{ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } أي : الرزق كله من الله ، فلو أمسك عنكم رزقه ، فمن الذي يرسله لكم ؟ فإن الخلق لا يقدرون على رزق أنفسهم ، فكيف بغيرهم ؟ فالرزاق المنعم ، الذي لا يصيب العباد نعمة إلا منه ، هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة ، ولكن الكافرون { لَجُّوا } أي : استمروا { فِي عُتُوٍّ } أي : قسوة وعدم لين للحق { وَنُفُورٍ } أي : شرود عن الحق .
ثم لفت أنظارهم للمرة الثانية إلى قوة بأسه ، ونفاذ إرادته ، وعدم وجود من يأخذ بيدهم إذا ما أنزل بهم عقابه فقال : { أَمَّنْ هذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرحمن } .
والاستفهام للتحدى والتعجيز ، و { أم } منقطعة بمعنى بل ، فهي للإِضراب الانتقالي من غرض إلى آخر ، ومن حجة إلى أخرى .
و { من } اسم استفهام مبتدأ ، وخبره اسم الإِشارة ، وما بعده صفته .
والمراد بالجند : الجنود الذين يهرعون لنصرة من يحتاج إلى نصرتهم . ولفظ { دُونِ } أصله ظرف للمكان الأسل . . ويطلق على الشئ المغاير ، فيكون بمعنى غير كما هنا ، والمقصود بالآية تحقير شأن هؤلاء الجند ، والتهوين من شأنهم .
والمعنى : بل أخبروني - أيها المشركون - بعد أن ثبتت غفلتكم وعدم تفكيركم تفكيرا ينفعكم ، من هذا الحقير الذي تستعينون به في نصركم ودفع الضر عنكم ، متجاوزين في ذلك إرادة الرحمن ، ومشيئته ونصره . أو من هذا الذي ينصركم نصرا كائنا غير نصر الرحمن ، أو من ينصركم من عذاب كائن من عنده - تعالى - .
والجواب الذي لا تستطيعون جوابا سواه : هو أنه لا ناصر لكم ، يستطيع أن ينصركم من دون الله - تعالى - ، كما قال - سبحانه - { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ . . . } وكما قال - عز وجل - : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } وقوله - سبحانه - : { إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ } كلام معترض بين ما قبله وما بعده ، لبيان حالهم القبيح وواقعهم المنكر .
أي : بل أخبروني من هذا الذي يزعم أنه يستطيع أن يوصل إليكم الرزق والخير ، إذا أمسك الله - تعالى - عنكم ذلك ، أو منع عنكم الأسباب التي تؤدي إلى نفعكم ، وإلى قوام حياتكم ، كمنع نزول المطر إليكم ، وكإهلاك الزروع والثمار التى تنبتها الأرض . .
إنه لا أحد يستطيع أن يرزقكم سوى الله - تعالى - .
وقوله : { بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } جملة مستأنفة ، جواب لسؤال تقديره : فهل انتفع المشركون بتلك المواعظ ؟ فكان الجواب كلا ، إنهم لم ينتفعوا ، بل { لجوا } أي تمادوا في اللجاج والجدال بالباطل ، { فِي عُتُوٍّ } أي : في استكبار وطغيان ، { وَنُفُورٍ } أي : شرود وتباعد عن الطريق المستقيم .
أي : أنهم ساروا في طريق أهوائهم حتى النهاية ، دون أن يستمعوا إلى صوت نذير أو واعظ أو مرشد .
ثم قال : { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } ؟ ! أي : من هذا الذي إذا قطع الله رزقه عنكم يرزقكم بعده ؟ ! أي : لا أحد يعطي ويمنع ويخلق ويرزق ، وينصر إلا الله عز وجل ، وحده لا شريك له ، أي : وهم يعلمون ذلك ، ومع هذا يعبدون غيره ؛ ولهذا قال : { بَلْ لَجُّوا } أي : استمروا في طغيانهم وإفكهم وضلالهم { فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } أي : في معاندة واستكبار ونفور على أدبارهم عن الحق ، [ أي ]{[29115]} لا يسمعون له ولا يتبعونه .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمّنْ هََذَا الّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لّجّواْ فِي عُتُوّ وَنُفُورٍ } .
يقول تعالى ذكره : أم من هذا الذي يطعمكم ويسقيكم ، ويأتي بأقواتكم إن أمسك عنكم رزقه الذي يرزقكم .
وقوله : { بَلْ لَجّوا فِي عُتُو وَنُفُور } يقول : بل تمادوا في طغيان ونفور عن الحقّ واستكبار . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : بَلْ لَجّوا فِي عُتُوّ وَنُفُورٍ يقول : في ضلال .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { بَلْ لَجّوا فِي عُتُوّ وَنُفُور } قال : كفور .