قوله تعالى : { وأن عذابي هو العذاب الأليم } قال قتادة : بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع عن حرام ، ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه " . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمروا بن أبي عمرو ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة ، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة ، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار " .
ومع هذا فلا ينبغي أن يتمادى بهم الرجاء إلى حال الأمن والإدلال ، فنبئهم { وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } أي : لا عذاب في الحقيقة إلا عذاب الله الذي لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه نعوذ به من عذابه ، فإنهم إذا عرفوا أنه { لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد } حذروا وأبعدوا عن كل سبب يوجب لهم العقاب ، فالعبد ينبغي أن يكون قلبه دائما بين الخوف والرجاء ، والرغبة والرهبة ، فإذا نظر إلى رحمة ربه ومغفرته وجوده وإحسانه ، أحدث له ذلك الرجاء والرغبة ، وإذا نظر إلى ذنوبه وتقصيره في حقوق ربه ، أحدث له الخوف والرهبة والإقلاع عنها .
والخطاب في قوله - تعالى - : { نبئ عبادى . . } للرسول صلى الله عليه وسلم والنبأ : الخبر العظيم . والمراد { بعبادى } : المؤمنون منهم ، والإِضافة للتشريف .
أى : أخبر - أيها الرسول الكريم - عبادى المؤمنين أنى أنا الله - تعالى - الكثير المغفرة لذنوبهم ، الواسع الرحمة لمسيئهم ، وأخبرهم - أيضًا - أن عذابى هو العذاب الشديد الإِيلام ، فعليهم أن يقدموا القول الطيب ، والعمل الصالح ، لكى يظفروا بمغفرتى ورحمتى ، وينجو من عذابى ونقمتى .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد جمع في هاتين الآيتين بين المغفرة والعذاب ، وبين الرحمة والانتقام ، وبين الوعد والوعيد ، لبيان سنته - سبحانه - في خلقه ، ولكى يعيش المؤمن حياته بين الخوف والرجاء ، فلا يقنط من رحمة الله ، ولا يقصر في أداء ما كلفه - سبحانه - به .
وقدم - سبحانه - نبأ الغفران والرحمة ، على نبأ العذاب والانتقام ، جريا على الأصل الذي ارتضته مشيئته ، وهو أن رحمته سبقت غضبه ، ومغفرته سبقت انتقامه .
والضمير " أنا " و " هو " في الآيتين الكريمتين ، للفصل ؛ لإِفادة تأكيد الخبر .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : وفى الآيتين لطائف :
إحداها : أنه أضاف - سبحانه - العباد إلى نفسه بقوله { عبادى } وهذا تشريف عظيم لهم . . .
وثانيها . أنه لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة : أولها : قوله { أنى } وثانيها قوله { أنا } ، وثالثها . إدخال حرف الألف واللام على قوله { الغفور الرحيم } ، ولما ذكر العذاب لم يقل : إنى أنا المعذب ، بل قال { وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم } .
وثالثها : أنه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ إليهم هذا المعنى ، فكأنه أشهده على نفسه في التزام المغفرة والرحمة .
ورابعها : أنه لما قال { نبئ عبادى } كان معناه نبئ كل من كان معترفًا بعبوديتى ، وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع . فكذلك يدخل فيه المؤمن العاصى ، وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله - تعالى - .
وقال الآلوسى : وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله - تعالى - خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة ، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة ، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله - تعالى - من العذاب ، لم يأمن من النار " .
وأخرج عبد بن حميد وجماعة عن قتادة أنه قال في الآية : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو يعلم قدر عفو الله - تعالى - لما تورع من حرام ، ولو يعلم العبد قدر عذابه لبخع نفسه " .
وقوله : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ } أي : أخبر يا محمد عبادي أني ذو رحمة وذو عقاب أليم .
وقد تقدم ذكر نظير هذه الآية الكريمة ، وهي دالة على مقامي الرجاء والخوف ، وذكر في سبب نزولها ما رواه موسى بن عبيدة عن مصعب بن ثابت قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناس من أصحابه يضحكون ، فقال : " اذكروا الجنة ، واذكروا النار " . فنزلت : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ } رواه ابن أبي حاتم . وهو مرسل{[16190]}
وقال ابن جرير ، حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، أخبرنا ابن المكي ، أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنا مصعب بن ثابت ، حدثنا عاصم بن عبيد الله ، عن ابن أبي رباح ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ، فقال : " ألا أراكم تضحكون ؟ " ثم أدبر ، حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى ، فقال : " إني لما خرجت جاء جبريل ، عليه السلام ، فقال : يا محمد ، إن الله يقول{[16191]} لم تقنط{[16192]} عبادي ؟ { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ }{[16193]}
وقال سعيد ، عن قتادة في قوله تعالى : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع من حرام ، ولو يعلم قدر عقابه لبخع نفسه " {[16194]}
و { نبىء } معناه أعلم ، و { عبادي } مفعول ب { نبىء } ، وهي تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل ، ف { عبادي } مفعول و «أن » تسد مسد المفعولين الباقيين واتصف ذلك وهي وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد ، ألا ترى أنك إذا قلت أعجبني أن زيداً منطلق إنما المعنى أعجبني انطلاق زيد لأن دخولها إنما هو على جملة ابتداء وخبر فسدت لذلك مسد المفعولين .
قال القاضي أبو محمد : وقد تتعدى { نبىء } إلى مفعولين فقط ومنه قوله تعالى { من أنبأك هذا }{[7183]} [ التحريم : 3 ] ، وتكون في هذا الموضع بمعنى أخبر وعرف ، وفي هذا كله نظر ، وهذه آية ترجية وتخويف ، وروي في هذا المعنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «لو يعلم العبد قدر عفو الله لنا تورع من حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه »{[7184]} وروي في هذه الآية أن سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى جماعة من أصحابه عند باب بني شيبة في الحرم ، فوجدهم يضحكون ، فزجرهم ووعظهم ثم ولى فجاءه جبريل عن الله ، فقال : يا محمد أتقنط عبادي ؟ وتلا عليه الآية ، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وأعلمهم{[7185]} .
قال القاضي أبو محمد : ولو لم يكن هذا السبب لكان ما قبلها يقتضيها ، إذ تقدم ذكر ما في النار وذكر ما في الجنة فأكد تعالى تنبيه الناس بهذه الآية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{و} أخبرهم، {وأن عذابي هو العذاب الأليم}، يعني: الوجيع لمن عصاني.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 49]
أخبر عبادي يا محمد، أني أنا الذي أستر على ذنوبهم إذا تابوا منها وأنابوا، بترك فضيحتهم بها وعقوبتهم عليها، "الرحيم "بهم أن أعذّبهم بعد توبتهم منها عليها.
"وأنّ عَذابِي هُو العَذَابُ الأليمُ" يقول: وأخبرهم أيضا أن عذابي لمن أصرّ على معاصيّ وأقام عليها ولم يتب منها، هو العذاب الموجع الذي لا يشبهه عذاب. وهذا من الله تحذير لخلقه التقدم على معاصيه، وأمر منه لهم بالإنابة والتوبة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وأن عذابي هو العذاب الأليم} لمن عصاني، ولم يستغفر، ولم يتب إلي ويحتمل غير هذا، وهو أن يقول: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} لئلا ييأسوا من رحمتي، ولا يقنطوا مني، ولكن يرجون رحمته وعفوه، ويخافون عذابه ونقمته، ونبئهم أيضا: {وأن عذابي هو العذاب الأليم} لئلا يكونوا آمنين أبدا. فيكون فيه أمر بأن يبشر وأن ينذر، كأنه قال: بشر أوليائي {أني أنا الغفور الرحيم} لأوليائي {وأن عذابي هو العذاب الأليم} لأعدائي.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وأن مع ذلك عذابي وعقوبتي "هو العذاب الاليم "المؤلم الموجع، فلا تعولوا على محض غفراني، وخافوا عقابي، وكونوا على حذر باجتناب معاصي والعمل بطاعتي.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 49]
{نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} ثم قال في عقبه {وأن عذابي هو العذاب الأليم} لئلا يستولي عليك الرجاء بمرة. [منهاج العابدين: 257].
ولما ذكر العذاب لم يقل أني أنا المعذب وما وصف نفسه بذلك بل قال: {وأن عذابي هو العذاب الأليم}.
إنه أمر رسوله أن يبلغ إليهم هذا المعنى فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة.
[و] إنه لما قال: {نبئ عبادي} كان معناه نبئ كل من كان معترفا بعبوديتي، وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع، فكذلك يدخل فيه المؤمن العاصي، وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 49]
هذه الآية وزان قوله عليه السلام: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. وقد تقدم في الفاتحة. وهكذا ينبغي للإنسان أن يذكر نفسه وغيره فيخوّف ويرجّى، ويكون الخوف في الصحة أغلب عليه منه في المرض.. والقنوط إياس، والرجاء إهمال، وخير الأمور أوساطها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان ذلك ربما سبباً للاغترار الموجب للإصرار، قال تعالى: {وأن عذابي هو} أي وحده {العذاب الأليم} أي الكامل في الإيلام، فعلم أن الأول لمن استغفر، والثاني لمن أصر، وعرف من ذلك أن المتقين إنما دخلوا الجنة بعفوه، والغاوين إنما عذبوا بعدله، فهو لف ونشر مشوش -على ما هو الأفصح.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ومع هذا فلا ينبغي أن يتمادى بهم الرجاء إلى حال الأمن والإدلال، فنبئهم {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} أي: لا عذاب في الحقيقة إلا عذاب الله الذي لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه نعوذ به من عذابه، فإنهم إذا عرفوا أنه {لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد} حذروا وأبعدوا عن كل سبب يوجب لهم العقاب...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ) وإنما يذكر العذاب وحده أحيانا أو يقدم في النص لحكمة خاصة في السياق تقتضي إفراده بالذكر أو تقديمه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإذا استمروا في غيهم ولم يتوبوا إلى ربهم، فليرتقبوا عذابه؛ ولذا قال تعالى: {وأن عذابي هو العذاب الأليم}، أي العذاب المؤلم الذي يكون شديدا، قد أكد سبحانه وتعالى شدة عذابه بالضمير {هو}، ونسبة العذاب إليه، وقصر الإيلام على عذابه، أي أن عذابه أليم في ذاته، وكأنه لا إيلام في غيره بجوار إيلامه. وإن الله تعالى يعلمنا كيف نربي النفوس ونهذبها، فهي تربى بالرفق من غير شدة، وبالإرهاب من غير تربية لليأس، وبالعقاب حيث يجب، فلا تربى بالعطف الدائم ولا بالعذاب الذي لا رجاء فيه، وكذلك علمنا ربنا، وكذلك كانت أخلاق نبينا، وينبغي أن تكون أخلاق مصلحينا، وأولى الأمر منا، وليس الأمر من يفرضه أعداؤنا، أو من يفرضون أنفسهم علينا.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 49]
في بداية هذا الربع قرر كتاب الله مبدأ أساسيا في العقيدة الإسلامية، عليه يقوم الثواب والعقاب، وبه يرتبط الخوف والرجاء، فقال تعالى في إيجاز وإعجاز: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم} فمن أراد رحمة الله سعى لها سعيها، ومن أراد غير ذلك نال الجزاء الذي يستحقه، ولا يظلمون فتيلا.
... نرى أن الآيتين قد نبهتا إلي مقامي الرجاء والخوف، وعلى المؤمن أن يجمع بينهما، وألا يؤجل العمل الصالح وتكاليف الإيمان، وأن يستغفر من المعاصي...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كما هو معهود من الأسلوب القرآني، تأتي العبارات العنيفة حين تتحدث عن الغضب والعذاب الإِلهي لتمنع من سوء الاستفادة من الرحمة الإِلهية، ولتوجد التعادل بين مسألتي الخوف والرجاء، الذي يعتبر رمز التكامل والتربية فيقول وبدون فاصلة: (وأنّ عذابي هو العذاب الأليم).
ـ رياض وعيون الجنّة: إِنّ فهم واستيعاب أبعاد النعم الإِلهية التي تزخر بها الجنّة ونحن نعيش في هذا العالم الدنيوي المحدود، يعتبر أمراً صعباً جداً، بل ومن غير الممكن، لأنّ نعم هذا العالم بالنسبة لنعم الآخرة كنسبة الصفر إلى رقم كبير جدّاً.. ومع ذلك فلا يمنع من أن نحس ببعض أشعتها بفكرنا وروحنا. إِنّ القدر المسلم بهذا الخصوص، هو أنّ النعم الأخروية متنوعة جدّاً، وينطق بهذه الحقيقة التعبير بالـ «جنات» في الآيات المتقدمة وغيرها من الآيات الأُخر، وكذلك التعبير بالـ «عيون». لقد ورد في القرآن الكريم (في سور الإنسان، الرحمن، الدخان، محمد وغيرها) إِشارة إلى أنواع مختلفة من هذه العيون، وأشير إلى تنوعها بإِشارات صغيرة، ولعل ذلك تصوير لأنواع الأعمال الصالحة في هذا العالم، وسنشير إلى هذا الأمر إِن شاء اللّه عند تفسيرنا لهذه السور.
ـ النّعم المادية وغير المادية: على خلاف ما يتصور البعض.. فإِنّ القرآن لم يبشر الناس دائماً بالنعم المادية للجنّة فقط، بل تحدث مراراً عن النعم المعنوية أيضاً، والآيات مورد البحث نموذج واضح لذلك حيث نرى أن أول ما يواجه أهل الجنّة هناك هو الترحيب والبشارة من الملائكة لأهل الجنّة عند دخولهم فيها (ادخلوها بسلام آمين). ومن النعم الروحية الأُخرى التي أشارت إِليها هذه الآيات.. تطهير الصدور من الأحقاد وكل الصفات المذمومة كالحسد والخيانة وما شابهها، والتي تذهب بروح الأخوة. وكذلك حذف الاعتبارات والامتيازات الاجتماعية المغلوطة التي تخدش استقرار فكر وروح الإنسان، وهو ما ذكره في وصف جلساتهم. ومن نافلة القول.. أن (السلامة) و (الأمن) المجعولتين على رأس النعم الأخروية، هما أساس لكل نعمة أُخرى، ولا يمكن الاستفادة الكاملة من أية نعمة بدونهما وهذا ما ينطبق حتى على الحياة الدنيا، فالأمن والسلام أساس لكل نعيم ورخاء وإلاّ فلا.
ـ الحقد والحسد عدوّا الأخوة: من لطيف ما يلاحظ في هذه الآيات أنّها بعد أن ذكرت نعمة السلامة والأمن، وقبل أن تتعرض لبيان حال الأخوّة والألفة التي سيكون عليها أهل الجنّة، أشارت إلى مسألة نزع الصفات المانعة للأخوّة، كالحقد والحسد والغرور والخيانة، جامعة كل ذلك بكلمة «الغل» ذات المفهوم الواسع. وفي الحقيقة، إِنّ قلب الإنسان ما لم يطهر من هذا «الغل» فسوف لا تتحقق نعمة السلامة والأمن ولا الأخوّة والمحبّة، بل الحروب والمظالم والمجابهات والصراعات على الدوام، وهو ما يؤدي إلى قلع جذور الأخوّة والسلامة والأمن من الحياة.
ـ الجزاء الكامل: يقول بعض المفسّرين: إِنّ الجزاء لا يكتمل إِلاّ بأربعة اُمور: منافع وخيرة، أن تكون مقرونة بالاحترام، خالية من أيّ ألم، دائمة وخالدة. وقد أشارت الآيات مورد البحث إلى هذه الأُمور الأربعة... فعبارة (إِنّ المتقين في جنات وعيون) إِشارة إلى المنفعة الأُولى. وعبارة (ادخلوها بسلام آمنين) دليل على الاحترام والتقدير. وعبارة (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين) إِشارة إلى نفي أي نوع من الآلام والمعاناة الروحية (النفسية). وعبارة (لا يمسهم فيها نصب) إِشارة إلى نفي الآلام الجسمانية. أمّا عبارة (وما هم منها بمخرجين) فهي حاكية عن آخر شرط، وهو دوام وبقاء النعم. وبهذا يكون هذا الجزاء والثواب كاملا من كل الجهات.
ـ تعالوا لنجعل من هذه الدنيا جنّة: إِنّ النعم المادية والروحية الأخروية التي صورتها الآيات السابقة في حقيقتها تشكل أصول النعم لهذا العالم، ولعل القرآن الكريم يريد أن يفهمنا بأنّنا يمكن أن نوجد جنّة صغيرة في حياتنا تكون شبيهة بتلك الجنّة الكبيرة، فيما لو استطعنا أن نوفر شرائطها المطلوبة اللازمة. فلو طهرنا قلوبنا من الحقد والعداوة. وقوّينا بيننا روابط الأخوّة والمحبة. و حذفنا من حياتنا تلك الاعتبارات وأشكال الترف الزائدة والمفرقة. وإِذا ما عملنا لتحقيق الأمن والسلام في مجتمعنا. وإذا أدرك الناس بأنّه لا استعباد ولا استغلال ولا طبقية فيما بينهم... فإِنّنا ـ والحال هذه ـ سنكون في جنّة الحياة الدنيا!!