ولقد حكى القرآن أن موسى - عليه السلام - قد قبل تحدى فرعون ، ورد عليه يقول : { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى } .
والمراد بيوم الزينة : يوم كانوا يتزينون فيه ، ويجتمعون فيه ، لأنه يوم عيد لهم .
قيل إنه كان يوم عاشوراء ، وقيل يوم النيروز . . .
أى : قال موسى لفرعون : موعد المنازلة بينى وبينكم هو يوم زينتكم وعيدكم ، وفى هذا اليوم أطلب منكم أن يجمع الناس جميعا فى وقت الضحى عند ارتفاع الشمس ، لكى يشهدوا ما سيكون بينى وبين سحرتك يا فرعون .
وبذلك نرى أن موسى - عليه السلام - قد قابل تهديد فرعون له ، بتهديد أشد وأعظم ، فقد طلب منه أن يكون موعد المبارزة يوم العيد ، كما طلب منه - أيضا - أن يجمع الناس فى وقت الضحى لكى يشاهدوا تلك المبارة .
قال صاحب الكشاف : وإنما واعدهم موسى ذلك اليوم ، ليكون علو كلمة الله ، وظهور دينه ، وكبت الكافر ، وزهوق الباطل على رءوس الأشهاد وفى المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب فى اتباع الحق ، ويكل حد المبطلين واشياعهم ، ويكثر الحديث بذلك فى كل بدو وحضر ، ويشيع فى جميع أهل الوبر والمدر .
{ قال } لَهُمْ مُوسَى { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ } وهو يوم عيدهم ونَوروزُهم وتفرغهم من أعمالهم واجتماعهم جميعهم ؛ ليشاهد الناس قدرة الله على ما يشاء ، ومعجزات الأنبياء ، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية ، ولهذا قال : { وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ } أي : جميعهم { ضُحًى } أي : ضحوة من النهار ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح ، وهكذا شأن الأنبياء ، كل أمرهم واضح ، بيّن ، ليس فيه خفاء ولا ترويج ؛ ولهذا لم يقل " ليلا " ولكن نهارًا ضحى .
قال ابن عباس : وكان يوم الزينة يوم عاشوراء .
وقال السدي ، وقتادة ، وابن زيد : كان يوم عيدهم .
وقال سعيد بن جبير : يوم سوقهم .
ولا منافاة . قلت : وفي مثله أهلك الله فرعون وجنوده ، كما ثبت في الصحيح .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى * فَتَوَلّىَ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمّ أَتَىَ } .
يقول تعالى ذكره : قال موسى لفرعون ، حين سأله أن يجعل بينه وبينه موعدا للاجتماع : موعدكم للاجتماع يَوْمُ الزّينَةِ يعني يوم عيد كان لهم ، أو سوق كانوا يتزيّنون فيه وأنْ يُحْشَرَ النّاسُ يقول : وأن يُساق الناس من كلّ فجّ وناحية ضُحًى فذلك موعد ما بيني وبينك للاجتماع . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ وأنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى " فإنه يوم زينة يجتمع الناس إليه ويحشر الناس له .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج " قال مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ " قال : يوم زينة لهم ، ويوم عيد لهم وأنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى إلى عيد لهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد يَوْمُ الزّينَةِ قال : يوم السوق .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد يَوْمُ الزّينَةِ : موعدهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ قال موسى : " مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ وأنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى " وذلك يوم عيد لهم .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد حدثنا سعيد ، عن قتادة " قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ " يوم عيد كان لهم . وقوله : " وأنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى " يجتمعون لذلك الميعاد الذي وعدوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " قالَ مَوْعَدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ " قال : يوم العيد ، يوم يتفرّغ الناس من الأعمال ، ويشهدون ويحضُرون ويرون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق " قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةُ " يوم عيد كان فرعون يخرج له " وأنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى " حتى يحضروا أمري وأمرك ، وأنّ من قوله " وأنْ يحْشَرَ النّاسُ ضُحًى " رفع بالعطف على قوله يَوْمُ الزّينَةِ . وذُكر عن أبي نهيك في ذلك ما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : عبد المؤمن ، قال : سمعت أبا نهيك يقول : " وأنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضحًى " يعني فرعون يحشر قومه .
{ قال موعدكم يوم الزينة } من حيث المعنى فإن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه في ذلك اليوم ، أو بإضمار مثل مكان موعدكم مكان يوم الزينة كما هو على الأول ، أو وعدكم وعد يزم الزينة ، وقرئ { يوم } بالنصب وهو ظاهر في أن المراد بهما المصدر ، ومعنى سوى منتصفا يستوي مسافته إلينا وإليك وهو في النعت كقولهم : قوم عدى في الشذوذ ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة ويعقوب بالضم ، وقيل في " يوم الزينة " يوم عاشوراء ، أو يوم النيروز ، أو يوم عيد كان لهم في كل عام ، وإنما عينه ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد ويشيع ذلك في الأقطار . { وأن يحشر الناس ضحى } عطف على ال{ يوم } أو { الزينة } ، وقرئ على البناء للفاعل بالتاء على خطاب فرعون والياء على أن فيه ضمير ال{ يوم } أو ضمير { فرعون } على أن الخطاب لقومه .
ثم تعيين الموعد غيرِ المخلَف يقتضي تعيين زمانه لا محالة ، إذ لا يتصوّر الإخلاف إلاّ إذا كان للوعد وقت معيّن ومكان معيّن ، فمن ثم طابقه جواب موسى بقوله { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينةِ وأن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً } .
فيقتضي أن محشر الناس في يوم الزينة كان مكاناً معروفاً . ولعلّه كان بساحة قصر فرعون ، لأنّهم يجتمعون بزينتهم ولهوهم بمرأى منه ومن أهله على عادة الملوك في المواسم .
فقوله { يَوْمُ الزِّينَةِ } تعيين للوقت ، وقوله { وأن يُحْشَرَ النَّاسُ } تعيين للمكان ، وقوله { ضُحىً } تقييد لمطلق الوقت .
والضحى : وقت ابتداء حرارة الشمس بعد طلوعها .
ويوم الزينة كان يوم عيد عظيم عند القبط ، وهو يوم كسر الخليج أوالخِلجان ، وهي المنافذ والترع المجعولة على النيل لإرسال الزائد من مياهه إلى الأرضين البعيدة عن مجراه للسقي ، فتنطلق المياه في جميع النواحي التي يمكن وصولها إليها ويزرعون عليها .
وزيادة المياه في النيل هو توقيت السنة القبطيّة ، وذلك هو أول يوم من شهر ( توت ) القبطي ، وهو ( أيلول ) بحسب التاريخ الإسكندري ، وذلك قبل حلول الشمس في برج الميزان بثمانية عشر يوماً ، أي قبل فصل الخريف بثمانية عشر يوماً ، فهو يوافق اليوم الخامس عشر من شهر تشرين ( سبتمبر ) . وأول أيام شهر ( توت ) هو يوم النيروز عند الفرس ، وذلك مبني على حساب انتهاء زيادة النيل لا على حساب بروج الشمس .
واختار موسى هذا الوقت وهذا المكان لأنه يعلم أن سيكون الفلَجُ له ، فأحبّ أن يكون ذلك في وقت أكثرَ مشاهِداً وأوضح رؤيةً .