اللام كانت مفيدة للاختصاص فكأنه انفرد به . وفيه إيماء إلى أن إبراهيم كان قد انفرد بالهدى بين قومه .
وزاده تنويهاً وتفخيماً تذييله بالجملة المعترضة قوله تعالى : { وكنا به عالمين } أي آتيناه رشداً عظيماً على عِلم منا بإبراهيم ، أي بكونه أهلاً لذلك الرشد ، وهذا العلم الإلهي متعلق بالنفسية العظيمة التي كان بها محل ثناء الله تعالى عليه في مواضع كثيرة من قرآنه ، أي علم من سريرته صفات قد رَضيها وأحمدَهَا فاستأهل بها اتخاذه خليلاً . وهذا كقوله تعالى : { ولقد اخترناهم على علم على العالمين } [ الدخان : 32 ] وقوله تعالى : { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] .
وقوله { من قبل } أي من قبل أن نوتي موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً . ووجه ذكر هذه القبلية التنبيه على أنه ما وقع إيتاء الذكر موسى وهارون إلا لأن شريعتهما لم تزل معروفة مدروسة .