ثم أضاف - سبحانه - إلى كل ما سبق من تحذيرات ، زواجر أخرى فقال : { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين . لَتَرَوُنَّ الجحيم . ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين } .
وجواب " لو " محذوف لقصد التهويل ، و " اليقين " فعيل بمعنى مفعول ، وعلم اليقين هو العلم الجازم المطابق للواقع الذي لا شك فيه . والإِضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة ، أو من إضافة العام إلى الخاص .
أي : لو تعلمون - علما موثوقا به - سوء عاقبة انشغالكم عن ذكر الله - تعالى - وتكاثركم وتفاخركم بالأموال والأولاد ، لشغلكم هذا العلم اليقيني عما أنتم عليه من التشاغل والتكاثر .
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة : الزيادة فى ردعهم ؛ لأنه من عادة الغافلين المكابرين أنك إذا ذكرتهم بالحق وبالرشاد . . زعموا أنهم ليسوا فى حاجة إلى هذا الإرشاد ؛ لأنهم أهل علم ومعرفة بالعواقب ، فكانت هذه الآية الكريمة بمثابة تنبيههم بأنهم ليسوا على شيء من العلم الصحيح ؛ لأنهم لو كانوا كذلك لما تفاخروا ، ولما تكاثروا .
أعيد الزجر ثالِثَ مرةٍ زيادة في إبطال ما هم عليه من اللهو عن التدبر في أقوال القرآن لعلهم يقلعون عن انكبابهم على التكاثر مما هم يتكاثرون فيه ولهوهم به عن النظر في دعوة الحق والتوحيد . وحذف مفعول { تعلمون } للوجه الذي تقدم في { كلا سوف تعلمون } وجواب { لو } محذوف .
وجملة : { لو تعلمون علم اليقين } تهويل وإزعاج لأن حذف جواب { لو } يجعل النفوس تذهب في تقديره كلَّ مذهب مُمكن . والمعنى : لو تعلمون علم اليقين لتبيَّن لكم حالٌ مفظع عظيم ، وهي بيان لما في { كلا } من الزجر .
والمضارع في قوله : { لو تعلمون } مراد به زمن الحال . أي لو علمتم الآن علم اليقين لعلمتم أمراً عظيماً . ولفعل الشرط مع { لو } أحوال كثيرة واعتبارات ، فقد يقع بلفظ الماضي وقد يقع بلفظ المضارع وفي كليهما قد يكون استعماله في أصل معناه . وقد يكون منزّلاً منزلةَ غير معناه ، وهو هنا مستعمل في معناه من الحال بدون تنزيل ولا تأويل .
وإضافة { علم } إلى { اليقين } إضافةٌ بيانية فإن اليقين علم ، أي لو علمتم علماً مطابقاً للواقع لبان لكم شنيع ما أنتم فيه ولكن علمهم بأحوالهم جهل مركَّب من أوهام وتخيلات ، وفي هذا نداء عليهم بالتقصير في اكتساب العلم الصحيح . وهذا خطاب للمشركين الذين لا يؤمنون بالجزاء وليس خطاباً للمسلمين لأن المسلمين يعلمون ذلك علم اليقين . واعلم أنَّ هذا المركب هو { علم اليقين } نقل في الاصطلاح العلمي فصار لقباً لحالة من مدركات العقل وقد تقدم بيان ذلك عند تفسير قوله تعالى : { وإنه لحق اليقين } في سورة الحاقة ( 51 ) فارجع إليه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{ كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ } يقول تعالى ذكره : ما هكذا ينبغي أن تفعلوا ، أن يلهيكم التكاثر أيها الناس ، لو تعلمون أيها الناس علما يقينا أن الله باعثكم يوم القيامة من بعد مماتكم ، من قبوركم ، ما ألهاكم التكاثر عن طاعة الله ربكم ، ولسارعتم إلى عبادته ، والانتهاء إلى أمره ونهيه ، ورفض الدنيا ، إشفاقا على أنفسكم من عقوبته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يعني بهذا - والله أعلم - إبطال ما كانوا عليه من الظنون والحسبان في هذه الدنيا . ألا ترى إلى قوله تعالى : { ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا } ؟ ( الجاثية : 32 ) فإذا نزل بهم العذاب تحقق عندهم ، وعلموا علما يقينا . فقال بعضهم : { كلا سوف تعلمون } حين نزل بكم الموت { ثم كلا سوف تعلمون } في القبر ...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ومعناه ارتدعوا وانزجروا ، لو تعلمون علم اليقين ، وهو الذي يثلج الصدر بعد اضطراب الشك ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم كرّر التنبيه أيضاً وقال : { لَّوْ تَعْلَمُونَ } محذوف الجواب ، يعني : لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين - أي : كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور التي وكلتم بعملها هممكم - لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه ؛ ولكنكم ضلال جهلة . ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أي لازدجرتم وبادرتم إنقاذ أنفسكم من الهلكة ، و { اليقين } أعلى مراتب العلم . ...
واعلم أن ترك الجواب في مثل هذا المكان أحسن ، يقول الرجل للرجل : لو فعلت هذا، أي لكان كذا ، قال الله تعالى : { لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم } ولم يجيء له جواب وقال : { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم }. إذا عرفت هذا فنقول : ذكروا في جواب لو وجوها؛
( أحدها ) : قال الأخفش : { لو تعلمون علم اليقين } ما ألهاكم التكاثر.
( وثانيها ) : قال أبو مسلم لو علمتم ماذا يجب عليكم لتمسكتم به أو لو علمتم لأي أمر خلقتم لاشتغلتم به.
( وثالثها ) : أنه حذف الجواب ليذهب الوهم كل مذهب فيكون التهويل أعظم ...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
وإنما وجد هذا التكاثر وإلهاؤه عما هو أولى بكم لما فقد منكم علم اليقين ، وهو العلم الذي يصل به صاحبه إلى حد الضروريات ، التي لا يشك ولا يمارى في صحتها وثبوتها . ولو وصلت حقيقة هذا العلم إلى القلب وباشرته لما ألهاه عن موجبه ، ولترتب أثره عليه . فإن مجرد العلم بقبح الشيء وسوء عواقبه قد لا يكفي في تركه . فإذا صار له علم اليقين كان اقتضاء هذا العلم لتركه أشد . فإذا صار عين يقين ، كجملة المشاهدات ، كان تخلف موجبه عنه أندر شيء .
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ كلا } أي ليشتد ارتداعكم عن التكاثر ، فإنه أساس كل بلاء ، فإنكم { لو تعلمون } أيها المتكاثرون . ولما كان العلم قد يطلق على الظن رفع مجازه بقوله : { علم اليقين } ، أي لو يقع لكم علم على وجه اليقين مرة من الدهر لعلمتم ما بين أيديكم ، فلم يلهكم التكاثر ....فحذف هذا الجواب بعد حذف المفعول للتفخيم ، فهو إشارة إلى أنه لا يقين غيره ، والمعنى أن أعمالكم أعمال من لا يتيقنه ....
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
...وقد قدمنا مراتب العلم الثلاث : علم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين .
وعين اليقين : ما كان عن مشاهدة .
وحق اليقين : ما كان عن ملابسة ومخالطة ، كما يحصل العلم بالكعبة ، وجهتها فهو علم اليقين ، فإذا رآها فهو عين اليقين بوجودها ، فإذا دخلها وكان في جوفها فهو حق اليقين بوجودها . واللَّه تعالى أعلم .