البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالَ مَوۡعِدُكُمۡ يَوۡمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحۡشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحٗى} (59)

والظاهر أن { موعداً } هنا هو زمان أي فعين لنا وقت اجتماع ولذلك أجاب بقوله { قال موعدكم يوم الزينة } ومعنى { لا نخلفه } أي لا نخلف ذلك الوقت في الاجتماع فيه وقدره بعضهم مكاناً معلوماً وينبوعه قوله { موعدكم يوم الزينة } .

وقال القشيري : الأظهر أنه مصدر ولذلك قال { لا نخلفه } أي ذلك الموعد والإخلاف أن يعد شيئاً ولا ينجزه .

وقال الزمخشري : إن جعلته زماناً نظراً في قوله { موعدكم يوم الزينة } مطابق له لزمك شيئان أن يجعل الزمان مخلفاً وأن يعضل عليك ناصب { مكاناً } وإن جعلته مكاناً لقوله { مكاناً سُوى } لزمك أيضاً أن يقع الإخلاف على المكان وأن لا يطابق قوله { موعدكم يوم الزينة } وقراءة الحسن غير مطابقة له { مكاناً } جميعاً لأنه قرأ { يوم الزينة } بالنصب فبقي أن يجعل مصدراً بمعنى الوعد ، ويقدر مضاف محذوف أي مكان موعد .

ويجعل الضمير في { نخلفه } و { مكاناً } بدل من المكان المحذوف .

فإن قلت : كيف طابقته قوله { موعدكم يوم الزينة } ولا بد من أن تجعله زماناً والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان ؟ قلت : هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظاً لأنه لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهراً باجتماعهم فيه في ذلك اليوم ، فبذكر الزمان علم المكان .

وأما قراءة الحسن فالموعد فيها مصدر لا غير ، والمعنى إنجاز وعدكم يوم الزينة وطابق هذا أيضاً من طريق المعنى ، ويجوز أن يقدر مضاف محذوف ويكون المعنى اجعل { بيننا وبينك } وعداً { لا نخلفه } فإن قلت : فبم ينتصب { مكاناً } ؟ قلت : بالمصدر أو بفعل يدل عليه المصدر ، فإن قلت : كيف يطابقه الجواب ؟ قلت : أما على قراءة الحسن فظاهر ، وأما على قراءة العامة فعلى تقدير وعدكم وعد يوم الزينة .

ويجوز على قراءة الحسن أن يكون { موعدكم } مبتدأ بمعنى الوقت و { ضحى } خبره على نية التعريف فيه لأنه قد وصف قبل العمل بقوله { لا نخلفه } وهو موصول ، والمصدر إذا وصف قبل العمل لم يجز أن يعمل عندهم .

وقوله و { ضحى } خبره على نية التعريف فيه ، لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه ، هو وإن كان ضحى ذلك اليوم بعينه ليس على نية التعريف بل هو نكرة ، وإن كان من يوم بعينه لأنه ليس معدولاً عن الألف واللام كسحر ولا هو معرف بالإضافة .

ولو قلت : جئت يوم الجمعة بكراً لم ندع أن بكراً معرفة وإن كنا نعلم أنه من يوم بعينه .

وقرأ أبو جعفر وشيبة لا نَخلفْهُ بجزم الفاء على أنه جواب الأمر .

وقرأ الجمهور برفعها صفة لموعد .

وقال الحوفي { موعداً } مفعول اجعل { مكاناً } ظرف العامل فيه اجعل .

وقال أبو علي { موعداً } مفعول أولا لاجعل و { مكاناً } مفعول ثان ، ومنع أن يكون { مكاناً } معمولاً لقوله { موعداً } لأنه قد وصف .

قال ابن عطية : وهذه الأسماء العاملة عمل الفعل إذا نعتت أو عطف عليها أو أخبر عنها أو صغرت أو جمعت وتوغلت في الأسماء كمثل هذا لم تعمل ولا يعلق بها شيء هو منها ، وقد يتوسع في الظروف فيعلق بعد ما ذكرنا لقوله عز وجل { ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان } فقوله إذ متعلق بقوله لمقت .

وهو قد أخبر عنه وإنما جاز هذا في الظروف خاصة ومنع قوم أن يكون { مكاناً } نصباً على المفعول الثاني لنخلفه ، وجوزه جماعة من النحاة ووجهه أن يتسع في أن يخلف الموعد انتهى .

وقوله إذا نعت هذا ليس مجمعاً عليه في كل عامل عمل الفعل ، ألا ترى اسم الفاعل العاري عن أل إذا وصف قبل العمل في إعماله خلاف البصريون يمنعون والكوفيون يجوزون ، وكذلك أيضاً إذا صغر في إعماله خلاف ، وأما إذا جمع فلا يعلم خلاف في جواز إعماله ، وأما المصدر إذا جمع ففي جواز إعماله خلاف ، وأما استثناؤه من المعمولات الظروف فغيره يذهب إلى منع ذلك مطلقاً في المصدر ، وينصب إذ بفعل يقدر بما قبله أي مقتكم إذ تدعون .

{ ولا أنت } معطوف على الضمير المستكن في { نخلفه } المؤكد بقوله { نحن } .

وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب والحسن وقتادة وطلحة والأعمش وابن أبي ليلى وأبو حاتم وابن جرير { سُوًى } بضم السين منوناً في الوصل .

وقرأ باقي السبعة بكسرها منوناً في الوصل .

وقرأ الحسن أيضاً { سُوى } بضم السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل مجرى الوقف لا أنه منعه الصرف لأن فعلاً من الصفات متصرف كحطم ولبد .

وقرأ عيسى سِوَى بكسر السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل أيضاً مجرى الوقف ، ومعنى { سُوًى } أي عدلاً ونصفة .

قال أبو علي : كأنه قال قربه منكم قربه منا .

وقال غيره : إنما أراد أن حالنا فيه مستوية فيعم ذلك القرآن ، وأن تكون المنازل فيه واحدة في تعاطي الحق لا تعترضكم فيه الرئاسة وإنما يقصد الحجة .

وعن مجاهد وهو من الاستواء لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية لا تفاوت فيها ، وهذا معنى ما تقدم من قول أبي عليّ قربه منكم قربه منا .

وقال الأخفش { سوى } مقصور إن كسرت سينه أو ضممت ، وممدود إن فتحتها ثلاث لغات ويكون فيها جميعاً بمعنى غير وبمعنى عدل ، ووسط بين الفريقين .

وقال الشاعر :

وإن أبانا كان حل بأهله سوى*** بين قيس قيس غيلان والفزر

قال : وتقول مررت برجل سواك وسواك وسواك أي غيرك ، ويكون للجميع وأعلى هذه اللغات الكسر قاله النحاس .

وقالت فرقة : معنى { مكاناً سُوًى } مستوياً من الأرض أي لا وَعر فيه ، ولا جبل ، ولا أكمة ، ولا مطمئن من الأرض بحيث يسير ناظر أحد فلا يرى مكان موسى والسحرة وما يصدر عنهما ، قال ذلك واثقاً من غلبة السحرة لموسى فإذا شاهدوا غلبهم إياه رجعوا عما كانوا اعتقدوا فيه .

وقالت فرقة : معناه مكاناً سوى : مكاننا هذا وليس بشيء لأن سوى إذا كانت بمعنى غير لا تستعمل إلا مضافة لفظاً ولا تقطع عن الإضافة .

وقرأ الحسن والأعمش وعاصم في رواية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة والجحدري وهبيرة والزعفراني يوم الزينة بنصب الميم وتقدم تخريج هذه القراءة في كلام الزمخشري وروي أن { يوم الزينة } كان عيداً لهم ويوماً مشهوداً وصادف يوم عاشوراء ، وكان يوم سبت .

وقيل : هو يوم كسر الخليج الباقي إلى اليوم .

وقيل : يوم النيروز وكان رأس سنتهم .

وقيل : يوم السبت فإنه يوم راحة ودعة .

وقيل : يوم سوق لهم .

وقيل : يوم عاشوراء .

وقرأ ابن مسعود والجحدري وأبو عمران الجوني وأبو نهيك وعمرو بن فائد وأن تحشر بتاء الخطاب أي يا فرعون وروي عنهم بالياء على الغيبة ، والناس نصب في كلتا القراءتين .

قال صاحب اللوامح { وأن يحشر } الحاشر { الناس ضحى } فحذف الفاعل للعلم به انتهى .

وحذف الفاعل في مثل هذا لا يجوز عند البصريين .

وقال غيره { وأن يحشر } القوم قال ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون ذكره بلفظ الغيبة ، إما على العادة التي تخاطب بها الملوك أو خاطب القوم لقوله { موعدكم } وجعل { يحشر } لفرعون ويجوز أن يكون { وأن يحشرْ } في موضع رفع عطفاً على { يوم الزينة } وأن يكون في موضع جر عطفاً على { الزينة } وانتصب { ضحًى } على الظرف وهو ارتفاع النهار ، ويؤنث ويذكر والضحاء بفتح الضاد ممدود مذكر وهو عند ارتباع النهار الأعلى ، وإنما واعدهم موسى ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وظهور دينه وكبت الكافر وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد ، وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في اتباع الحق ، ويكل حد المبطلين وأشياعهم ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر ، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر .

والظاهر أن قوله { قال موعدكم يوم الزينة } من كلام موسى عليه السلام لأنه جواب لقول فرعون { فاجعل بيننا وبينك موعداً } ولأن تعيين اليوم إنما يليق بالمحق الذي يعرف اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس .

ولقوله { موعدكم } وهو خطاب للجميع ، وأبعد من ذهب إلى أنه من كلام فرعون .