ثم بين - سبحانه - صفة أخرى من صفات هذا الأفاك الأثيم فقال : { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتخذها هُزُواً } .
أي : وإذا بلغ هذا الإِنسان شيء من آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، بادر إلى الاستهزاء بها والسخرية منها ، ولم يكتف بالاستهزاء بما سمعه ، بل استهزأ بالآيات كلها لرسوخه في الكفر والجحود .
والتعبير بقوله : { وَإِذَا عَلِمَ } زيادة فى تحقيره وتجهيله ، لأن اتخاذه الآيات هزوا بعد علمه بمصدرها ، يدل على إيغاله في العناد والضلال .
وقوله : { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } بيان لسوء عاقبته . أي : أولئك الذين يفعلون ذلك لهم في الآخرة عذاب يهينهم ويذلهم ، ويجعلهم محل سخرية العقلاء واحتقارهم .
{ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا } أي : إذا حفظ شيئًا من القرآن كفر به واتخذه سخريا وهزوا ، { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } أي : في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به ؛ ولهذا روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو{[26307]} .
{ وإذا علم من آياتنا شيئا } وإذا بلغه شيء من { آياتنا } وعلم أنه منها . { اتخذها هزوا } لذلك من غير أن يرى فيها ما يناسب الهزء ، والضمير ل { آياتنا } وفائدته الإشعار بأنه إذا سمع كلاما وعلم أنه من الآيات بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على ما سمعه أو لشيء ؛ لأنه بمعنى الآية { أولئك لهم عذاب مهين } .
وقرأ جمهور الناس : «وإذا عَلِمَ » بفتح العين وتخفيف اللام ، والمعنى : وإذا أخبر بشيء { من آياتنا } فعلم نفس الخبر لا المعنى الذي تضمنه الخبر ، ولو علم المعاني التي تضمنها إخبار الشرع وعرف حقائقها لكان مؤمناً . وقرأ قتادة ومطر الوراق{[10261]} «عُلِّم » بضم العين وشد اللام .
{ وإذا علم من ءاياتنا شيئا اتخذها هزؤا }
والمراد بالعلم في قوله : { وإذا علم من آياتنا شيئاً } السمع ، أي إذا ألقى سمعه إلى شيء من القرآن اتخذه هُزؤاً ، أي لا يَتلقى شيئاً من القرآن إلا ليجعله ذريعة للهزء به ، ففعل { عَلِم } هنا متعدّ إلى واحد لأنه بمعنى عَرف .
وضمير التأنيث في { اتخذها } عائد إلى { آياتنا } ، أي اتخذ الآيات هزؤاً لأنه يستهزىء بما علمه منها وبغيره ، فهو إذا علم شيئاً منها استهزأ بما علمه وبغيره .
ومعنى اتخاذهم الآيات هزؤاً : أنهم يلوكونها بأفواههم لوك المستهزىء بالكلام ، وإلا فإن مطلق الاستهزاء بالآيات لا يتوقف على العِلم بشيء منها . ومن الاستهزاء ببعض الآيات تحريفُها على مواضعها وتحميلها غير المراد منها عمداً للاستهزاء ، كقول أبي جهل لما سَمِع { إنَّ شجرة الزقوم طعام الأثيم } [ الدخان : 43 ، 44 ] تجاهل بإظهار أن الزقوم اسم لمجموع الزبد والتمر فقال : « زقّمونا » ، وقوله : لما سمع قوله تعالى : { عليها تسعة عَشَر } [ المدثر : 30 ] : أنا أَلْقَاهُمْ وحدي .
{ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } .
جيء باسم الإشارة للتنبيه على أن ما ذكر من الأوصاف من قوله تعالى : { لكل أفاك أثيم } إلى قوله { هزؤاً } على أن المشار إليهم أحرياء بهِ لأجْللِ ما قبل اسم الإشارة من الأوصاف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عن النضر بن الحارث، فقال: {وإذا علم من آياتنا شيئا}: إذا سمع من آيات القرآن شيئا.
{اتخذها هزوا} يعني استهزاء بها، وذلك أنه زعم أن حديث القرآن مثل حديث رستم وإسفنديار.
{أولئك لهم}، يعني النضر بن الحارث وأصحابه، وهم قريش.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَإِذَا عَلِمَ" هذا الأفّاك الأثيم مِنْ آيات الله "شَيْئا اتّخَذَها هُزُوا": يقول: اتخذ تلك الآيات التي علمها هزوا، يسخر منها، وذلك كفعل أبي جهل حين نزلت: "إنّ شَجَرَةَ الزّقّوم طَعامُ الأثِيمِ"، إذ دعا بتمر وزبد فقال: تزقموا من هذا، ما يعدكم محمد إلاّ شهدا، وما أشبه ذلك من أفعالهم.
وقوله: "أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ"، يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يفعلون هذا الفعل، وهم الذين يسمعون آيات الله تُتلى عليهم ثم يصرّون على كفرهم استكبارا، ويتخذون آيات الله التي علموها هزوا، لهم يوم القيامة من الله عذاب مهين يهينهم ويذلهم في نار جهنم، بما كانوا في الدنيا يستكبرون عن طاعة الله واتباع آياته، وإنما قال تعالى ذكره: "أُولَئِكَ "فجمع. وقد جرى الكلام قبل ذلك ردّا للكلام إلى معنى الكلّ في قوله: "وَيْلٌ لِكُلّ أفّاكٍ أثِيمٍ".
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَإِذَا} بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها {اتخذها} أي اتخذ الآيات.
{هُزُواً} ولم يقل: اتخذه، للإشعار بأنه إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم، خاض في الاستهزاء بجميع الآيات، ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه، ويحتمل: وإذا علم من آياتنا شيئاً يمكن أن يتشبث به المعاند ويجد له محملاً يتسلق به على الطعن والغميزة، افترصه واتخذ آيات الله هزواً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قرأ جمهور الناس: «وإذا عَلِمَ» بفتح العين وتخفيف اللام، والمعنى: وإذا أخبر بشيء {من آياتنا} فعلم نفس الخبر لا المعنى الذي تضمنه الخبر، ولو علم المعاني التي تضمنها إخبار الشرع وعرف حقائقها لكان مؤمناً.
وقرأ قتادة ومطر الوراق «عُلِّم» بضم العين وشد اللام.
المقام الثاني: أن ينتقل من مقام الإصرار والاستكبار إلى مقام الاستهزاء فقال: {وإذا علم من ءاياتنا شيئا اتخذها هزوا}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين تعالى كفره بما يسمع من الآيات، أتبعه ما هو أعم منه فقال: {وإذا علم} أي أيّ نوع كان من أسباب العلم.
{من آياتنا} أي على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا {شيئاً}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً).. بعد أن يعلمها ويعرف مصدرها. وهذه أشد وأنكى. وهي صورة كذلك مكرورة في الجاهليات الأولى والأخيرة. وكم من الناس وبين من يقال إنهم مسلمون. من يستهزئ بآيات الله التي يعلمها، ويتخذها مادة للسخرية منها وممن يؤمنون بها؛ ومن يريدون أن يرجعوا أمر الناس والحياة إليها.
(أولئك لهم عذاب مهين).. فالمهانة هي الجزاء المناسب لمن يستهزئ بآيات الله وهو يعلمها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وإذا علم من ءاياتنا شيئا اتخذها هزؤا} والمراد بالعلم في قوله: {وإذا علم من آياتنا شيئاً} السمع أي إذا ألقى سمعه إلى شيء من القرآن اتخذه هُزؤاً، أي لا يَتلقى شيئاً من القرآن إلا ليجعله ذريعة للهزء به، ففعل {عَلِم} هنا متعدّ إلى واحد لأنه بمعنى عَرف.
ومعنى اتخاذهم الآيات هزؤاً: أنهم يلوكونها بأفواههم لوك المستهزئ بالكلام، وإلا فإن مطلق الاستهزاء بالآيات لا يتوقف على العِلم بشيء منها. ومن الاستهزاء ببعض الآيات تحريفُها على مواضعها وتحميلها غير المراد منها عمداً للاستهزاء.