فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَمِن رَّحۡمَتِهِۦ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (73)

{ ومن رحمته } من رفق الله تعالى بعباده ، ومن ترفقه بكم أيها الناس{ جعل لكم الليل والنهار } أوجد الله الليل مظلما ساكنا هادئا ، والنهار مضيئا موقظا ، وبحركة الخلق وسعيهم ونفعهم حافلا ، ما إن ينشق نوره حتى تنتفض الطيور من أوكارها ، ويتهيأ النبات والحيوان لاستقبال الشمس والاستفادة من إشعاعها وضيائها ، { لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله } لتستقروا في الليل وترقدوا وتسكنوا راحة لأبدانكم من عناء ما تكابد وتلاقي ، ولتطلبوا في النهار رزقكم الذي قسم الله لكم تفضلا منه وكرما ، وكأن التقدير : لتسكنوا في الليل ، ولتبتغوا من فضل الله في النهار ، وبهذا جاء القرآن الكريم في آية كريمة أخرى : ) الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون( {[3108]} ، قال صاحب جامع البيان : وفي الهاء التي في قوله : { لتسكنوا فيه } وجهان : أحدهما- أن تكون من ذكر الليل خاصة ، ويضمر للنهار مع الابتغاء هاء أخرى ، والثاني- أن تكون من ذكر الليل والنهار ، فيكون وجه توحيدها وهي لهما توحيد العرب في قولهم : إقبالك وإدبارك يؤذيني ، لأن الإقبال والإدبار فعل ، والفعل يوحد كثيره وقليله . اه ، { ولعلكم تشكرون } أنعم المولى الكريم الوهاب عليكم بهاتين النعمتين بين نعم أخرى لا تحصونها ، رفقا بكم ولتشكروه على إنعامه عليكم بذلك ، نقل ابن كثير : أن الحمد لله ثناء عليه بأسمائه وصفاته ، وأن الشكر لله ثناء عليه بنعمه وأياديه . . . وأن الشكر على الصفات المتعدية ، لا يقال : شكرته لفروسيته ، ولكن تقول : شكرته على كرمه وإحسانه إلي . اه والشكر منهاج النبيين والمؤمنين ، فالله سبحانه يثني على نوح عليه الصلاة والسلام بقوله الحكيم : ( ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا( {[3109]} ، كما علمتنا آية كريمة بعض وصية لقمان لابنه وهو يعظه : ( . . . أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير( {[3110]} ، ورسول الله سليمان عليه السلام يتوجه إلى ربه ضارعا أن يعينه على شكر النعمة ، كما شهد بذلك قول الحق تبارك وتعالى : )فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين( {[3111]} ، وربنا عز وجل يأمر موسى صلوات الله عليه أن يظل شاكرا : ) . . فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين( {[3112]} كما بين الكتاب المجيد أن الشكر سبيل العفو والقبول : ) . . قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين . أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيآتهم في أصحاب الجنة . . ( {[3113]} ، هذا ! والإعراض عن الشكر يعقب الخسران ، ويلحق المعرضين بحزب الشيطان ، فإن إبليس لما تأبى عن أمر ربه وغوى ، أقسم بين يدي الله- كما يحكي الذكر الحكيم- بأن يضم إليه أكثر ذرية آدم ليكونوا معه من أصحاب السعير ، بما يقيمون عليه من الانصراف عن شكر العلي الكبير : )قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم . ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ( {[3114]} ، فحق على من يبتغي ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة أن يديم شكر المنعم عرفانا بفضله ، وإذعانا لأمره ، وتعرضا للمزيد من فضله وخيره ، فهو سبحانه القائل : ) . . لئن شكرتم لأزيدنكم . . ( {[3115]} ، ولا يبطرن أهل النعيم نعيمهم ، ولا يحملنهم على الكفور ترفهم ، فكم من موسع لهم ثبتت على الحق قلوبهم ، فسليمان الذي سخر الله له الجن والإنس والطير والريح وحقائق العلم ، لما نقل إليه عرش المالكين لسبأ ما فتنه هذا الملك الذي لم ينبغ لأحد من بعده ، بل هتف مذعنا لله ، حذرا من فتن الحياة : ) . . هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم( {[3116]} ، فاشكروا الله بألسنتكم وجوارحكم وقلوبكم ، وسلوه أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته


[3108]:سورة غافر. الآية 61.
[3109]:سورة الإسراء. الآية 3.
[3110]:سورة لقمان. من الآية 14.
[3111]:سورة النمل.الآية 19.
[3112]:سورة الأعراف. من الآية 144.
[3113]:سورة الأحقاف. من الآية 15 ومن الآية 16.
[3114]:سورة الأعراف. الآيتان 16، 17.
[3115]:سورة إبراهيم. من الآية 7.
[3116]:سورة النمل. من الآية 40.