قوله تعالى : { ومن الليل فسبحه } يعني : صلاة المغرب والعشاء . وقال مجاهد : { ومن الليل } أي : صلاة الليل أي وقت صلى . { وأدبار السجود } قرأ أهل الحجاز : وحمزة : { وإدبار السجود } بكسر الهمز مصدر أدبر إدباراً ، وقرأ الآخرون : بفتحها على جمع الدبر . قال عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب والحسن ، والشعبي ، والنخعي ، والأوزاعي : { أدبار السجود } الركعتان بعد صلاة المغرب ، وأدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس . وروي عنه مرفوعاً ، هذا قول أكثر المفسرين .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا أبو أيوب الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا أبو جريح ، عن عطاء عن عبيد ابن عمير عن عائشة رضي الله عنها قالت : " ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد معاهدةً منه على الركعتين أمام الصبح " .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أنبأنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا صالح بن عبد الله ، حدثنا أبو عوانة عن قتادة ، عن زرارة بن أبي أوفى ، عن سعيد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " . أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أنبأنا أبو محمد الجراحي ، أنبأنا أبو العباس المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا بدل بن المحبر ، حدثنا عبد الملك بن معدان عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ما أحصي ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب وفي الركعتين قبل صلاة الفجر : { بقل يا أيها الكافرون } { وقل هو الله أحد } وقال مجاهد : قوله : ( وأدبار السجود ) هو التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات .
أخبرنا أبو الحسن طاهر بن الحسين الدورقي الطوسي بها ، أنبأنا أبو الحسن محمد ابن يعقوب ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن أيوب ، أنبأنا مسدد ، حدثنا خالد هو ابن عبد الله ، حدثنا سهيل عن أبي عبيد عن عطاء بن يزيد عن أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سبح في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ، وكبر الله ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين ، فذلك تسعة وتسعون ، ثم قال تمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إسحاق ، حدثنا يزيد ، حدثنا أبو رقاء عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : " قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، قال : كيف ذاك ؟ قالوا : صلوا كما صلينا وجاهدوا كما جاهدنا ، وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال ، قال : أفلا أخبركم بأمر تدركون من كان قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم ، ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله : تسبحون في دبر كل صلاة عشراً ، وتحمدون عشراً ، وتكبرون عشراً " .
{ وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ } - أيضا - ونزهه عن كل مالا يليق به ، { وَأَدْبَارَ السجود } أى : وفى أدبار وأعقاب الصلوات فأكثر من تسبيحه - عز وجل - وتقديسه .
ومن الأحاديث التى وردت فى فضل التسبيح بعد الصلوات المكتوبة ، ما ثبت فى الصحيحين عن أبى هريرة - أنه قال : " " جاء فقراء المهاجرين فقالوا : يا رسول الله ، ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم . فقال : " وما ذاك " ؟ قالوا : يصلون كما نصلى ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق . فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أفلا أعلمكم شيئا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم ؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين " .
قال : فقالوا : يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلناه ففعلوا مثله .
فقال - صلى الله عليه وسلم - : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " " .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار لَعَلَّكَ ترضى }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن الليل فسبحه} يقول: فصل المغرب والعشاء {وأدبار السجود} يعني الركعتين بعد صلاة المغرب وقتهما ما لم يغب الشفق...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله: "وَمِنَ اللّيْل فَسَبّحْهُ "اختلف أهل التأويل في التسبيح الذي أُمر به من الليل، فقال بعضهم: عنى به صلاة العَتَمة...
وقال آخرون: هي الصلاة بالليل في أيّ وقت صلى... عن مجاهد "وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبّحْهُ" قال: من الليل كله.
والقول الذي قاله مجاهد في ذلك أقرب إلى الصواب، وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال: "وَمَنِ اللّيْلِ فَسَبّحْهُ" فلم يَحُدّ وقتا من الليل دون وقت. وإذا كان ذلك كذلك كان على جميع ساعات الليل. وإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا، فهو بأن يكون أمرا بصلاة المغرب والعشاء، أشبه منه بأن يكون أمرا بصلاة العَتَمة، لأنهما يصلّيان ليلاً.
وقوله: "وأدْبارَ السّجُودِ" يقول: يقول: سبح بحمد ربك أدبار السجود من صلاتك.
واختلف أهل التأويل في معنى التسبيح الذي أمر الله نبيه أن يسبحه أدبار السجود؛ فقال بعضهم: عُنِي به الصلاة، قالوا: وهما الركعتان اللتان يصليان بعد صلاة المغرب...
حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا أبو فضيل، عن رشدين بن كُرَيب، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ابْنَ عَبّاس رَكْعَتانِ بَعْدَ المَغْرِب أدْبارَ السّجُود»...
وقال آخرون: عنى بقوله وأدْبارَ السّجُودِ: التسبيح في أدبار الصلوات المكتوبات، دون الصلاة بعدها...
وقال آخرون: هي النوافل في أدبار المكتوبات... قال ابن زيد، في قوله: وأدْبارَ السّجُودِ": النوافل.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، قول من قال: هما الركعتان بعد المغرب، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك، ولولا ما ذكرت من إجماعها عليه، لرأيت أن القول في ذلك ما قاله ابن زيد، لأن الله جلّ ثناؤه لم يخصص بذلك صلاة دون صلاة، بل عمّ أدبار الصلوات كلها، فقال: وأدبار السجود، ولم تقم بأنه معنيّ به: دبر صلاة دون صلاة، حجة يجب التسليم لها من خبر ولا عقل.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فالليلُ وقتُ الخلوة -والصفاءُ في الخلوة أتَمُّ وأصْفى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ومن الليل} أي في بعض أقواته {فسبحه} بصلاتي المغرب والعشاء وقيام الليل لأن الليل وقت الخلوات وهي ألذ المناجاة...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
{ومن الليل فسبحه} إشارة إلى زلفى من الليل وتقريره أنه صلى الله عليه وسلم كان مشتغلاً بأمرين أحدهما عبادة الله تعالى والثاني هداية الخلق فإذا لم يهتدوا قيل له أقبل على شغلك الآخر وهو العبادة قبل الطلوع وقبل الغروب...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وكذلك: (ومن الليل فسبّحه وأدبار السجود).
فهذا الذكر والتسبيح والمستمر ينصبّ على صعيد قلبك كانصباب الغيث على الأرض ليهبها الحياة ويسقيها الرواء، فالتسبيح أيضاً يُلهم قلبك النشاط والاستقامة بوجه الأعداء المعاندين...
لم يكن تعويل القرآن واعتماده على الصبر بوجه المشاكل لأوّل مرّة هنا فحسب، فطالما أمر النّبي والمؤمنون عامّة في الآيات مراراً بالصبر وأكّد على هذا الموضوع كما أنّ التجارب تدلّ على أنّ النصر والغلبة من نصيب اُولئك الذين تمتّعوا بالصبر والاستقامة.