اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَسَبِّحۡهُ وَأَدۡبَٰرَ ٱلسُّجُودِ} (40)

قوله تعالى : { فاصبر على مَا يَقُولُونَ } من كَذِبِهِمْ ، وقولهم بِالاسْتِرَاحَةِ ، أو على قولهم : إن هذا لشيء عَجِيبٌ . وهذا قبل الأمر بقتالهم .

{ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } قيل : هذا أَمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة كقوله تعالى : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل } [ هود : 114 ] وقوله { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب } إشارة إلى طرفي النهار ، وقوله : { وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ } إشارة إلى { زُلَفاً مِّنَ الليل }{[52583]} .

وتقريره أنه - عليه الصلاة والسلام - كان مشتغلاً بأمرين :

أحدهما : عبادة الله .

والثاني : هداية الخلق ، فإذا لم يهتدوا قيل له : أقبل على شغلك الآخر وهو العبادة .

وقيل : معنى سَبِّحْ بحمد ربك ، أي نَزِّههُ عما يقولون ولا تَسْأَمْ من تذكيرهم بعَظَمَةِ الله ، بل نَزِّهه عن الشرك والعجز عن الممكن وهو الحشر قبل الطلوع وقبل الغروب ؛ فإنهما وقت اجتماعهم ويكون المراد بقوله : { وَمِنَ اللّيل فَسَبِّحْهُ } أوله ، لأنه أيضاً وقت اجتماعهم .

وقيل : المعنى : قُلْ سُبْحَان الله ، لأن ألفاظاً جاءت بمعنى التلفظ بكلامهم كقولهم : كَبَّر لمن قال : اللَّهُ أَكْبَرُ وسلَّم لمن قال : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ، وحمَّد لمن قال : الْحَمْدُ لله . وهلَّك لمن قال : لاَ إله إلاَّ الله ، وسبَّح لمن قال : سُبْحَان الله ، وذلك أن هذه أمورٌ تَتَكَرَّر من الإنسان في الكلام ، [ فدعت ]{[52584]} الحاجة إلى استعمال لفظة واحدة مفيدة للكلام وقالوا : هلل بخلاف قَوْلِهِمْ : زَيْدٌ فِي السُّوقِ ، فإنَّ من قال : زيد في السوق وأراد أن يخبر عنه بذلك لا يجد لفظاً واحداً مفيداً لذلك لعدم تكرره .

ومناسبة هذا الوجه : هو{[52585]} أن تكذيبهم وإنكارهم يقتضي مقابلتهم باللَّعْنِ ، فقيل له : اصْبِرْ عَلَيْهِمْ ، واجعل بدل الدعاء عليهم التسبيح لله ، والحمد لله ، { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } أو كنوحٍ - عليهما الصلاة والسلام - حيث قال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] .

فصل

وقد استعمل التسبيح مع الباء ومع اللام وبدونهما . فإن قلنا : المراد بالتسبيح الصلاة فيحتمل أن يكون المراد بحمد ربك : الأمر بقراءة الفاتحة ، كقولك : صَلَّى فلانٌ بسورة كذا . وهذا بعيدٌ .

وإن قلنا المراد : قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ ، فالباء للمصاحبة . وكذلك إن قلنا : معناه التَّنْزِيهُ أي نَزِّهْهُ واحمَدْهُ حيث وَفَّقَكَ لتسبيحه فيكون المفعول محذوفاً ، للعلم به ، أي نزه الله بحمد ربك ، أي ملتبساً أو مقترناً بحمد ربك{[52586]} .

وأما اللام فإمّا أن يكون من باب شَكَرَ ونَصَحَ{[52587]} ، وإما أن يكون معناها خالصاً لله{[52588]} .

وأما تعدّيه بنفسه فهو الأصل . وأعاد الأمر للتسبيح ، إما تأكيداً وإما أن يكون الأول بمعنى الصلاة ، والثاني بمعنى التَّسْبِيح والذكر . ودخلت الفاء ؛ لأن المعنى : وأمَّا من الليل فسبحه{[52589]} .

ولما ذكر أوقات الصلوات ذكر أدْبَار السُّجود ؛ ليَعُمَّ الأوقات فيكون كقوله : { فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب } [ الشرح : 7 ] و«من » إما لابتداء الغاية ، أو{[52590]} مِنْ أوَّل الليل ، وإمَّا للتبعيضِ{[52591]} .

فصل

قال المفسرون : قبل طلوع الشمس يعني صلاة الصبح ، وقبل الغروب يعني العصر ، وروي عن ابن عباس : قبل الغروب الظهر والعصر { وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ } يعني صلاة المغرب ، والعِشَاءِ . وقال مجاهد : ومِنَ الليل يَعْنِي صلاة الليل ، أيّ وقت صلى{[52592]} .

قوله : «وأدبار السجود » قرأ نافع وابن كثير ، وحمزة : إدبار بكسر الهمزة{[52593]} ، على أنه مصدر قَامَ مَقَام ظَرْف الزمَان كقولهم : آتِيكَ خُفُوقَ النّجم وخِلاَفَة الحجّاج . ومعنى وقت إدبار الصلاة أي انتصابها وتمامها{[52594]} . والباقون{[52595]} بالفتح جمع ( دُبُر ){[52596]} وهو آخر الصلاة وعقبها . ومنه قول أوس :

عَلَى دُبُر الشَّهْرِ الْحَرَام فَأَرْضُنَا *** وَمَا حَوْلَهَا جَدْبٌ سِنُونَ تَلَمَّعُ{[52597]}

ولم يختلفوا في : { وَإِدْبَارَ النجوم } [ الطور : 49 ] .

وقوله : «وأدبار » معطوف إمّا على «قَبْلَ الْغُرُوبِ » وإمّا على «وَمِنَ اللَّيْلِ » .

فصل

قال عمرُ بن الخطاب ، وعليُّ بن أبي طالب ، والحسنُ ، والشعبيُّ ، والنخعيُّ والأوزاعي : أدبار السجود الركعتان قبل صلاة الفجر ، وهي رواية العَوْفي عن ابن عباس . وروي عنه مرفوعاً . وهذا قول أكثر المفسرين . وقال مجاهد : أدبار السجود هو التسبيح باللِّسان في أدبار الصلوات المكتوبات ، قال - عليه الصلاة والسلام - : «مَنْ سَبَّحَ فِي دُبُر كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثاً وثلاثين وَكَبَّرَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ وَحَمَّدَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ » فَذَلك تِسْعَةٌ وتسعُونَ ثم قال : «تَمَام المِائَةِ لا إله إلا الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ له الْمُلْكُ وَلهُ الْحَمْدُ يُحيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ »{[52598]} .


[52583]:وانظر الرازي 28/184 و185.
[52584]:ما بين القوسين سقط من (أ). الأصل.
[52585]:في (ب) على.
[52586]:قال بهذا كله الإمام الفخر في التفسير الكبير 25/185 بالمعنى منه.
[52587]:يقال شكرته ونصحته، وشكرت له ونصحت له.
[52588]:فيكون لبيان الأظهر، أي يسبحون الله وقلوبهم لوجه الله خالصة. وانظر الرازي المرجع السابق.
[52589]:فيكون متضمنا الشرط، فهو كقوله: "فأما اليتيم فلا تقهر".
[52590]:في (ب) أي وهو الصحيح.
[52591]:وانظر الرازي بالمعنى المرجع السابق 28/185.
[52592]:وانظر تلك المعاني والأقوال في البغوي والخازن 6/239 والقرطبي 17/24.
[52593]:وهي سبعية متواترة ذكرت في الكشف 2/285، والسبعة 607 والإتحاف 398.
[52594]:والتقدير: ومن الليل فسبحه ووقت أدبار السجود، أي وسبحه وقت. أقول: والمصادر تجعل ظروفا على تقدير إضافة أسماء الزمان إليها وحذفها اتساعا وحذف المضاف في هذا الباب هو المستعمل في أكثر الكلام. وانظر الكشف لمكي 2/287.
[52595]:وهم أبو عمرو وابن عامر، وعاصم، والكسائي.
[52596]:وقد استعمل ذلك أيضا ظرفا، قالوا: جئتك دُبر وكل صلاة. انظر الكشف المرجع السابق.
[52597]:من الطويل له كما هو ظاهر في ديوانه دار صادر 58 ورواية الديوان: وجئنا بها شهباء ذات أشلّةٍ *** لها عارض فيه المنيّة تلمع ورواية المؤلف هي رواية البحر لأبي حيان. ورواه ابن يعيش في المفصل2/45 "جدّت" بدل جدب و"بأرضنا" بدل "فأرضنا" والشاهد: على دبر فالدبر هنا ظرف أيضا ومعناه العَقِب كقولنا: جئتك في دبر كل صلاة. وانظر مجمع البيان 9/222 والسراج المنير 4/91 والبحر المحيط 8/130.
[52598]:خرجه البغوي في معامل التنزيل عن أبي هريرة، وانظر هذه الأقوال في البغوي والخازن 6/240 والقرطبي 17/25 و26.