158- قل - يأيها النبي - للناس : إني مرسل من اللَّه إليكم جميعا ، لا فرق بين عربي وعجمي وأسود وأبيض واللَّه الذي أرسلني له - وحده - ملك السماوات والأرض يدبر أمرهما حسب حكمته ، ويتصرف فيهما كيف يشاء ، ولا معبود بحق إلا هو ، وهو الذي يقدر على الإحياء والإماتة دون غيره ، فآمنوا به وبرسوله النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب ، وهو يؤمن باللَّه الذي يدعوكم إلى الإيمان ، ويؤمن بكتبه المنزلة ، واتبعوه في كل ما يفعل ويقول لتهتدوا وترشدوا .
ولما دعا أهل التوراة من بني إسرائيل ، إلى اتباعه ، وكان ربما توهم متوهم ، أن الحكم مقصور عليهم ، أتى بما يدل على العموم فقال :
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا أي : عربيكم ، وعجميكم ، أهل الكتاب منكم ، وغيرهم .
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يتصرف فيهما بأحكامه الكونية والتدابير السلطانية ، وبأحكامه الشرعية الدينية التي من جملتها : أن أرسل إليكم رسولا عظيما يدعوكم إلى اللّه وإلى دار كرامته ، ويحذركم من كل ما يباعدكم منه ، ومن دار كرامته .
لا إِلَهَ إِلا هُوَ أي : لا معبود بحق ، إلا اللّه وحده لا شريك له ، ولا تعرف عبادته إلا من طريق رسله ، يُحْيِي وَيُمِيتُ أي : من جملة تدابيره : الإحياء والإماتة ، التي لا يشاركه فيها أحد ، الذي جعل الموت جسرا ومعبرا يعبر منه إلى دار البقاء ، التي من آمن بها صدق الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم قطعا .
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ إيمانا في القلب ، متضمنا لأعمال القلوب والجوارح . الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ أي : آمنوا بهذا الرسول المستقيم في عقائده وأعماله ، وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ في مصالحكم الدينية والدنيوية ، فإنكم إذا لم تتبعوه ضللتم ضلالا بعيدا .
ثم أمر الله رسوله أن يبين للناس أنه مرسل إلى الناس كافة ، فقال تعالى : { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } أى : قل يا محمد لكافة البشر من عرب وعجم ، إنى رسول الله إليكم جميعاً ، لا فرق بين نصرانى أو يهودى ، وإنما رسالتى إلى الناس عامة ، وقد جاء في القرآن الكريم وفى السنة النبوية ما يؤيد عموم رسالته .
أما في القرآن الكريم ، فمن ذلك قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وقال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } وقال تعالى : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } أى وأنذر من بلغه القرآن ممن سيوجد إلى يوم القيامة من سائر الأمم وفى ذلك دلالة على عموم رسالة النبى صلى الله عليه وسلم وعلى أن أحكام القرآن تعم الثقلين إلى يوم الدين .
وأما في السنة فمن ذلك ما رواه البخارى عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلى : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لى الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لى الغنائم ولم تحل لأحد قبلى ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبى يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة " .
وفى صحيح مسلم عن أبى موسى الأشعرى - رضى الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذى نفسى بيده لا يسمع بى رجل من هذه الأمة يهودى ولا نصرانى ثم لا يؤمن بى إلا دخل النار " .
قال الإمام ابن كثير : والآيات في هذا كثيرة ، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر ، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه رسول إلى الناس كلهم ه .
ثم وصف الله تعالى ذاته بما هو أهل له من صفات القدرة والوحدانية فقال تعالى : { الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض لا إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ } أى : قل - يا محمد - للناس إنى رسول إليكم من الله الذي له التصرف في السموات والأرض ، والذى لا معبود بحق سواه والذى بيده الاحياء والإماتة ، ومن كان هذا شأنه فمن الواجب أن يطاع أمره ، وأن يترك ما نهى عنه ، وأن يصدق رسوله . ثم بنى - سبحانه - على هذه النعوت الجليلة التي وصف بها نفسه الدعوة إلى الإيمان فقال تعالى : { فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ النبي الأمي الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أى : فآمنوا أيها الناس جمعاً بالله الواحد الأحد وآمنوا - أيضاً برسوله محمد صلى الله عليه وسلم النبى الأمى الذي يؤمن بالله ، وبما أنزل عليه وعلى من تقدمه من الرسل من كتبه ووحيه واسلكوا سبيله ، واقتفوا آثاره ، في كل ما يأمر به أو ينهى عنه رجاء أن تهتدوا إلى الراط المستقيم .
وفى وصفه صلى الله عليه وسل بالأمية مرة ثانية ، إشارة إلى كمال علمه ، لأنه مع عدم مطالعته للكتاب ، أو مصاحبته لمعلم . فتح الله له أبواب العلم ، وعلمه لما لم يكن يعلم من سائر العلوم التي تعلمها الناس عنه ، وصاروا بها أئمة العلماء وقادة المفكرين ، فأكرم بها من أمية تضاءل بجانبها علم العلماء في كل زمان ومكان .
وبذلك تكون الآيتان الكريمتان قد وصفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأشرف الصفات وأقامتا أوضح الحجج وأقواها على صدقه في نبوته ، ودعتا اليهود بل الناس جميعاً إلى الإيمان به لأنه قد بشرت به الكتب السماوية السابقة ولأنه صلى الله عليه وسلم ما جاءهم إلا بالخير ، وما نهاهم إلا عن الشر . ولأن شريعته تمتاز باليسر والسماحة ، ولأن أنصاره وأتباعه هم المفلحون ، ولأن رسالته عامة للجن والانس ، ومن كانت هذه صفاته ، وتلك شريعته ، جدير أن يتبع ، وقمين أن يصدق ويطاع ، وما يعرض عن دعوته إلا من طغى وآثر الحياة الدنيا .
وقبل أن يمضي السياق إلى مشهد جديد من مشاهد القصة ، يقف عند هذا البلاغ المبكر ، يوجه الخطاب إلى النبي الأمي [ ص ] يأمره بإعلان الدعوة إلى الناس جميعاً ، تصديقاً لوعد الله القديم :
( قل : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ، الذي له ملك السماوات والأرض ، لا إله إلا هو يحيي ويميت . فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ، واتبعوه لعلكم تهتدون ) .
إنها الرسالة الأخيرة ، فهي الرسالة الشاملة ، التي لا تختص بقوم ولا أرض ولاجيل . . ولقد كانت الرسالات قبلها رسالات محلية قومية محدودة بفترة من الزمان - ما بين عهدي رسولين - وكانت البشرية تخطو على هدى هذه الرسالات خطوات محدودة ، تأهيلاً لها للرسالة الأخيرة . وكانت كل رسالة تتضمن تعديلاً وتحويراً في الشريعة يناسب تدرج البشرية . حتى إذا جاءت الرسالة الأخيرة جاءت كاملة في أصولها ، قابلة للتطبيق المتجدد في فروعها ، وجاءت للبشر جميعاً ، لأنه ليست هنالك رسالات بعدها للأقوام والأجيال في كل مكان . وجاءت وفق الفطرة الإنسانية التي يلتقي عندها الناس جميعاً . ومن ثم حملها النبي الأمي الذي لم يدخل على فطرته الصافية - كما خرجت من يد الله - إلا تعليم الله . فلم تشب هذه الفطرة شائبة من تعليم الأرض ومن أفكار الناس ! ليحمل رسالة الفطرة إلى فطرة الناس جميعاً :
( قل : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ) . .
وهذه الآية التي يؤمر فيها رسول الله [ ص ] أن يواجه برسالته الناس جميعاً ، هي آية مكية في سورة مكية . . وهي تجبه المزورين من أهل الكتاب ، الذين يزعمون أن محمداً [ ص ] لم يكن يدور في خلده وهو في مكة أن يمد بصره برسالته إلى غير أهلها ، وأنه إنمابدأ يفكر في أن يتجاوز بها قريشاً ، ثم يجاوز بها العرب إلى دعوة أهل الكتاب ، ثم يجاوز بها الجزيرة العربية إلى ما وراءها . . كل أولئك بعد أن أغراه النجاح الذي ساقته إليه الظروف ! وإن هي إلا فرية من ذيول الحرب التي شنوها قديماً على هذا الدين وأهله . وما يزالون ماضين فيها !
وليست البلية في أن يرصد أهل الكتاب كيدهم كله لهذا الدين وأهله . وأن يكون " المستشرقون " الذين يكتبون مثل هذا الكذب هم طليعة الهجوم على هذا الدين وأهله . . إنما البلية الكبرى أن كثيراً من السذج الأغرار ممن يسمون أنفسهم بالمسلمين يتخذون من هؤلاء المزوّرين على نبيهم ودينهم ، المحاربين لهم ولعقيدتهم ، أساتذة لهم ، يتلقون عنهم في هذا الدين نفسه ، ويستشهدون بما يكتبونه عن تاريخ هذا الدين وحقائقه ، ثم يزعم هؤلاء السذج الأغرار لأنفسهم أنهم " مثقفون ! " . ونعود إلى السياق القرآني بعد تكليف الرسول [ ص ] أن يعلن رسالته للناس جميعاً . فنجد بقية التكليف هي تعريف الناس جميعا بربهم الحق سبحانه :
( الذي له ملك السماوات والأرض ، لا إله إلا هو . يحيي ويميت ) . .
إنه [ ص ] رسول للناس جميعاً من ربهم الذي يملك هذا الوجود كله - وهم من هذا الوجود - والذي يتفرد بالألوهية وحده ، فالكل له عبيد . والذي تتجلى قدرته وألوهيته في أنه الذي يحيي ويميت . .
والذي يملك الوجود كله ، والذي له الألوهية على الخلائق وحده ، والذي يملك الحياة والموت للناس جميعاً . هو الذي يستحق أن يدين الناس بدينه ، الذي يبلغه إليهم رسوله . . فهو تعريف للناس بحقيقة ربهم ، لتقوم على هذا التعريف عبوديتهم له ، وطاعتهم لرسوله :
( فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ، واتبعوه لعلكم تهتدون )
وهذا النداء الأخير في هذا التعقيب يتضمن لفتات دقيقة ينبغي أن نقف أمامها لحظات :
إنه يتضمن ابتداء ذلك الأمر بالإيمان بالله ورسوله . . وهو ما تتضمنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، في صورة أخرى من صور هذا المضمون الذي لا يقوم بدونه إيمان ولا إسلام . . ذلك أن هذا الأمر بالإيمان بالله سبقه في الآية التعريف بصفاته تعالى : ( الذي له ملك السماوات والأرض ، لا إله إلا هو ، يحيي ويميت ) فالأمر بالإيمان هو أمر بالإيمان بالله الذي هذه صفاته الحقة . كما سبقه التعريف برسالة النبي [ ص ] إلى الناس جميعاً .
ثم يتضمن ثانية أن النبي الأمي - صلوات الله وسلامه عليه - يؤمن بالله وكلماته . . ومع أن هذه بديهية ، إلا أن هذه اللفتة لها مكانها ولها قيمتها . فالدعوة لا بد أن يسبقها إيمان الداعي بحقيقة ما يدعو إليه ، ووضوحه في نفسه ، ويقينه منه . لذلك يجيء وصف النبي المرسل إلى الناس جميعاً بأنه ( الذي يؤمن بالله وكلماته ) . . وهو نفس ما يدعو الناس إليه ونصه . .
ثم يتضمن أخيراً لفتة إلى مقتضى هذا الإيمان الذي يدعوهم إليه . وهو اتباعه فيما يأمر به ويشرعه ، واتباعه كذلك في سنته وعمله . وهو ما يقرره قول الله سبحانه : واتبعوه لعلكم تهتدون . . فليس هناك رجاء في أن يهتدي الناس بما يدعوهم إليه رسول الله [ ص ] إلا باتباعه فيه . ولا يكفي أن يؤمنوا به في قلوبهم ما لم يتبع الإيمان الاتباع العملي . . وهو الإسلام . .
إن هذا الدين يعلن عن طبيعته وعن حقيقته في كل مناسبة . . إنه ليس مجرد عقيدة تستكن في الضمير . . كما أنه كذلك ليس مجرد شعائر تؤدى وطقوس . . إنما هو الاتباع الكامل لرسول الله [ ص ] فيما يبلغه عن ربه ، وفيما يشرعه ويسنه . . والرسول لم يأمر الناس بالإيمان بالله ورسوله فحسب . ولم يأمرهم كذلك بالشعائر التعبدية فحسب . ولكنه أبلغهم شريعة الله في قوله وفعله . ولا رجاء في أن يهتدي الناس إلا إذا اتبعوه في هذا كله . . فهذا هو دين الله . . وليس لهذا الدين من صورة أخرى إلا هذه الصورة التي تشير إليها هذه اللفتة : ( واتبعوه لعلكم تهتدون ) بعد الأمر بالإيمان بالله ورسوله . . ولو كان الأمر في هذا الدين أمر اعتقاد وكفى ، لكان في قوله : ( فآمنوا بالله ورسوله ) الكفاية !
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَألأَرْضِ لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الأُمِّىِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنَتَىَ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً }
هذا أمر من الله عز وجل لنبيه بإشهار الدعوة والحض على الدخول في الشرع ، وذلك أنه لما رَّجى الأمة المتبعة للنبي الأمي التي كتب لها رحمته ، عقب ذلك بدعاء الناس إلى ا?تباع الذي معه تحصل تلك المنازل ، وهذه الآية خاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم بين الرسل ، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة وإلى الجن ، قاله الحسن ، وتقتضيه الأحاديث ، وكل نبي إنما بعث إلى فرقة دون العموم ، ثم إنه لما أعلن بالرسالة من عند الله أردف بصفة الله التي تقتضي الإذعان له وهي أنه ملك السموات والأرض بالخلق والإبداع والإحياء والإماتة لا إله إلا هو ولا معبود سواه .
وقوله تعالى : { فآمنوا بالله ورسوله } الآية ، هو الحض على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { الذي يؤمن } يريد الذي يصدق { بالله وكلماته } والكلمات هنا الآيات المنزلة من عنده كالتوراة والإنجيل ، وقرأ جمهور الناس «كلماته » بالجمع ، وقرأ عيسى بن عمر «كلمته » بالإفراد الذي يراد به الجمع ، وقرأ الأعمش «الذي يؤمن بالله وآياته » بدل «كلماته » ، وقال مجاهد والسدي : المراد ب «كلماته » أو «كلمته » عيسى بن مريم ، وقوله تعالى : { لعلكم تهتدون } أي على طمعكم وبحسب ما ترونه ، وقوله : { واتبعوه } لفظ عام يدخل تحته جميع إلزامات الشريعة جعلنا الله من متبعيه على ما يلزم بمنه ورحمته .
هذه الجملة معترضة بين قصص بني إسرائيل جاءت مستطردة لمناسبة ذكر الرسول الأمي ، تذكيرً لبني إسرائيل بما وعد الله به موسى عليه السلام ، وإيقاظاً لأفهامهم بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو مِصداق الصفات التي علمها الله موسى والخطاب ب { يا أيها الناس } لجميع البشر ، وضمير التكلم ضمير الرسول محمد صلى الله عليه وسلم
وتأكيد الخبر ب ( إن ) باعتبار أن في جملة المخاطبين منكرين ومترددين ، استقصاء في إبلاغ الدعوة إليهم .
وتأكيد ضمير المخاطبين بوصف { جميعاً } الدال نصاً على العموم ، لرفع احتمال تخصيص رسالته بغير بني إسرائيل ، فإن من اليهود فريقاً كانوا يزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبيء ، ويزعمون إنه نبيُء العرب خاصة ، ولذلك لما قال رسول الله لابن صياد وهو يهودي أتشهد أني رسول الله ، قال ابن صياد : أشهد إنك رسول الأميين . وقد ثبت من مذاهب اليهود مذهب فريق من يهود أصفهان يدعون بالعيسوية وهم أتباع أبي عيسى الأصفهاني اليهودي القائِل بأن محمداً رسول الله إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل ، لأن اليهود فريقان : فريق يزعمون أن شريعة موسى لا تنسخ بغيرها ، وفريق يزعمون أنها لا تنسخ عن بني إسرائيل ، ويجوز أن يبعث رسول لغير بني إسرائيل .
وانتصب { جميعاً } على الحال من الضمير المجرور ، ب ( إلى ) وهو فعيل بمعنى مفعوُل أي مجموعين ، ولذلك لزم الإفرادَ ؛ لأنه لا يطابق موصوفه .
{ الذي له ملك السماوات والأرض } نعت لاسم الجلالة ، دال على الثناء .
وتقديم المجرور للقصر ، أي : لا لغيره مما يعبده المشركون ، فهو قصر إضافي للرد على المشركين .
وجملة : { لا إله إلاّ هو } حال من اسم الجلالة في قوة متفرداً بالإلهية ، وهذا قصر حقيقي لتحقيق صفة الوحدانية ، لا لقصد الرد على المشركين .
والمقصود من ذكر هذه الأوصاف الثلاثة : تذكير اليهود ، ووعظهم ، حيث جحدوا نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وزعموا أنه لا رسول بعد موسى ، واستعظموا دعوة محمد ، فكانوا يعتقدون أن موسى لا يشبهه رسول ، فذُكّروا بأن الله مالك السماوات والأرض ، وهو واهب الفضائِل ، فلا يُستعظم أن يرسل رسولاً ثم يرسل رسولاً آخر ، لأن الملك بيده ، وبأن الله هو الذي لا يشابهه أحد في ألوهيته ، فلا يكون إلهان للخلق ، وأما مرتبة الرسالة فهي قابلة للتعدد ، وبأن الله يحيي ويميت فكذلك هو يميت شريعة ويحيي شريعة أخرى ، وإحياء الشريعة إيجادها بعد أن لم تكن : لأن الإحياء حقيقته إيجاد الحياة في الموجود ، ثم يحصل من هذه الصفات إبطال عقيدة المشركين بتعدد الآلهة وبإنكار الحشر .
وقد انتظم أن يفرع على هذه الصفات الثلاث الطلب الجازم بالإيمان بهذا الرسول في قوله : { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأُمي } والمقصود طلب الإيمان بالنبي الأمي ؛ لأنه الذي سِيق الكلام لأجله ، ولكن لما صُدّر الأمر بخطاب جميع البشر وكان فيهم من لا يؤمن بالله ، وفيهم من يؤمن بالله ولا يؤمن بالنبي الأمّي ، جُمع بين الإيمان بالله والإيمان بالنبي الأمي في طلب واحد ، ليكون هذا الطلب متوجهاً للفرَق كلهم ، ليجمعوا في إيمانهم بين الإيمان بالله والنبي الأمي ، مع قضاء حق التأدب مع الله بجعل الإيمان به مقدماً على طلب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم للإشارة إلى أن الإيمان بالرسول إنما هو لأجل الإيمان بالله ، على نحو ما أشار إليه قوله تعالى : { ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله } [ النساء : 150 ] ، وهذا الأسلوب نظير قوله تعالى : { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروح منه ، فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة } [ النساء : 171 ] فإنهم آمنوا بالله ورُسله ، وإنما المقصود زيادة النهي عن اعتقاد التثليث ، وهو المقصود من سياق الكلام .
والإيمان بالله الإيمانُ بأعظم صفاته وهي الإلهية المتضمن إياها اسم الذات ، والإيمان بالرسول الإيمانُ بأخص صفاته وهو الرسالة ، وذلك معلوم من إناطة الإيمان بوصف الرسول دون اسمه العلم .
وفي قوله : { ورسوله النبي الأمي } التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة لقصد إعلان تحقق الصفة الموعود بها في التوراة في شخص محمد صلى الله عليه وسلم .
ووصف النبي الأمي بالذي يؤمن بالله وكلماته ، بطريق الموصولية للإيماء إلى وجه الأمر بالإيمان بالرسول ، وإنه لا معذرة لمن لا يؤمن به من أهل الكتاب ، لأن هذا الرسول يؤمن بالله وبكلمات الله ، فقد اندرج في الإيمان به الإيمان بسائِر الأديان الإلهية الحق ، وهذا نظير قوله تعالى ، في تفضيل المسلمين : { وتؤمنون بالكتاب كله } [ آل عمران : 119 ] وتقدم معنى الأمي قريباً .
وكلمات جمع كلمة بمعنى الكلام مثل قوله تعالى : { كلاّ إنها كلمة هو قائِلها } [ المؤمنون : 100 ] أي قولُه : { ربِ ارْجِعُون لعليِّ أعْمل صالحاً فيما تركت } [ المؤمنون : 99 ، 100 ] . فكلمات الله تشمل كتبه ووحيه للرسل ، وأوِثر هنا التعبير بكلماته ، دون كتبه ، لأن المقصود الإيماء إلى إيمان الرسول عليه الصلاة والسلام بأن عيسى كلمة الله ، أي أثَرُ كلمته ، وهي أمر التكوين ، إذ كان تكّون عيسى عن غير سبب التكون المعتاد بل كان تكونه بقول الله { كُن } كما قال تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كُن فيكون } [ آل عمران : 59 ] ، فاقتضى أن الرسول عليه الصلاة والسلام يؤمن بعيسى ، أي بكونه رسولاً من الله ، وذلك قطع لمعْذرة النصارى في التردد في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واقتضى أن الرسول يؤمن بأن عيسى كلمة الله ، وليس ابن الله ، وفي ذلك بيان للإيمان الحق ، ورد على اليهود فيما نسبوه إليه ، ورد على النصارى فيما غَلْوا فيه .
والقول في معنى الاتّباع تقدم ، وكذلك القول في نحو { لعلكم تهتدون } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للناس كلهم:"إنّي رَسولُ الله إليْكمْ جَمِيعا" لا إلى بعضكم دون بعض، كما كان من قبلي من الرسل مرسلاً إلى بعض الناس دون بعض، فمن كان منهم أرسل كذلك، فإن رسالتي ليست إلى بعضكم دون بعض ولكنها إلى جميعكم.
وقوله: "الّذِي "من نعت اسم الله، وإنما معنى الكلام: قل يا أيها الناس، إني رسول الله الذي له ملك السموات والأرض إليكم.
ويعني جل ثناؤه بقوله: "الّذِي لَه مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ": الذي له سلطان السموات والأرض وما فيهما وتدبير ذلك وتصريفه. "لا إلَهَ إلاّ هُوَ" يقول: لا ينبغي أن تكون الألوهة والعبادة إلاّ له جلّ ثناؤه دون سائر الأشياء غيره من الأنداد والأوثان، إلاّ لمن له سلطان كلّ شيء والقادر على إنشاء خلق كل ما شاء وإحيائه وإفنائه إذا شاء إماتته.
"فآمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ" يقول جلّ ثناؤه: قل لهم: فصدّقوا بآيات الله الذي هذه صفته، وأقرّوا بوحدانيته، وأنه الذي له الألوهة والعبادة، وصدّقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه مبعوث إلى خلقه داع إلى توحيده وطاعته.
"النّبِيّ الأمّيّ الّذِي يُؤْمِنُ باللّهِ وكَلِماتِهِ وَاتّبِعُوهُ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ".
وأما قوله: "النّبِيّ الأمّيّ" فإنه من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بينت معنى النبيّ فيما مضى بما أغنى عن إعادته. ومعنى قوله: "الأمّيّ الذِي يؤْمنُ باللّهِ" يقول: الذي يصدّق بالله وكلماته. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وكَلِماتِهِ"؛ فقال بعضهم: معناه: وآياته...
وقال آخرون: بل عني بذلك عيسى ابن مريم عليه السلام...
والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره أمر عباده أن يصدّقوا بنبوّة النبيّ الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته ولم يخصص الخبر جلّ ثناؤه عن إيمانه من كلمات الله ببعض دون بعض، بل أخبرهم عن جميع الكلمات، فالحقّ في ذلك أن يعمّ القول، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤمن بكلمات الله كلها على ما جاء به ظاهر كتاب الله.
وأما قوله: "وَاتّبعُوهُ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ": فاهتدوا به أيها الناس، واعملوا بما أمركم أن تعملوا به من طاعة الله "لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ" يقول: لكي تهتدوا فَتَرشُدوا، وتصيبوا الحقّ في اتباعكم إياه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وإنما وصفه بأنه يحيي ويميت لأنه لا يقدر على الإحياء إلا الله، ولا على الإماتة أيضا سواه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا أمر من الله عز وجل لنبيه بإشهار الدعوة والحض على الدخول في الشرع، وذلك أنه لما رَّجى الأمة المتبعة للنبي الأمي التي كتب لها رحمته، عقب ذلك بدعاء الناس إلى الاتباع الذي معه تحصل تلك المنازل، وهذه الآية خاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم بين الرسل، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة وإلى الجن، قاله الحسن، وتقتضيه الأحاديث، وكل نبي إنما بعث إلى فرقة دون العموم، ثم إنه لما أعلن بالرسالة من عند الله أردف بصفة الله التي تقتضي الإذعان له وهي أنه ملك السموات والأرض بالخلق والإبداع والإحياء والإماتة لا إله إلا هو ولا معبود سواه.
وقوله تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله} الآية، هو الحض على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: {الذي يؤمن} يريد الذي يصدق {بالله وكلماته} والكلمات هنا الآيات المنزلة من عنده كالتوراة والإنجيل...
وقوله تعالى: {لعلكم تهتدون} أي على طمعكم وبحسب ما ترونه، وقوله: {واتبعوه} لفظ عام يدخل تحته جميع إلزامات الشريعة، جعلنا الله من متبعيه على ما يلزم بمنه ورحمته.
اعلم أنه تعالى لما قال: {فسأكتبها للذين يتقون} ثم بين تعالى أن من شرط حصول الرحمة لأولئك المتقين، كونهم متبعين للرسول النبي الأمي، حقق في هذه الآية رسالته إلى الخلق بالكلية. فقال: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} وفي هذه الكلمة مسألتان:
المسألة الأولى: هذه الآية تدل على أن محمدا عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى جميع الخلق...
أما قوله تعالى: {الذي له ملك السموات والأرض} فاعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بأن يقول للناس كلهم إني رسول الله إليكم أردفه بذكر ما يدل على صحة هذه الدعوى.
واعلم أن هذه الدعوى لا تتم ولا تظهر فائدتها إلا بتقرير أصول أربعة.
الأصل الأول: إثبات أن للعالم إلها حيا عالما قادرا. والذي يدل عليه ما ذكره في قوله تعالى: {الذي له ملك السموات والأرض} وذلك لأن أجسام السموات والأرض، تدل على افتقارها إلى الصانع الحي العالم القادر، من جهات كثيرة مذكورة في القرآن العظيم، وشرحها وتقريرها مذكور في هذا التفسير، وإنما افتقرنا في حسن التكليف وبعثة الرسل إلى إثبات هذا الأصل، لأن بتقدير أن لا يحصل للعالم مؤثر يؤثر في وجوده، أو إن حصل له مؤثر، لكن كان ذلك المؤثر موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار لم يكن القول ببعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام ممكنا.
والأصل الثاني: إثبات أن إله العالم واحد منزه عن الشريك والضد والند، وإليه الإشارة بقوله: {لا إله إلا هو} وإنما افتقرنا في حسن التكليف وجواز بعثة الرسل إلى تقرير هذا الأصل، لأن بتقدير أن يكون للعالم إلهان، وأرسل أحد الإلهين نبيا إلى الخلق فلعل هذا الإنسان الذي يدعوه الرسول إلى عبادة هذا الإله ما كان مخلوقا له، بل كان مخلوقا للإله الثاني، وعلى هذا التقدير فإنه يجب على هذا الإنسان عبادة هذا الإله وطاعته، فكان بعثة الرسول إليه، وإيجاب الطاعة عليه ظلما وباطلا. أما إذا ثبت أن الإله واحد، فحينئذ يكون جميع الخلق عبيدا له، ويكون تكليفه في الكل نافذا وانقياد الكل لأوامره ونواهيه لازما، فثبت أن ما لم يثبت كون الإله تعالى واحدا لم يكن إرسال الرسل وإنزال الكتب المشتملة على التكاليف جائزا.
والأصل الثالث: إثبات أنه تعالى قادر على الحشر والنشر والبعث والقيامة، لأن بتقدير أن لا يثبت ذلك، كان الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية عبثا ولغوا، وإلى تقدير هذا الأصل الإشارة بقوله: {يحيي ويميت} لأنه لما أحيا أولا، ثبت كونه قادرا على الإحياء ثانيا، فيكون قادرا على الإعادة والحشر والنشر، وعلى هذا التقدير يكون الإحياء الأول إنعاما عظيما، فلا يبعد منه تعالى أن يطالبه بالعبودية، ليكون قيامه بتلك الطاعة قائما مقام الشكر عن الإحياء الأول، وأيضا لما دل الإحياء الأول على قدرته على الإحياء الثاني، فحينئذ يكون قادرا على إيصال الجزاء إليه.
واعلم أنه لما ثبت القول بصحة هذه الأصول الثلاثة. ثبت أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ومطالبة الخلق بالتكاليف، لأن على هذا التقدير الخلق كلهم عبيده ولا مولى لهم سواه، وأيضا إنه منعم على الكل بأعظم النعم، وأيضا إنه قادر على إيصال الجزاء إليهم بعد موتهم، وكل واحد من هذه الأسباب الثلاثة سبب تام، في أنه يحسن منه تكليف الخلق، أما بحسب السبب الأول، فإنه يحسن من المولى مطالبة عبده بطاعته وخدمته، وأما بحسب السبب الثاني فلأنه يحسن من المنعم مطالبة المنعم عليه بالشكر والطاعة، وأما بحسب السبب الثالث فلأنه يحسن من القادر على إيصال الجزاء التام إلى المكلف أن يكلفه بنوع من أنواع الطاعة، فظهر أنه لما ثبتت الأصول الثلاثة بالدلائل التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، فإنه يلزم الجزم بأنه يحسن من الله إرسال الرسل، ويجوز منه تعالى أن يخصهم بأنواع التكاليف، فثبت أن الآيات المذكورة دالة على أن للعالم إلها حيا عالما قادرا، وعلى أن هذا الإله واحد، وعلى أنه يحسن منه إرسال الرسل وإنزال الكتب.
واعلم أنه تعالى لما أثبت هذه الأصول المذكورة بهذه الدلائل المذكورة في هذه الآية ذكر بعده قوله: {فآمنوا بالله ورسوله} وهذا الترتيب في غاية الحسن، وذلك لأنه لما بين أولا أن القول ببعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام أمر جائز ممكن، أردفه بذكر أن محمدا رسول حق من عند الله لأن من حاول إثبات مطلوب وجب عليه أن يبين جوازه أولا، ثم حصوله ثانيا، ثم إنه بدأ بقوله: {فآمنوا بالله} لأنا بينا أن الإيمان بالله أصل، والإيمان بالنبوة والرسالة فرع عليه، والأصل يجب تقديمه. فلهذا السبب بدأ بقوله: {فآمنوا بالله} ثم أتبعه بقوله: {ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته}.
واعلم أن هذا إشارة إلى ذكر المعجزات الدالة على كونه نبيا حقا، وتقريره: أن معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت على نوعين:
النوع الأول: المعجزات التي ظهرت في ذاته المباركة، وأجلها وأشرفها أنه كان رجلا أميا لم يتعلم من أستاذ، ولم يطالع كتابا، ولم يتفق له مجالسة أحد من العلماء، لأنه ما كانت مكة بلدة العلماء، وما غاب رسول الله عن مكة غيبة طويلة يمكن أن يقال إن في مدة تلك الغيبة تعلم العلوم الكثيرة، ثم إنه مع ذلك فتح الله عليه باب العلم والتحقيق وأظهر عليه هذا القرآن المشتمل على علوم الأولين والآخرين، فكان ظهور هذه العلوم العظيمة عليه، مع أنه كان رجلا أميا لم يلق أستاذا ولم يطالع كتابا من أعظم المعجزات، وإليه الإشارة بقوله: {النبي الأمي}.
والنوع الثاني: من معجزاته الأمور التي ظهرت من مخارج ذاته مثل انشقاق القمر، ونبوع الماء من بين أصابعه. وهي تسمى بكلمات الله تعالى، ألا ترى أن عيسى عليه السلام، لما كان حدوثه أمرا غريبا مخالفا للمعتاد، لا جرم سماه الله تعالى كلمة، فكذلك المعجزات لما كانت أمورا غريبة خارقة للعادة لم يبعد تسميتها بكلمات الله تعالى، وهذا النوع هو المراد بقوله: {يؤمن بالله وكلماته} أي يؤمن بالله وبجميع المعجزات التي أظهرها الله عليه، فبهذا الطريق أقام الدليل على كونه نبيا صادقا من عند الله.
واعلم أنه لما ثبت بالدلائل القاهرة التي قررناها بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وجب أن يذكر عقيبه الطريق الذي به يمكن معرفة شرعه على التفصيل، وما ذاك إلا بالرجوع إلى أقواله وأفعاله وإليه الإشارة بقوله تعالى: {واتبعوه}.
واعلم أن المتابعة تتناول المتابعة في القول وفي الفعل. أما المتابعة في القول فهو أن يمتثل المكلف كل ما يقوله في طرفي الأمر والنهي والترغيب والترهيب. وأما المتابعة في الفعل فهي عبارة عن الإتيان بمثل ما أتى المتبوع به سواء كان في طرف الفعل أو في طرف الترك، فثبت أن لفظ {واتبعوه} يتناول القسمين. وثبت أن ظاهر الأمر للوجوب فكان قوله تعالى: {واتبعوه} دليلا على أنه يجب الانقياد له في كل أمر ونهي، ويجب الاقتداء به في كل ما فعله إلا ما خصه الدليل، وهو الأشياء التي ثبت بالدليل المنفصل أنها من خواص الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: الشيء الذي أتى به الرسول يحتمل أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان واجبا عليه، ويحتمل أيضا أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان مندوبا، فبتقدير أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان مندوبا، فلو أتينا به على سبيل أنه واجب علينا، كان ذلك تركا لمتابعته، ونقضا لمبايعته. والآية تدل على وجوب متابعته، فثبت أن إقدام الرسول على ذلك الفعل لا يدل على وجوبه علينا.
قلنا: المتابعة في الفعل عبارة عن الإتيان بمثل الفعل الذي أتى به المتبوع، بدليل أن من أتى بفعل ثم إن غيره وافقه في ذلك الفعل، قيل: إنه تابعه عليه. ولو لم يأت به. قيل: إنه خالفه فيه. فلما كان الإتيان بمثل فعل المتبوع متابعة، ودلت الآية على وجوب المتابعة لزم أن يجب على الأمة مثل فعل الرسول صلى الله عليه وسلم. بقي ههنا أنا لا نعرف أنه عليه السلام أتى بذلك على قصد الوجوب أو على قصد الندب. فنقول: حال الدواعي والعزائم غير معلوم، وحال الإتيان بالفعل الظاهر والعمل المحسوس معلوم، فوجب أن لا يلتفت إلى البحث عن حال العزائم والدواعي، لكونها أمورا مخفية عنا، وأن نحكم بوجوب المتابعة في العمل الظاهر. لكونها من الأمور التي يمكن رعايتها، فزالت هذه الشبهة، وتقريره: أن هذه الآية دالة على أن الأصل في كل فعل فعله الرسول أن يجب علينا لإتيان بمثله إلا إذا خصه الدليل.
إذا عرفت هذا فنقول: إنا إذا أردنا أن نحكم بوجوب عمل من الأعمال.
قلنا: إن هذا العمل فعله أفضل من تركه، وإذا كان الأمر كذلك: فحينئذ نعلم أن الرسول قد أتى به في الجملة، لأن العلم الضروري حاصل بأن الرسول لا يجوز أن يواظب طول عمره على ترك الأفضل، فعلمنا أنه عليه السلام قد أتى بهذا الطريق الأفضل. وأما أنه هل أتى بالطرف الأحسن فهو مشكوك، والمشكوك لا يعارض المعلوم، فثبت أنه عليه السلام أتى بالجانب الأفضل. ومتى ثبت ذلك وجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى في هذه الآية: {واتبعوه} فهذا أصل شريف، وقانون كلي في معرفة الأحكام، دال على النصوص لقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} فوجب علينا مثله لقوله تعالى: {واتبعوه}.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
... عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، لا يسمع بي رجل من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار"... وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بُرْدَة، عن أبي موسى، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسًا: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي، ونصرت بالرعب شهرًا وأعطيت الشفاعة -وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة، وإني قد اختبأت شفاعتي، ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك بالله شيئا "وهذا أيضا إسناد صحيح، ولم أرهم خرجوه، والله أعلم...
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
هذا أمر من اللَّه سبحانه لنبيِّه بإشهار الدعوة العامَّة، وهذه من خصائصه صلى الله عليه وسلم مِنْ بين سائر الرسُلِ، فإِنه صلى الله عليه وسلم بُعِثَ إِلى الناس، كافَّة، وإِلى الجنِّ، وكلُّ نبيٍّ إِنما بعث إِلى فرقة دون العُمُوم. قُلْتُ: فإِن أردتَّ الفوْزَ أيُّها الأَخُ، فعَلَيْكَ باتباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتعظيمِ شريعته، وتعظيم جَمِيعِ أسبابه. قال عِيَاضٌ: وَمِنْ إِعظامه صلى الله عليه وسلم وإِكبارهِ إِعظام جميع أَسبابه، وإِكْرَامُ مشاهده وأَمْكِنَتِهِ، ومعاهِدِهِ، ومعالمه عليه السلام...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ذكرت رسالة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في الآية التي قبل هذه من قصة موسى عليه السلام استطرادا بحسب نظم الكلام، ولكنها هي المقصودة بالذات من القصة ومن سائر قصص الرسل عليهم السلام، ولما كان ذكرها في سياق القصة لدعوة أهل الكتاب إلى الإسلام وإقامة الحجة عليهم بذكره صلى الله عليه وسلم في كتبهم والبشارة برسالته على ألسنة أنبيائهم، وبيان ما يكون لهم من الفلاح والفوز بالإيمان صلى الله عليه وسلم واتباعه ناسب أن يقفي على ذلك ببيان عموم بعثته صلى الله عليه وسلم ودعوة الناس كافة إلى الإيمان بالله تعالى وبه، فقال عز وجل مخاطبا له صلواته وسلامه عليه: {قل يا أيّها النّاس إنّي رسول الله إليكم جميعا}
ثم وصف الله عز وجل نفسه في هذا المقام بتوحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وبالإحياء والإماتة فقال: {الّذي له ملك السّماوات والأرض لا إله إلاّ هو يحيي ويميت} والمراد بملك السماوات والأرض التصرف والتدبير في العالم كله لما جرى عليه عرف البشر من أن السماوات هي العوالم التي تعلو هذه الأرض التي يعيشون فيها وصاحب الملك والتصرف والتدبير فيهما هو ربهما رب العالمين، وهو واحد، ولو كان لغيره تصرف لتعارض مع تصرفه وفسد النظام العام، فإن وحدة النظام في جملة المخلوقات وعدم التفاوت والتعارض فيها دليل على وحدة مصدرها وتدبيرها، وإذا كان رب الخلائق واحدا وجب أن يكون هو المعبود وحده، لا إله إلا هو، والتوحيد بقسميه: توحيد الربوبية بالإيمان وتوحيد الألوهية بالإيمان والعمل أي عبادة الله وحده- هما أصل الدين وأساسه، والركن الأول لعقائده، وقد اقترن برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي الركن الثاني، وأما وصفه تعالى بالإحياء والإماتة وهو بعض تصرف الرب في خلقه فيتضمن عقيدة البعث بعد الموت التي هي الركن الثالث من أركان الإيمان، فقد أدمجت في دعوى الرسالة أركان الدين الثلاثة- وهو من إيجاز القرآن الغريب- وبنى على ذلك الدعوة إلى الإيمان على طريقة التفريع على هذا الأصل بل الأصول، وذلك قوله عز من قائل.
{فآمنوا بالله ورسوله النّبيّ الأميّ} أي فآمنوا يا أيها الناس من جميع الأمم بالله الواحد في ربوبيته وألوهيته الذي يحيي كل ما تحله الحياة في العالم، ويميت كل ما يعرض له الموت بعد الحياة، وهذا أمر يتجدد كل يوم فتشاهدونه ومثله البعث العام بعد الموت العام وخراب هذا العالم، وآمنوا برسوله المطلق الممتاز بأنه النبي الأمي الذي بعثه في الأميين (العرب) رسولا إلى الخلق أجمعين، يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ويطهرهم من خرافات الشرك والرذائل والجهل والتفرق والتعادي بعصبيات الأجناس واللغات والأوطان ليكونوا بهدايته أمة واحدة يتحقق بها الإخاء البشري العام، وقد بشر به الأنبياء الكرام عليهم السلام، لأنه المتم المكمل لما بعثوا به من هداية الأقوام، وأميته صلى الله عليه وسلم من أعظم معجزاته، وأية آية على صحة دعوى الرسالة أقوى وأظهر من تعليم الأمي الذي لم يتعلم شيئا لجميع الأمم، ما فيه صلاحهم وفلاحهم من العلوم والحكم؟
{الّذي يؤمن بالله وكلماته} أي يؤمن بما يدعوكم إلى الإيمان به من توحيد الله تعالى وكلماته التشريعية التي أنزلها لهداية خلقه، وهي مظهر علمه وحكمته ورحمته، وكلماته التكوينية التي هي مظهر إرادته وقدرته وحكمته.
وبعد أمرهم بالإيمان أمرهم بالإسلام فقال: {واتّبعوه لعلّكم تهتدون} أي واتبعوه بالإذعان الفعلي لكل ما جاءكم به من أمر الدين فعلا وتركا، رجاء اهتدائكم بالإيمان وباتباعه لما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة، فثمرة الإيمان والإسلام اهتداء صاحبهما ووصوله بالفعل لسعادة الدارين كما فصلناه في غير هذا الموضع، ودليله الفعلي في الدنيا ما آمن من قوم بنبي إلا وكانوا بعد الإيمان به خيرا مما كانوا قبله من هناء المعيشة والعزة والكرامة في دنياهم، وأظهر التواريخ وأقربها عهدا تاريخ الأمة المحمدية، ومن العجائب أن يصل بهم الجهل بعد ذلك إلى ترك هذه الهداية التي نالوا بها الملك العظيم والعز والسؤدد والغنى والحضارة، وأعجب منه أن يزول المعلول بزوال علته وهم لا يشعرون به فيعودوا إليه، وأعجب من هذين أن يصل بهم الجهل إلى أن يعتقد كثير منهم في هذا العصر أن هداية الإسلام التي سعدوا بها ثم شقوا بتركها هي سبب هذا الشقاء الأخير لا تركها.
فصل في معنى اتباع الرسول وموضوعه ولوازمه:
قوله تعالى هنا {واتبعوه} أعم من قوله في الآية التي قبلها {واتبعوا النور الذي أنزله معه} [الأعراف: 157] فتلك في اتباع القرآن خاصة وهذه تشمل اتباعه صلى الله عليه وسلم فيما شرعه من الأحكام من تلقاء نفسه، على القول بأن الله تعالى أعطاه ذلك وأذن له به، واتباعه في اجتهاده واستنباطه من القرآن إذا كان تشريعا... وجوب تبليغ دعوة الإسلام ورسالة محمد لجميع البشر
ومما يدخل في أحكام رسائله صلى الله عليه وسلم للناس كافة أن الله تعالى لا يقبل إيمان أحد بلغته دعوته على وجهها الصحيح إلا بالإيمان به واتباعه، وأنه يجب على أمته أي أمة الإجابة وهم الذين اهتدوا بما جاء به من الإيمان والإسلام، أن يبلغوا دعوته لجميع الناس من جميع الأمم، على الوجه الذي يحرك إلى النظر ويجب أن يكون القائمون بذلك منهم جماعات تتعاون عليه إذ لا يغني الأفراد غناء الجماعات، سواء أكانت الدعوة إلى أصل الإيمان الإجمالي الذي هو بدء الدعوة –أم إلى الشرائع التفصيلية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويشمل ذلك كله قوله تعالى: {ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} [آل عمران: 104] وقد ذكرنا في تفسيرها ما بسطه شيخنا الأستاذ الإمام من كون الراجح المختار أن قوله تعالى: {ولتكن منكم أمة} تجريد كقول القائل: ليكن لي منك صديق. أي لتكن صديقا لي، وأنه يجب على جميع المسلمين أن يكونوا دعاة إلى الخير الأعظم الذي هداهم الله إليه، ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، كل على قدر حاله واستطاعته كما كان المسلمون في الصدر الأول، وأنه مع ذلك يجب أن يتألف للدعوة جماعات تعد لها عدتها وإن هذا متعين على الوجه الآخر في الآية وهو جعل منكم للتبعيض الخ (ج4 تفسير).
وتبليغ الدعوة إلى الإسلام على الوجه الذي تقوم به الحجة يختلف باختلاف الزمان والمكان والأفراد والأقوام، فقد كان مشركو العرب في عصر البعثة يؤمنون بأن الله تعالى هو رب العالمين وخالق الخلق ومدبر أموره وإنما كانوا يشركون بعبادته غيره من الملائكة والجن والأصنام زاعمين أنهم يقربونهم إليه زلفى ويشفعون لهم عنده فيقضي لهم حاجتهم من جلب خير ودفع ضر بوساطتهم، وكانوا ينكرون البعث والحياة بعد هذه الحياة الدنيا وينكرون الرسالة والوحي من الله لبعض البشر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم أولا إلى التوحيد الذي هو عنوان الإسلام وباب الدخول فيه لأنه الركن الأعظم، ثم إنه كان يقيم لهم الحجج والبراهين على توحيد الألوهية وهو إفراد الله وحده بالعبادة على حقية الرسالة والبعث والجزاء مع دفع ما عندهم من الشبهات على ذلك كما تراه مفصلا في سورة الأنعام التي هي أجمع سورة في القرآن لذلك وكذا في غيرها من السور المكية. ويلي ذلك دعوتهم إلى أصول الشريعة وقواعدها الكلية في الآداب والفضائل والحلال والحرام ثم إلى الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد.
وأما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فكانوا يؤمنون بالله وبالوحي والرسل والبعث والجزاء، ولكن دخلت على أكثرهم الوثنية القديمة بجميع أصولها وفروعها ولاسيما النصارى الذين أقاموا عقيدتهم على أساس التثليث المعروف عن قدماء المصريين والهنود وغيرهم من الوثنيين، وكان اليهود يزعمون أن النبوة والرسالة محصورة في بني إسرائيل لا يمكن أن يبعث الله رسولا من غيرهم، وكانت التوراة قد فقدت في غزو البابليين لهم. ثم كتب بعضهم لهم توراة بعد عدة قرون هي عبارة عن تاريخ ديني مشتمل على قصص الأنبياء إلى عهد موسى وهارون وعلى ما تذكر الكاتب من شريعة التوراة مع تحريف وأغلاط كثيرة، وكان الإنجيل الذي جاء به عيسى عليه السلام من وعظ وتعليم وبشارة قد ادعاه كثيرون فظهر في العصر الأول بعده زهاء سبعين إنجيلا اختار الجمهور الذي جمع شمله الملك قسطنطين الوثني الذي تنصر سياسة أربعة منها فيها كثير من الخلاف والتعارض، وذلك بعد المسيح بثلاثة قرون. وفشا فيهم منذ عهد هذا الملك الوثني المتنصر عبادة السيدة مريم عليها السلام وغيرها من الصالحين حتى صارت الكنائس النصرانية كهياكل الأوثان مملوءة بالصورة والتماثيل المعبودة- فكانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم إلى الإسلام وحججه عليهم التي أنزلها الله عليه في القرآن تختلف من بعض الوجوه عن دعوة المشركين الأصليين كما تراه مبسوطا في السور الطوال الأربع الأولى البقرة وآل عمران والنساء والمائدة- ففي الجزء الأول من البقرة من القرآن: يوجه أكثر الكلام إلى اليهود وذكرت فيه النصارى بالعرض- وأوائل سورة آل عمران نزلت في حجاج نصارى نجران. وفي أواخر النساء كلام في أهل الكتاب أكثره في النصارى- وجل سورة المائدة في أهل الكتاب عامة والنصارى خاصة.
وأما هذا العصر فقد كثرت فيه الملاحدة والمعطلة، وتجددت للكفار على اختلاف فرقهم شبهات جديدة يتوكؤون فيها على مسائل من العلوم العصرية لم تكن معروفة عند الأقدمين، وحدثت للناس آراء ومذاهب في الحياة فيها الحسن والقبيح، والنافع والضار، بل منها ما قد يفضي إلى فساد العالم وتقويض دعائم العمران. ومثار ذلك كله ذيوع التعاليم المادية وفوضى الآداب وتدهور الأخلاق وتغلب الرذائل على الفضائل، وقد ظهر هذا الفساد في أفظع صورة في حرب المدنية الكبرى وما ولدته من تفاقم شره المستعمرين وشرهم وفظائعهم في الشرق، وانتشار البلشفية ومفاسدها في البلاد الروسية وغيرها، وبث دعوتها في العالم – فصار من الواجب مراعاة ذلك في الدعوة إلى الدين والاحتجاج له ورد الشبه التي توجه إليه. وقد ذكرت في تفسير آية سورة آل عمران المشار إليها آنفا حاجة الداعي إلى الإسلام في هذا الزمان إلى أحد عشر علما منها السياسة ولغات الأقوام الذين توجه إليهم الدعوة وأشرت هنالك إلى مقالة كنت كتبتها قبل ذلك في المنار في الدعوة وطريقها وآدابها.
ومما يدخل في بحث اتباعه صلوات الله وسلامه عليه تعلم لغته التي هي لغة الكتاب الإلهي الذي أوحاه الله تعالى إليه وأمر جميع من اتبعه ودان بدينه أن يتعبده به وأن يتلوه في الصلاة وغير الصلاة من التدبر والتأمل في معانيه، وذلك يتوقف على إتقان لغته وهي العربية. فالمسلمون يبلغون الدعوة لكل قوم بلغتهم حتى إذا ما هدى الله من شاء منهم ودخل في الإسلام علموه أحكامه ولغته، كذلك كان يفعل الخلفاء الفاتحون في خير القرون وما بعدها إلى أن تغلبت الأعاجم على العرب وسلبوهم الملك فوقفت الدعوى إلى الإسلام وضعف العلم بالعربية إلى أن قضى عليها الترك وحرمتها حكومتهم عليهم في هذا الزمان، لتقطع كل صلة لهم بدين القرآن، وقد فصلنا هذه المباحث في مجلة المنار تفصيلا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها الرسالة الأخيرة، فهي الرسالة الشاملة، التي لا تختص بقوم ولا أرض ولا جيل.. ولقد كانت الرسالات قبلها رسالات محلية قومية محدودة بفترة من الزمان -ما بين عهدي رسولين- وكانت البشرية تخطو على هدى هذه الرسالات خطوات محدودة، تأهيلاً لها للرسالة الأخيرة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمقصود من ذكر هذه الأوصاف الثلاثة: تذكير اليهود، ووعظهم، حيث جحدوا نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وزعموا أنه لا رسول بعد موسى، واستعظموا دعوة محمد، فكانوا يعتقدون أن موسى لا يشبهه رسول، فذُكّروا بأن الله مالك السماوات والأرض، وهو واهب الفضائِل، فلا يُستعظم أن يرسل رسولاً ثم يرسل رسولاً آخر، لأن الملك بيده، وبأن الله هو الذي لا يشابهه أحد في ألوهيته، فلا يكون إلهان للخلق وأما مرتبة الرسالة فهي قابلة للتعدد، وبأن الله يحيي ويميت فكذلك هو يميت شريعة ويحيي شريعة أخرى، وإحياء الشريعة إيجادها بعد أن لم تكن: لأن الإحياء حقيقته إيجاد الحياة في الموجود، ثم يحصل من هذه الصفات إبطال عقيدة المشركين بتعدد الآلهة وبإنكار الحشر.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإن الرسالة السامية ذات خطر وشأن، وتجب طاعتها، والاستجابة لها، وذلك لأنها من الله تعالى: {الذي له ملك السماوات والأرض} فله ملك الكون والسلطان وهو مالك كل شيء فهذا الوصف، لإلقاء مهابة الرسالة في نفوس الناس، فهي رسالة من ملك السماوات والأرض، وله السلطان المطلق فيها، ولا يوجد سلطان مطلق في الوجود لغيره، وهو العزيز الرحيم.
وهو لا يملك السماوات والأرض وما فيهما من أكوان فحسب، بل يملك كل حي فيها من نبات وحيوان وإنسان، وهو الذي يملك الحياة والموت؛ ولذا قال تعالى: {يحيي ويميت}.
وإذا كان له الملك هو مالك كل شيء، ومالك الحياة والموت لكل الأحياء، فإنه الجدير بالعبادة، وحده وهو الذي يكرم رسوله، فمكانة الرسول مستمدة من مكانة من أرسله، ولذا قال تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته} الفاء هنا لربط ما قبلها بما بعدها برابطة السببية، أي ما ذكر من كمال سلطانه في الكون جماده، والأحياء فيه.
والإيمان بالله تعالى هو الإيمان بوجوده، وأنه الخالق الفاعل المختار، وأنه صاحب السلطان في الأكوان والإنسان، وأنه المعبود وحده بحق، ولا معبود بحق سواه، وبعبارة أعم الإيمان بالله وبوحدانيته في الخلق والتكوين والذات والصفات والإيمان بالله تعالى إلها معبودا.
والإيمان بالرسول: التصديق به رسولا من رب العالمين، والإيمان بصدق ما يدعو إليه، وأنه من عند الله العليم الحكيم واتباعه في كل ما جاء به، والاقتداء به، واتخاذه أسوة في العمل الصالح الذي يهدي إليه، ووصفه سبحانه بثلاثة أوصاف تفيد كماله في رسالته.
الوصف الأول: أنه النبي أي الذي يخبر عن الله تعالى، وأن ما يدعو إليه هو ما كلفه الله إياه {من يطع الرسول فقد أطاع الله...} (النساء 80).
والوصف الثاني: أنه الأمي، الذي ينطق بالفطرة وبالوحي، وأن حاله تدل على صدق معجزته، وأنه لا علم عنده إلا ما علمه الله تعالى رب العالمين، وإن ما معه من كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه تنزيل من عزيز حميد.
والوصف الثالث: ما ذكره – سبحانه وتعالى –بقوله: {الذي يؤمن بالله وكلماته} وإيمانه بالله هو ما ذكرنا، وإيمانه بكلماته هو الإيمان بالقرآن، فهو كلمات الله التامة الكاملة التي لا يعادلها أو تقارب أي كلام من البشر، والذي تحدى الناس أن يأتوا بسورة منه فعجزوا فقامت عليهم الحجة.
ورجح بعض المفسرين أن كلمات الله تعالى لا تخص القرآن وحده، وإن كان أكملها، وأبقاها، إنما يشمل الكتب التي نزلت على النبيين من قبل من التوراة والإنجيل والزبور، وغيرهما مما لم يذكر الله – سبحانه وتعالى – وإن هذا يدل على أن رسالة كل الأنبياء واحدة.
وذكر الإيمان بالله وبكلماته في هذا الموضع للدلالة على أنها رسالة واحدة، وهي الإيمان بالله وأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس بوالد ولا ولد.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الأوصاف السامية التي اختصه الله تعالى بها فإن الإيمان به واجب، واتباعه اتباع لأمر الله ونهيه؛ ولذا قال تعالى: {واتبعوه لعلكم تهتدون}، الفاء لربط ما قبلها بما بعدها بالإفصاح عن سببيتها لرجاء الاهتداء، والرجاء من العباد لا من الله تعالى؛ لأن الله تعالى لا يرجوا إنما عباده، يرجون بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم واتباعه أن يهتدوا إلى الحق والبر، فيهتدوا إلى الجنة وهي نعم الجزاء الأوفى.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، فلست رسولاً محلياً أو قومياً، بل أنا رسولٌ عالميّ يواجه مشاكل الناس كلّهم بالحلول الواقعية المرتكزة على أساس مصالحهم في دنياهم وآخرتهم... وهذا النداء الصادر في مكة لأن الآية مكية يؤكد عالمية الرسالة الإسلامية، خلافاً لبعض آراء المستشرقين الذين يرون أن دعوة محمد (ص) كانت محليةً في البداية، قبل أن تنطلق خارج النطاق المحلي في المدينة. {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لأنه لن يقودكم إلا إلى الطريق المستقيم الذي يوصلكم إلى النهايات السعيدة المشرقة في أقرب وقت. وربما كان التعليل ب «لعلّ» التي لا تفيد معنى الحسم في النتائج، للإيحاء بأن الاتّباع يحمل للنفس الحائرة روح الأمل والرجاء الكبير، الذي يدفع الإنسان للامتداد في هذا الاتجاه كوسيلةٍ عمليّةٍ للوصول إلى الهدى الواضح المشرق في نهاية المطاف.