73- ومن رحمة الله بخلقه أن خلق لهم الليل والنهار وجعلهما متعاقبين ، ليستريحوا في الليل ، وليسعوا على رزقهم ومنافعهم في النهار ، وليُدركوا فضل الله عليهم فيشكروه{[169]} .
وفي هذه الآيات ، تنبيه إلى أن العبد ينبغي له أن يتدبر نعم اللّه عليه ، ويستبصر فيها ، ويقيسها بحال عدمها ، فإنه إذا وازن بين حالة وجودها ، وبين حالة عدمها ، تنبه عقله لموضع المنة ، بخلاف من جرى مع العوائد ، ورأى أن هذا أمر لم يزل مستمرا ، ولا يزال . وعمي قلبه عن الثناء على اللّه ، بنعمه ، ورؤية افتقاره إليها في كل وقت ، فإن هذا لا يحدث له فكرة شكر ولا ذكر .
وقوله - سبحانه - : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } بيان لمظاهر فضل الله - تعالى - على الناس ، حيث جعل الليل والنهار على تلك الحالة التى يعيشون فيها .
أى : ومن رحمته بكم - أيها الناس - أنه - سبحانه - لم يجعل زمان الليل سرمدا ، ولا زمان النهار ، بل جعلها متعاقبين ، وجعل لكل واحد منهما زمانا محددا مناسبا لمصالحكم ومنافعكم ، فالليل تسكنون فيه وتريحون فيه أبدانكم ، والنهار تنتشرون فيه لطلب الرزق من الله تعالى .
وقد فعل - سبحانه - ذلك لمصلحتكم ، كى تشكروه على نعمه ، وتخلصوا له العبادة والطاعة .
وَمِنْ رَحْمَتِهِ } أي : بكم { جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } أي : خلق هذا وهذا { لِتَسْكُنُوا فِيهِ } أي : في الليل ، { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } أي : في النهار بالأسفار والترحال ، والحركات والأشغال ، وهذا من باب اللف والنشر .
وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : تشكرون الله بأنواع العبادات في الليل والنهار ، ومن فاته شيء بالليل استدركه بالنهار ، أو بالنهار استدركه بالليل ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } [ الفرقان : 62 ] . والآيات في هذا كثيرة{[22399]} .
ثم ذكر عز وجل انقسام الليل والنهار على السكون وابتغاء الفضل بالمشي والتصرف وهذا هو الغالب في أمر الليل والنهار ، فعدد النعمة بالأغلب وإن وجد من يسكن بالنهار ويبتغي فضل الله بالليل فالشاذ النادر لا يعتد به ، وقال بعض الناس : قوله تعالى { جعل لكم الليل والنهار } . إنما عبر به عن الزمان لم يقصد لتقسيم ، أي في هذا الوقت الذي هو ليل ونهار يقع السكون وابتغاء الفضل ، وقوله { ولعلكم } أي على نظر البشر من يرى هذا التلطف والرفق يرى أن ذلك يستدعي الشكر ولا بد .
تصريح بنعمة تعاقب الليل والنهار على الناس بقوله { لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله } ، وذلك مما دلت عليه الآية السابقة بطريق الإدماج بقوله { يأتيكم } [ القصص : 71 ] وبقوله { تسكنون فيه } [ القصص : 72 ] كما تقدم آنفاً .
وجملة { جعل لكم الليل والنهار } الخ معطوفة على جملة { أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً } [ القصص : 71 ] .
و { من } تبعيضية فإن رحمة الله بالناس حقيقة كلية لها تحقق في وجود أنواعها وآحادها العديدة ، والمجرور ب { من } يتعلق بفعل { جعل لكم الليل } ، وكذلك يتعلق به { لكم } ، والمقصود إظهار أن هذا رحمة من الله وأنه بعض من رحمته التي وسعت كل شيء ليتذكروا بهما نعماً أخرى .
وقدم المجرور ب { من رحمته } على عامله للاهتمام بمنة الرحمة .
وقد سلك في قوله { لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله } طريقة اللف والنشر المعكوس فيعود { لتسكنوا فيه } إلى الليل ، ويعود { ولتبتغوا من فضله } إلى النهار ، والتقدير : ولتبتغوا من فضله فيه ، فحذف الضمير وجاره إيجازاً اعتماداً على المقابلة .
والابتغاء من فضل الله : كناية عن العمل والطلب لتحصيل الرزق قال تعالى { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } [ المزمل : 20 ] . والرزق : فضل من الله .
وتقدم في قوله تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } في سورة البقرة ( 198 ) . ولام { لتسكنوا } ولام { ولتبتغوا } للتعليل ، ومدخولاهما علتان للجعل المستفاد من فعل { جعل } .
وعُطف على العلتين رجاء شكرهم على هاتين النعمتين اللتين هما من جملة رحمته بالناس فالشأن أن يتذكروا بذلك مظاهر الرحمة الربانية وجلائل النعم فيشكروه بإفراده بالعبادة . وهذا تعريض بأنهم كفروا فلم يشكروا .
وقرأ الجمهور { أرأيتم } [ القصص : 71 ] بألف بعد الراء تخفيفاً لهمزة رأى . وقرأ الكسائي بحذف الهمزة زيادة في التخفيف وهي لغة .