{ 14-16 } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }
وهذا من نعمه تعالى على عباده ، حيث أراهم [ من ] آثار قدرته وبديع صنعته ، أن { خَلَقَ } أبا الإنس وهو آدم عليه السلام { مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ } أي : من طين مبلول ، قد أحكم بله وأتقن ، حتى جف ، فصار له صلصلة وصوت يشبه صوت الفخار الذي طبخ على النار{[946]} .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن نعمة خلق الإنسان ، وعن مظاهر قدرته فى هذا الكون ، فقال - تعالى - : { خَلَقَ الإنسان . . . } .
الصلصال - الطين اليابس الذى تسمع له صوتا وصلصلة إذا قرع بشىء .
والفخار : الخزف المجوف الذى صار كذلك بعد أن أدخل فى النار .
ولا تعارض بين هذه الآية ، وبين غيرها من الآيات التى تحكى أن الإنسان خلق من تراب أو من طين أو من صلصال من حمأ مسنون .
لأن كل آية تتحدث عن مرحلة من مراحل خلق الإنسان ، لأن هذا التراب صار طينا ، ثم خمر هذا الطين فصار حمأ مسنونا ، أى : طينا أسود متغير الرائحة ، ثم يبس هذا الطين فصار صلصالا كالفخار .
فالآيات الكريمة التى تحدثت عن خلق الإنسان لا يصادم بعضها بعضا ، وإنما يؤيد بعضها بعضا .
قال بعض العلماء : وقد أثبت العلم الحديث أن جسم الإنسان يحتوى من العناصر ما تحتويه الأرض ، فهو يتكون من الكربون ، والأكسجين ، والحديد .
وهذه نفسها هى العناصر المكونة للتراب ، وإن اختلفت نسبها من إنسان إلى آخر ، وفى الإنسان عن التراب ، إلا أن أصنافها واحدة .
إلا أن هذا الذى اثبته العلم لا يجوز أن يؤخذ على أنه التفسير الحتمى للنص القرآنى .
فقد تكون الحقيقة القرآنية تعنى هذا الذى أثبته العلم ، أو تعنى شيئا آخر سواه ، وتقصد إلى صورة أخرى من الصور الكثيرة التى يتحقق بها معنى خلق الإنسان من تراب ، أو من طين ، أو من صلصال .
والذى ننبه إليه بشدة ، هو ضرورة عدم قصر النص القرآنى على كشف علمى بشرى ، قابل للخطأ والصواب ، وقابل للتعديل والتبديل ، كلما اتسعت معارف الإنسان ، وكثرت وتحسنت وسائله للمعرفة .
والمعنى : خلق - سبحانه - بقدرته أباكم آدم الذى هو أصلكم ، وعنه تفرع جنسكم من طين يابس يشبه الفخار فى يبوسته وصلابته .
وقوله : خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ صَلْصَالٍ كالفَخّارِ يقول تعالى ذكره : خلق الله الإنسان وهو آدم من صلصال : وهو الطين اليابس الذي لم يطبخ ، فإنه من يبسه له صلصلة إذا حرّك ونقر كالفخار يعني أنه من يُبسه وإن لم يكن مطبوخا ، كالذي قد طُبخ بالنار ، فهو يصلصل كما يصلصل الفخار ، والفخار : هو الذي قد طُبخ من الطين بالنار . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبيد الله بن يوسف الجبيريّ ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، قال : حدثنا مسلم ، يعني الملائيّ ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قوله : مِنْ صَلْصَالٍ كالفَخّارِ قال : هو من الطين الذي إذا مطرت السماء فيبست الأرض كأنه خزف رقاق .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : خلق الله آدم من طين لازب ، واللازب : اللّزِج الطيب من بعد حمأ مسنون مُنْتن . قال : وإنما كان حَمَأً مسنونا بعد التراب ، قال : فخلق منه آدم بيده ، قال : فمكث أربعين ليلة جسدا ملقًى ، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله ، فيصلصل فيصوّت ، قال : فهو قول الله تعالى : كالفَخّارِ يقول : كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن سعيد وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : الصلصال : التراب المدقق .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : الصّلصال : التراب المدقّق .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ صَلْصَالٍ كالفَخّارِ يقول : الطين اليابس .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرِمة ، في قوله : مِنْ صَلْصَالٍ كالفَخّارِ قال : الصلصال : طين خُلط برمل فكان كالفخار .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : مِنْ صَلْصَالٍ كالفَخّارِ والصلصال : التراب اليابس الذي يُسمع له صلصلة فهو كالفخار ، كما قال الله عزّ وجلّ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : مِنْ صَلْصَالٍ كالفَخّارِ قال : من طين له صلصلة كان يابسا ، ثم خلق الإنسان منه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مِنْ صَلْصَالٍ كالفَخّارِ قال : يبس آدم في الطين في الجنة ، حتى صار كالصلصال ، وهو الفخار ، والحمأ المسنون : المنتن الريح .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن مروان ، قال : حدثنا أبو العوّام ، عن قتادة خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ صَلْصَالٍ كالفَخّارِ قال : من تراب يابس له صلصلة .
قال : ثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا شبيب ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ صَلْصَالٍ كالفَخّارِ قال : ما عُصِر ، فخرج من بين الأصابع ، ولو وجّه موجّه قوله : صلصال إلى أنه فعلال من قولهم صلّ اللحم : إذا أنتن وتغيرت ريحه ، كما قيل من صرّ الباب صرصر ، وكبكب من كَبّ ، كان وجها ومذهبا .
هذا انتقال إلى الاعتبار بخلق الله الإِنسان وخلقه الجن .
والقول في مجيء المسند فعلاً كالقول في قوله : { علم القرآن } [ الرحمن : 2 ] .
والمراد بالإِنسان آدم وهو أصل الجنس وقوله : { من صلصال } تقدم نظيره في سورة الحجر ( 2 ) .
والفخار : الطين المطبوخ بالنار ويُسمى الخزَف . وظاهر كلام المفسرين أن قوله : { كالفخار } صفة ل { صلصال } . وصرح بذلك الكواشي في « تلخيص التبصرة » ولم يعرجوا على فائدة هذا الوصف . والذي يظهر لي أن يكون كالفخار حالاً من { الإنسان } ، أي خلقه من صلصال فصار الإِنسان كالفخار في صورة خاصة وصلابة .
والمعنى أنه صلصال يابس يشبه يبس الطين المطبوخ والمشبه غير المشبه به ، وقد عبر عنه بالحمأ المسنون ، والطين اللازب ، والتراب .