قوله تعالى : { وتلك الأمثال } الأشباه ، والمثل : كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأول ، يريد : أمثال القرآن التي شبه بها أحوال كفار هذه الأمة بأحوال كفار الأمم المتقدمة ، { نضربها } نبينها ، { للناس } قال عطاء ومقاتل : لكفار مكة ، { وما يعقلها إلا العالمون } أي : ما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، أنبأنا ابن برزة ، أنبأنا الحارث بن أبي أسامة ، أنبأنا داود بن المحبر ، أنبأنا عباد بن كثير ، عن ابن جريج عن عطاء وأبي الزبير عن جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية : { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } قال : العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه " .
{ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } أي : لأجلهم ولانتفاعهم وتعليمهم ، لكونها من الطرق الموضحة للعلوم ، ولأنها تقرب الأمور المعقولة بالأمور المحسوسة ، فيتضح المعنى المطلوب بسببها ، فهي مصلحة لعموم الناس .
{ و } لكن { مَا يَعْقِلُهَا } بفهمها وتدبرها ، وتطبيقها على ما ضربت له ، وعقلها في القلب { إِلَّا الْعَالِمُونَ } أي : أهل العلم الحقيقي ، الذين وصل العلم إلى قلوبهم .
وهذا مدح للأمثال التي يضربها ، وحثٌّ على تدبرها وتعقلها ، ومدح لمن يعقلها ، وأنه عنوان على أنه من أهل العلم ، فعلم أن من لم يعقلها ليس من العالمين .
والسبب في ذلك ، أن الأمثال التي يضربها اللّه في القرآن ، إنما هي للأمور الكبار ، والمطالب العالية ، والمسائل الجليلة ، فأهل العلم يعرفون أنها أهم من غيرها ، لاعتناء اللّه بها ، وحثه عباده على تعقلها وتدبرها ، فيبذلون جهدهم في معرفتها .
وأما من لم يعقلها ، مع أهميتها ، فإن ذلك دليل على أنه ليس من أهل العلم ، لأنه إذا لم يعرف المسائل المهمة ، فعدم معرفته غيرها من باب أولى وأحرى . ولهذا ، أكثر ما يضرب اللّه الأمثال في أصول الدين ونحوها .
{ وَتِلْكَ الأمثال } التى سقناها فى كتابنا العزيز ، والتى من بينها المثال السابق .
{ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } على سبيل الإِرشاد والتنبيه والتوضيح .
{ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون } أى : وما يعقل هذه الأمثال ، ويفهم صحتها وحسنها ، إلا الراسخون فى العلم ، المتدبرون فى خلق الله - تعالى - ، الفاقهون لما يتلى عليهم .
وقوله { وتلك الأمثال } إشارة إلى هذا المثل ونحوه ، و { نضربها } مأخوذ من الضرب أي النوع كما تقول هذان من ضرب واحد وهذا ضريب هذا أي قرينه وشبهه ، فكأنه ضرب المثل هو أن يجعل للأمر الممثل ضريب ، وباقي الآية بين . وقرأت فرقة «يدعون » بالياء من تحت ، وقرأت فرقة «تدعون » بالتاء على المخاطبة ، وقال جابر : قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { إلا العالون } : «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته وانتهى عن معصيته » .
بعد أن بين الله لهم فساد معتقدهم في الأصنام ، وأعقبه بتوقيفهم على جهلهم بذلك ، نعى عليهم هنا أنهم ليسوا بأهل لتفهم تلك الدلائل التي قُربت إليهم بطريقة التمثيل ، فاسم الإشارة يبيّنه الاسم المبدل منه وهو { الأمثال } .
والإشارة إلى حاضر في الأذهان فإن كل من سمع القرآن حصل في ذهنه بعض تلك الأمثال . واسم الإشارة للتنويه بالأمثال المضروبة في القرآن التي منها هذا المثل بالعنكبوت .
وجملة { نضربها للناس } خبر عن اسم الإشارة . وهذه الجملة الخبرية مستعملة في الامتنان والطول لأن في ضرب الأمثال تقريباً لفهم الأمور الدقيقة . قال الزمخشري : « ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المُثل والنظائر شأنٌ ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المتحقق والغائب كالمشاهد » . وقد تقدم بيان مزية ضرب الأمثال عند قوله تعالى { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها } في سورة البقرة( 26 ) .
ولهذا اتبعت هذه الجملة بجملة { وما يعقلها إلا العالمون } . والعقل هنا بمعنى الفهم ، أي لا يفهم مغزاها إلا الذين كمُلت عقولهم فكانوا علماء غير سفهاء الأحلام . وفي هذا تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بها جهلاء العقول ، فما بالك بالذين اعتاضوا عن التدبر في دلالتها باتخاذها هُزءاً وسخرية ، فقالت قريش لما سمعوا قوله تعالى { إن الذين تَدْعُون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه } [ الحج : 73 ] ، وقوله { كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } [ العنكبوت : 41 ] قالوا : ما يستحيي محمد أن يمثل بالذباب والعنكبوت والبعوض . وهذا من بهتانهم ، وإلا فقد علم البلغاء أن لكل مقام مقالاً ، ولكل كلمة مع صاحبتها مقام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وتلك الأمثال نضربها للناس}: وتلك الأشباه نبينها لكفار مكة، فيما ذكر من أمر الصنم، {وما يعقلها إلا العالمون} يقول: الذين يعقلون عن الله عز وجل الأمثال.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَتِلكَ الأَمْثالُ نَضْرِبُها للنّاسِ" يقول تعالى ذكره: وهذه الأمثال، وهي الأشباه والنظائر "نضربها للناس "يقول: نمثلها ونشبهها ونحتجّ بها للناس...
"وَما يَعْقلُها إلاّ العالِمُونَ" يقول تعالى ذكره: وما يعقل أنه أصيب بهذه الأمثال التي نضربها للناس منهم الصواب والحقّ فيما ضربت له مثلاً إلاّ العالمون بالله وآياته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... فإن قيل: ذكر أنه لا يعقلها إلا العالمون، والعقل يسبق العلم بالشيء، إذ بالعقل يعلم ما يعلم، فكيف ذكر أنه لا يعقل إلا العالمون، ولم يقل: وما يعلمها إلا العاقلون؟ فهو، والله أعلم، لوجوه:
أحدها: أن الأمثال إنما تضرب لتقريب ما يبعد عن الأوهام ولكشف ما استتر من الأشياء على الإفهام، وتجليها عما خفيت. فلا يعقل الأمثال إنها لماذا ضربت إلا العالم.
والثاني: أن العقول تعرف أسباب الأشياء ودلائلها، أما أن تعرف حقائق الأشياء وأنفسها فلا، من نحو المسالك والطرق إلى البلد تعرف مسالكها وطرقها التي بها يوصل إليها، فأما أعيانها فلا، وكذا المراقي التي بها تعلو، وترتفع، فإما عين العلو فلا. وأما العلم فإنه يوصل إلى معرفة حقائق الأشياء وأنفسها وصورها. لذلك كان ما ذكر. والثالث: أن يكون قوله: {وما يعقلها إلا العالمون} أي وما ينتفع بما ذكر إلا العالمون، وهو كما قال: {صم بكم عمي} [البقرة: 18 و171] نفى عنهم هذه الحواس، وإن كانت لهم أنفس تلك الحواس، لما لم يستعملوها في ما جعلت، وأنشئت، ولم ينتفعوا بها، فنفى عنهم تلك. فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: {وما يعقلها إلا العالمون} أي ما ينتفع بما يعقل إلا العالم. فأما من لم ينتفع فلا يعقل، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وما يعقلها إلا العالمون "أي ما يدركها إلا من كان عالما بمواقعها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كان الجهلة والسفهاء من قريش يقولون إنَّ ربّ محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، فلذلك قال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون} أي لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها إلا هم، لأنّ الأمثال والتشبيهات إنما هي الطرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار حتى تبرزها وتكشف عنها وتصوّرها للأفهام، كما صوّر هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد.
{وتلك الأمثال نضربها للناس}. قال الكافرون كيف يضرب خالق الأرض والسماوات الأمثال بالهوام والحشرات كالبعوض والذباب والعنكبوت؟ فيقال الأمثال تضرب للناس إن لم تكونوا كالأنعام يحصل لكم منه إدراك ما يوجب نفرتكم مما أنتم فيه وذلك لأن التشبيه يؤثر في النفس تأثيرا مثل تأثير الدليل، فإذا قال الحكيم لمن يغتاب إنك بالغيبة كأنك تأكل لحم ميت لأنك وقعت في هذا الرجل وهو غائب، لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيب كمن يقع في ميت يأكل منه وهو لا يعلم ما يفعله ولا يقدر على دفعه إن كان يعلمه فينفر طبعه منه كما ينفر إذا قال له إنه يوجب العذاب ويورث العقاب.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} أي: لأجلهم ولانتفاعهم وتعليمهم، لكونها من الطرق الموضحة للعلوم، ولأنها تقرب الأمور المعقولة بالأمور المحسوسة، فيتضح المعنى المطلوب بسببها، فهي مصلحة لعموم الناس...
{و} لكن {مَا يَعْقِلُهَا} بفهمها وتدبرها، وتطبيقها على ما ضربت له، وعقلها في القلب {إِلَّا الْعَالِمُونَ} أي: أهل العلم الحقيقي، الذين وصل العلم إلى قلوبهم. وهذا مدح للأمثال التي يضربها، وحثٌّ على تدبرها وتعقلها، ومدح لمن يعقلها، وأنه عنوان على أنه من أهل العلم، فعلم أن من لم يعقلها ليس من العالمين. والسبب في ذلك، أن الأمثال التي يضربها اللّه في القرآن، إنما هي للأمور الكبار، والمطالب العالية، والمسائل الجليلة، فأهل العلم يعرفون أنها أهم من غيرها، لاعتناء اللّه بها، وحثه عباده على تعقلها وتدبرها، فيبذلون جهدهم في معرفتها. وأما من لم يعقلها، مع أهميتها، فإن ذلك دليل على أنه ليس من أهل العلم، لأنه إذا لم يعرف المسائل المهمة، فعدم معرفته غيرها من باب أولى وأحرى. ولهذا، أكثر ما يضرب اللّه الأمثال في أصول الدين ونحوها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
بعد أن بين الله لهم فساد معتقدهم في الأصنام، وأعقبه بتوقيفهم على جهلهم بذلك، نعى عليهم هنا أنهم ليسوا بأهل لتفهم تلك الدلائل التي قُربت إليهم بطريقة التمثيل، فاسم الإشارة يبيّنه الاسم المبدل منه وهو {الأمثال}. والإشارة إلى حاضر في الأذهان فإن كل من سمع القرآن حصل في ذهنه بعض تلك الأمثال. واسم الإشارة للتنويه بالأمثال المضروبة في القرآن التي منها هذا المثل بالعنكبوت... ولهذا اتبعت هذه الجملة بجملة {وما يعقلها إلا العالمون}. والعقل هنا بمعنى الفهم، أي لا يفهم مغزاها إلا الذين كمُلت عقولهم فكانوا علماء غير سفهاء الأحلام. وفي هذا تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بها جهلاء العقول، فما بالك بالذين اعتاضوا عن التدبر في دلالتها باتخاذها هُزءاً وسخرية.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
هذه الآية جديرة بالتعليق من حيث احتوائها تنويها بالعلماء الذين يؤهلهم علمهم لفهم الأمور والأمثال والاتعاظ بها. وقد تكرر هذا المعنى في آيات كثيرة في سور سابقة حيث ينطوي في ذلك توكيد التنويه من جهة، وحث الناس على توسيع حدود معارفهم من جهة، وتبيين مسؤولية العلماء وواجبهم في تدبر مختلف الشؤون وتبيينها للناس من جهة، والوقوف منها عند حدود ما يقتضيه الحق والعلم من غير تجاوز ولا تغافل من جهة. وإطلاق الفصل يدل أن كل ذلك شامل لمتنوع مراتب وصفات العلم والعلماء بحيث يشمل شؤون الدين والدنيا معا كما هو المتبادر.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
لأنهم قبل غيرهم هم الذين يدركون حسنها وصحتها وفائدتها وحكمة التمثيل بها.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ أهميّة المثال وظرافته لا تكمن في كبره وصغره، بل تظهر أهميته في انطباق المثال على المقصود، فقد يكون صغر الشيء الممثل به أكبر نقطة في قوته. قالوا في ضرب الأمثال: ينبغي عند الكلام عن الأشياء الضعيفة والتي فيها وهن أن يمثل لها في ما لو اعتمد عليها ببيت العنكبوت، فهو أحسن شيء ينتخب لهذا الوهن وعدم الثبات، فهذا المثال هو الفصاحة بعينها والبلاغة ذاتها، ولذا قيل: إنّه لا يعلم دقائق أمثلة القرآن ولا يدركها إلاّ العلماء!