قوله تعالى : { إن الذين عند ربك } ، يعني : الملائكة المقربين بالفضل والكرامة .
قوله تعالى : { لا يستكبرون } ، لا يتكبرون .
قوله تعالى : { عن عبادته ويسبحونه } ، وينزهونه ويذكرونه ، فيقولون : سبحان الله . قوله تعالى : { وله يسجدون } . أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري ، أنبأنا حاجب بن أحمد الطوسي ، ثنا عبد الرحيم بن منيب ، ثنا يعلى بن عبيد عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ، فيقول : يا ويله ، أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار ) .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، ثنا أبو منصور محمد بن محمد ابن سمعان ، ثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، ثنا حميد بن زنجويه ، ثنا محمد بن يوسف ، ثنا الأوزاعي ، عن الوليد بن هشام ، عن معدان قال : سألت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : حدثني حديثاً ينفعني الله به ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من عبد يسجد لله سجدةً إلا رفعه الله بها درجةً ، وحط عنه بها سيئة ) .
ثم ذكر تعالى أن له عبادا مستديمين لعبادته ، ملازمين لخدمته وهم الملائكة ، فلتعلموا أن اللّه لا يريد أن يتكثر بعبادتكم من قلة ، ولا ليتعزز بها من ذلة ، وإنما يريد نفع أنفسكم ، وأن تربحوا عليه أضعاف أضعاف ما عملتم ، فقال : إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ من الملائكة المقربين ، وحملة العرش والكروبيين .
لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ بل يذعنون لها وينقادون لأوامر ربهم وَيُسَبِّحُونَهُ الليل والنهار لا يفترون .
وَلَهُ وحده لا شريك له يَسْجُدُونَ فليقتد العباد بهؤلاء الملائكة الكرام ، وليداوموا [ على ] عبادة الملك العلام .
وللّه الحمد والشكر والثناء . وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه وسلم .
ثم ذكر - سبحانه - ما يقوى دواعى الذكر ، وينهض بالهمم إليه ، بمدحه للملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون فقال : { إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ } وهم ملائكة الملأ الأعلى .
والمراد بالعندية القرب من الله - تعالى - بالزلفى والرضا لا المكانية لتنزهه - سبحانه - عن ذلك .
{ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } بل يؤدونها حسبما أمروا به بخضوع وطاعة .
{ وَيُسَبِّحُونَهُ } أى : ينزهونه عن كل مالا يليق بجلاله على ابلغ وجه .
{ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } أى : يخصونه وحده بغاية العبودية والتذلل والخضوع ، ولا يشركون معه أحداً في عبادة من عباداتهم .
أما بعد : فهذه هى سورة الأعراف التي سبحت بنا سبحاً طويلا وهى تحدثنا عن أدلة وحدانية الله ، وعن هداية القرآن الكريم ، وعن مظاهر نعم الله على خلقه ، وعن اليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب ، وعن بعض الأنبياء وما جرى لهم مع أقوامهم ، وكيف كانت عاقبة هؤلاء الأقوام ، وعن سنن الله - تعالى - في إسعاد الأمم وإشقائها ، وغير ذلك من أصول التشريع وآداب الاجتماع ، وشئون البشر .
وقد استعملت السورة في أوامرها ونواهيها وتوجيهاتها أساليب التذكير بالنعم ، والتخويف من النقم ، وإيراد الحجج المقنعة ، ودفع الشبهات الفاسدة .
وهذا تفسير لها تناولنا فيه بالشرح والتحليل ما اشتملت عليه من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، ومقاصد جليلة ، وحجج باهرة ، ومواعظ مؤثرة .
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم ، ونافعا لنا يوم الدين .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
ثم يضرب الله مثلاً بالذين عنده من الملائكة المقربين : الذين لا ينزغ في أنفسهم شيطان ، فليس له في تركيب طبيعتهم مكان ! ولا تستبد بهم نزوة ، ولا تغلبهم شهوة . ومع هذا فهم دائبون على تسبيح الله وذكره ، لا يستكبرون عن عبادته ولا يقصرون . وللإنسان أحوج منهم إلى الذكر والعبادة والتسبيح . وطريقه شاق ! وطبيعته قابلة لنزغ الشيطان ! وقابلة للغفلة المردية ! وجهده محدود . لولا هذا الزاد في الطريق الكؤود :
( إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته . ويسبحونه . وله يسجدون ) . .
إن العبادة والذكر عنصر أساسي في منهج هذا الدين . . إنه ليس منهج معرفة نظرية . وجدل لاهوتي . إنه منهج حركة واقعية لتغيير الواقع البشري . وللواقع البشري جذوره وركائزه في نفوس الناس وفي أوضاعهم سواء . وتغيير هذا الواقع الجاهلي إلى الواقع الرباني الذي يريده الله للناس وفق منهجه مسألة شاقة عسيرة ؛ تحتاج إلى جهد طويل ، وإلى صبر عميق . وطاقة صاحب الدعوة محدودة . ولا قبل له بمواجهة هذه المشقة دون زاد يستمده من ربه . إنه ليس العلم وحده ، وليست المعرفة وحدها . إنما هي العبادة لله والاستمداد منه . . هي الزاد ، وهي السند ، وهي العون ؛ في الطريق الشاق الطويل !
ومن ثم هذا التوجيه الأخير في السورة التي بدأت بقول الله سبحانه لرسوله الكريم ، ( كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به ، وذكرى للمؤمنين ) . . والتي تضمن سياقها عرض موكب الإيمان ، بقيادة الرهط الكريم من رسل الله الكرام ؛ وما يعترض طريقه من كيد الشيطان الرجيم ؛ ومن مكر شياطين الجن والإنس ؛ ومن معارضة المتجبرين في الأرض ، وحرب الطواغيت المتسلطين على رقاب العباد .
وقوله { الذين } يريد الملائكة ، وقوله { عند } إنما يريد في المنزلة والتشريف والقرب في المكانة لا في المكان ، فهم بذلك عنده ، ثم وصف تعالى حالهم من تواضعهم وإدمانهم للعبادة والتسبيح والسجود ، وفي الحديث : «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد » وهذا موضع سجدة ، قال النخعي في كتاب النقاش : إن شئت ركعت وإن شئت سجدت .
تتنزل منزلة العلة للأمر بالذكر ، ولذلك صُدرت ب { إن } التي هي لمجرد الاهتمام بالخبر ، لا لرد تردد أو إنكار ، لأن المخاطب منزه عن أن يتردد في خبر الله تعالى ، فحرف التوكيد في مثل هذا المقام يغني غناء فاء التفريع ، ويفيد التعليل كما تقدم غير مرة ، والمعنى : الحث على تكرر ذكر الله في مختلف الأحوال ، لأن المسلمين مأمورون بالاقتداء بأهل الكمال من الملإ الأعلى ، وفيها تعريض بالمشركين المستكبرين عن عبادة الله بأنهم منحطون عن تلك الدرجات .
والمراد ب { الذين عند ربك } الملائكة ، ووجه جعل حال الملائكة علة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر : أن مرتبة الرسالةُ تلحق صاحبها من البشر برتبة الملائكة ، فهذا التعليل بمنزلة أن يقال : اذكر ربك لأن الذكر هو شان قبيلك ، كقول ابن دارة سالم بن مسافع :
فإن تتقوا شراً فمثلُكم اتقى *** وإن تفعلوا خيراً فمثلكُمُ فعل
فليس في هذا التعليل ما يقتضي أن يكون الملائكة أفضل من الرسل ، كما يتوهمه المعتزلة لأن التشبه بالملائكة من حيث كان الملائكة أسبقَ في هذا المعنى ؛ لكونه حاصلاً منهم بالجِبِلّة فهم مثل فيه ، ولا شبهة في أن الفريق الذين لم يكونوا مجبولين على ما جبلت عليه الملائكة ، إذا تخلقوا بمثل خلق الملائكة ، كان سُموهم إلى تلك المرتبة أعجب ، واستحقاقهم الشكر والفضل له أجدر .
ووجه العدول عن لفظ الملائكة إلى الموصولية : ما تؤذن به الصلة من رفعة منزلتهم ، فيتذرع بذلك إلى إيجاد المنافسة في التخلق بأحوالهم .
و { عند } مستعمل مجازاً في رفعة المقدار ، والحظوة الآلهية .
وقوله : { لا يستكبرون عن عبادته } ليس المقصود به التنويه بشأن الملائكة لأن التنويه بهم يكون بأفضل من ذلك ، وإنما أريد به التعريض بالمشركين وأنهم على النقيض من أحوال الملائكة المقربين ، فخليق بهم أن يكونوا بعداء عن منازل الرفعة ، والمقصود هو قوله : { ويسبحونه } أي ينزهونه بالقول والاعتقاد عن صفات النقص ، وهذه الصلة هي المقصودة من التعليل للأمر بالذكر .
واختيار صيغة المضارع لدلالتها على التجديد والاستمرار ، أو كما هو المقصود وتقديم المعمول من قوله : { وله يسجدون } للدلالة على الاختصاص أي ولا يسجدون لغيره ، وهذا أيضاً تعريض بالمشركين الذين يسجدون لغيره ، والمضارع يفيد الاستمرار أيضاً .
وهنا موضع سجود من سجود القرآن ، وهو أولها في ترتيب الصحف ، وهو من المتفق على السجود فيه بين علماء الأمة ، ومقتضى السجدة هنا أن الآية جاءت للحض على التخلق بأخلاق الملائكة في الذكر ، فلما أخبرت عن حالة من أحوالهم في تعظيم الله وهو السجود لله ، أراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبادر بالتشبه بهم تحقيقاً للمقصد الذي سبق هذا الخبر لأجله .
وأيضاً جرى قبل ذلك ذكر اقتراح المشركين أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم بآية كما يقترحون فقال الله له : { قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي } [ الأعراف : 203 ] وبأن يأمرهم بالاستماع للقرآن وذكر أن الملائكة يسجدون لله ، شرع الله عند هذه الآية سجوداً ؛ ليظهر إيمان المؤمنين بالقرآن وجحود الكافرين به حين سجد المؤمنون ، ويمسك المشركون الذين يحضرون مجالس نزول القرآن ، وقد دل استقراء مواقع سجود القرآن أنها لا تعدو أن تكون إغاظة للمشركين أو اقتداء بالأنبياء أو المرسلين كما قال ابن عباس في سجدة ، { فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب } [ ص : 24 ] أن الله تعالى قال : { فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] فداود ممن أمر محمد صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي به .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الذين عند ربك} من الملائكة... {لا يستكبرون}، يعني لا يتكبرون {عن عبادته} كفعل كفار مكة، وأخبر عن الملائكة، فقال: {ويسبحونه}، يعني يذكرون ربهم، {وله يسجدون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لا تستكبر أيها المستمع المنصت للقرآن عن عبادة ربك، واذكره إذا قرئ القرآن تضرّعا وخيفة ودون الجهر من القول، فإن الذين عند ربك من ملائكته لا يستكبرون عن التواضع له والتخشع، وذلك هو العبادة. "ويُسَبّحُونَهُ "يقول: ويعظمون ربهم بتواضعهم له وعبادتهم. "وَلهُ يَسْجُدُونَ" يقول: ولله يصلون، وهو سجودهم، فصلوا أنتم أيضا له، وعظموه بالعبادة كما يفعله مَن عنده من ملائكته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
.التأويل عندنا في قوله تعالى: {عند ربك} في الطاعة والخضوع أو في الكرامة والمنزلة ليس على قرب الذات، ولكن على ما وصف عز وجل، [بقوله] {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6] وقوله: {لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون} {يسبّحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 19و20] وصفهم بالطاعة له والخضوع...
.وتأويل الآية، والله أعلم، في قوله تعالى: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته...} أي أنهم، وإن لم يكن لهم حاجة إلى المأكل والمشرب وأنواع الحاجات {لا يستكبرون عن عبادته} وأنتم مع حاجتكم إلى الأكل والشرب وأنواع الحوائج أحرى وأولى ألا تستكبروا عن عبادته؛ لأن من الناس من يعبد الملائكة، فخُرّج هذا جواب ذلك، والله أعلم.
وقوله تعالى: {ويسبّحونه} التسبيح هو وصف الرب عز وجل، بالرفعة والعظمة والجلال والتعالي عن الأشباه والأمثال وعما وصفه الملحدون. والتسبيح هو تنزيه الرب وتبرئته من جميع معاني الخلق.
وقوله تعالى: {وله يسجدون} وهو الخضوع في الغاية...
وفي ذلك ترغيب في السجود، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم، روي أنه سجد، وسجد من معه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... وهذا حث منه على الطاعة والاستكانة والخضوع له، لأن الملائكة مع فضلها وارتفاع منزلتها إذا كانت لا تستكبر عن عبادته بل تسبحه دائما وتسجد مثل ذلك، فبنوا آدم بذلك أولى وأحق ولهم أوجب وألزم...
لما رغب الله رسوله في الذكر وفي المواظبة عليه ذكر عقيبه ما يقوي دواعيه في ذلك فقال: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته} والمعنى: أن الملائكة مع نهاية شرفهم وغاية طهارتهم وعصمتهم وبراءتهم عن بواعث الشهوة والغضب، وحوادث الحقد والحسد، لما كانوا مواظبين على العبودية والسجود والخضوع والخشوع، فالإنسان مع كونه مبتلى بظلمات عالم الجسمانيات ومستعدا للذات البشرية والبواعث الإنسانية أولى بالمواظبة على الطاعة، ولهذا السبب قال عيسى عليه السلام: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا} وقال لمحمد عليه السلام: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{إن الذين عند ربك لا يستكبِرون عن عبادته ويسبّحونه وله يسجدون} هم الملائكة عليهم السلام ومعنى العنديّة الزّلفى والقرب منه تعالى بالمكانة لا بالمكان وذلك لتوفّرهم على طاعته وابتغاء مرضاته ولما أمر تعالى بالذكر ورغب في المواعيظ عليه ذكر من شأنهم ذلك فأخبر عنهم بأخبار ثلاثة، الأول نفي: الاستكبار عن عبادته وذلك هو إظهار العبوديّة ونفي الاستكبار هو الموجب للطاعات كما أن الاستكبار هو الموجب للعصيان لأنّ المستكبر يرى لنفسه شفوفاً ومزية فيمنعه ذلك من الطاعة، الثاني: إثبات التسبيح منهم له تعالى وهو التنزيه والتطهير عن جميع ما لا يليق بذاته المقدّسة، والثالث: السجود له قيل: وتقديم المجرور يؤذن بالاختصاص أي لا يسجدون إلا له والذي يظهر أنه إنما قدم المجرور ليقع الفعل فاصلة فاخره لذلك ليناسب ما قبله من رؤوس الآي ولما كانت العبادة ناشئة عن انتفاء الاستكبار وكانت على قسمين عبادة قلبية وعبادة جسمانية ذكرهما، فالقلبية تنزيه الله تعالى عن كل سوء والجسمانية السجود وهو الحال التي يكون العبد فيها أقرب إلى الله تعالى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم عزز عز وجل هذا الأمر وهذا النهي بما يعد خير أسوة للإنسان، وهو التشبه والمشاركة لملائكة الرحمان، فقال {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته} أي إن ملائكة الله المقربين الذين هم عنده كحملة عرشه والحافين به ومن شاء تقدس وتعالى بهذه العندية الشريفة التي لا يعلمها سواه، وهم أعلى مقاما من الموكلين بالمخلوقات وتدبير نظامها كالسحاب والمطر والريح والجنة والنار- إن هؤلاء المقربين العالين عنده لا يستكبرون عن عبادته كما يستكبر عنها هؤلاء المشركون الذين عد بعضهم السجود لله تعالى حطة وضعة لا تحتمل {ويسبحونه} أي ينزهونه عن كل ما لا يليق بعظمته وكبريائه وجلاله وجماله من اتخاذ الند والشريك والظهير والمساعد على الخلق والتدبير، كما يفعل الذين اتخذوا من دونه شفعاء أندادا لله يحبونهم كحب الله ويعبدونهم مع الله {وله يسجدون} أي وله وحده يصلون ويسجدون فلا يشركون معه أحدا، فيجب أن يكون لكل مؤمن أسوة حسنة بخواص ملائكته وأقرب المقربين عنه، تبارك اسمه وتعالى جده.
وقد شرع الله تعالى لنا السجود عند تلاوة هذه الآية أو سماعها إرغاما للمشركين، واقتداء بالملائكة العالين، ومثلها آيات أخرى بمعناها في الجملة، وهذه هي الأولى في ترتيب المصحف. ونسأله تعالى أن يجعلنا من خير الذاكرين له، الشاكرين لنعمه، والمسبحين بحمده، والساجدين له دون سائر خلقه وأن يوفقنا لإتمام تفسير كتابه، إنه على كل شيء قدير.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم ذكر تعالى أن له عبادا مستديمين لعبادته، ملازمين لخدمته وهم الملائكة، فلتعلموا أن اللّه لا يريد أن يتكثر بعبادتكم من قلة، ولا ليتعزز بها من ذلة، وإنما يريد نفع أنفسكم، وأن تربحوا عليه أضعاف أضعاف ما عملتم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يضرب الله مثلاً بالذين عنده من الملائكة المقربين: الذين لا ينزغ في أنفسهم شيطان، فليس له في تركيب طبيعتهم مكان! ولا تستبد بهم نزوة، ولا تغلبهم شهوة. ومع هذا فهم دائبون على تسبيح الله وذكره، لا يستكبرون عن عبادته ولا يقصرون. وللإنسان أحوج منهم إلى الذكر والعبادة والتسبيح. وطريقه شاق! وطبيعته قابلة لنزغ الشيطان! وقابلة للغفلة المردية! وجهده محدود. لولا هذا الزاد في الطريق الكؤود: (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته. ويسبحونه. وله يسجدون).. إن العبادة والذكر عنصر أساسي في منهج هذا الدين.. إنه ليس منهج معرفة نظرية. وجدل لاهوتي. إنه منهج حركة واقعية لتغيير الواقع البشري. وللواقع البشري جذوره وركائزه في نفوس الناس وفي أوضاعهم سواء. وتغيير هذا الواقع الجاهلي إلى الواقع الرباني الذي يريده الله للناس وفق منهجه مسألة شاقة عسيرة؛ تحتاج إلى جهد طويل، وإلى صبر عميق. وطاقة صاحب الدعوة محدودة. ولا قبل له بمواجهة هذه المشقة دون زاد يستمده من ربه. إنه ليس العلم وحده، وليست المعرفة وحدها. إنما هي العبادة لله والاستمداد منه.. هي الزاد، وهي السند، وهي العون؛ في الطريق الشاق الطويل! ومن ثم هذا التوجيه الأخير في السورة التي بدأت بقول الله سبحانه لرسوله الكريم، (كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه، لتنذر به، وذكرى للمؤمنين).. والتي تضمن سياقها عرض موكب الإيمان، بقيادة الرهط الكريم من رسل الله الكرام؛ وما يعترض طريقه من كيد الشيطان الرجيم؛ ومن مكر شياطين الجن والإنس؛ ومن معارضة المتجبرين في الأرض، وحرب الطواغيت المتسلطين على رقاب العباد. إنه زاد الطريق. وعدة الموكب الكريم في هذا الطريق...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ تختتم هذه الآية سورة الأعراف بهذه العبارة، وهي أنّكم لستم المكلّفون بذكر الله من يذكر الله ليس هو أنتم فحسب، بل (إنّ الذين عند ربّك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون).
والتعبير ب (عند ربّك) لا يعني القرب المكاني، لأنّ الله ليس له مكان خاص، بل هو إشارة إلى القرب المقامي، أي أنّ الملائكة وغيرهم من المقربين على رغم مقامهم و منزلتهم عند الله، فهم لا يقصرون في التسبيح والذكر لله والسجود له...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
خلاصة سورة الأعراف وهي تدخل في ستة أبواب:
أولها: توحيد الله تعالى إيمانا وعبادة وتشريعا، وصفاته وشؤون ربوبيته.
ثانيها: الوحي والكتب والرسالة والرسل.
ثالثها: الآخرة والبعث والجزاء.
رابعها: أصول التشريع وبعض قواعد الشرع العامة.
خامسها: آيات الله وسنته في الخلق والتكوين.
سادسها: سنن الله تعالى في الاجتماع والعمران البشري وشؤون الأمم المعبر عنه في عرف عصرنا بعلم الاجتماع.
الباب الأول توحيد الله تعالى إيمانا وعبادة وتشريعا وصفاته وشؤون ربوبيته وفيه 12 أصلا.
- دعاء الله وحده وإخلاص الدين له وتخصيصه بالعبادة وكون الإخلال بذلك شركا وكفرا بالله تعالى. قال تعالى في الآية 28 {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} أي بأن لا تشوبه أدنى شائبة من التوجه إلى غيره في الدعاء ولا في غيره من دينكم، كالتوجه إلى الأنبياء والصالحين أو ما يذكر بهم كقبورهم، فذلك شرك ينافي خلوصه له، قل أو كثر، سمي شركا أو سمي توسلا وتبركا (ج8 تفسير) وقال تعالى في بيان حال المشركين عند موتهم من الآية 37 {حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} وأمرنا تعالى في الآية 54 بأن ندعوه تضرعا وخيفة- ونهانا عن الاعتداء في الدعاء، وفي آية 55 بأن ندعوه خوفا وطمعا، وفي الأول صفة دعاء الإخلاص اللسانية، وفي الثاني صفته القلبية. ومن الأمر بعبادة الله وحده وترك عبادة غيره ما حكاه عن تبليغ الرسل لأقوامهم فدل على أنه أصل دينه عن ألسنة جميع رسله قال تعالى: {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره} [الأعراف: 59] ومثله عن رسوله هود عليه السلام في الآية 64 مع حكاية قول قومه له {قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا} ومثله ما حكاه عن رسوله صالح عليه السلام في الآية 72 وما حكاه عن رسوله شعيب عليه السلام في الآية 84. ومن بيان بطلان عبادة غير الله تعالى ونزغات الوثنية في اتخاذ الآلهة اتخاذا ما ورد في الآيات 138- 140 من طلب بني إسرائيل من موسى أن يجعل لهم إلها كالقوم الذين رأوهم يعكفون على أصنام لهم ورد موسى عليه السلام عليهم فيراجع تفسيرها (في ج 9 تفسير) وفيه بيان خطأ الرازي في فهم معنى الإله لجريه على اصطلاح المتكلمين.
- إنكار الشرك وإقامة الحجة على أهله وإثبات التوحيد وكونه مقتضى الفطرة في الآيات 172 و 173 في أخذ الرب الميثاق من ذرية بني آدم وإشهادهم على أنفسهم أنه ربهم، ويراجع تفسيرهما (ج 9).
- بيان أن شارع الدين هو الله رب العالمين فيجب إتباع ما أنزله ولا يجوز إتباع أولياء من دونه في العقائد ولا العبادات، ولا التحليل والتحريم الديني، وهو نص قوله تعالى في الآية الثانية {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء} لا أولياء يتولون التشريع لكم بما ذكر كالذين {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباب من دون الله} [التوبة: 31] يحلون لهم ويحرمون عليهم فيتبعونهم كما فسره الحديث المرفوع ولا أولياء يتولون أموركم فيما عدا ما سخره الله لكم من الأسباب وهذا عين توحيد الربوبية. واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم لا يدخل في عموم النهي هنا فإنه تعالى أمر باتباعه في الآية 185 من هذه السورة وفي غيرها وجعل طاعته فيما أرسله به وحيا وبيانا للوحي عين طاعته كما في سورة النساء فلا يكون وليا من دونه بل من عنده كما بيناه في تفسير الآية (يراجع ج8 تفسير).
- حظر القول على الله بغير علم بتشريع أو غيره. وذلك قوله تعالى في الرد على المشركين من الآية 27 {أتقولون على الله ما لا تعلمون} وقوله تعالى في آخر أصول المحرمات في الآية 33 {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} وقد بينا في تفسيرها مفاسد هذه الجريمة الشركية (ج8 تفسير) ومنه يعلم خطأ الذين أنكروا الحسن والقبح في الأشياء مطلقا والذين حكموا العقل في التشريع الديني.
- كون جميع ما يشرعه الله تعالى حسنا في نفسه وتنزيهه عن الأمر بالقبيح وهو نص قوله تعالى في الآية 27 {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} وقوله في الآية 23 {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} الخ فإن الفواحش ما ظهر قبحه وعظم، والإثم ما يضر، والبغي تجاوز حدود الحق والعدل، والشرك بالله بغير سلطان أي برهان جهل، والقول على الله بغير علم جهل وتعد على حقوق الرب تعالى. وكل ذلك قبيح في نظر العقل وبعضه قبيح في الحس أيضا. فكل ما أمر الله تعالى به فهو حسن في نفسه وإن خفي حسن بعضه على بعض ضعفاء الناظرين، وكل ما نهى عنه فهو قبيح في نفسه وإن جهل قبحه بعض الغاوين، ولكن العقل على إدراكه لذلك لا يستقل بمعرفة كل حسن وكل قبيح بالإحاطة والتحديد، بل تصده عن كثير من المحاسن والقبائح التقاليد والعادات وضعف النظر والبحث.
- استواء الرب على عرشه وعلوه على خلقه، وهو في الآية 43 وفي تفسيرها تحقيق الحق في مذهب السلف (وهو في ج8 تفسير).
و 8- تكليم الرب لموسى عليه السلام ومسألة رؤيته سبحانه وتعالى وبيان ذلك في تفسير قوله تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني} [الأعراف: 143] الخ وتفسيرها (ج9 تفسير) وفيه من التحقيق والحكم في مسائل الخلاف ما لا تجد له نظير في كتاب...
- هداية الله وإضلاله في آية [178] {من يهدي الله فهو المهتدي} الخ، وآية [186] {من يضلل الله فلا هادي له} الخ، وفي تفسيرها تحقيق أن هذا الإضلال لا يقتضي الإجبار وإنما هو مقتضى سنة الله تعالى في خلق الإنسان، وارتباط المسببات من أعماله بالأسباب، فليس حجة للمعتزلة ومن شايعهم ولا للأشعرية والجبرية (راجع ج9) ومثله قوله تعالى: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} [146] وكذلك الطبع على القلوب في آيتي 100 و 101 كل ذلك بيان لسنن الله تعالى في طباع البشر وأعمالهم. 10- الكلام في رحمة الله تعالى ومغفرته، ومنه قرب رحمته من المحسنين في آية 54 وكونه أرحم الراحمين في الآية 141 ورحمته ومغفرته للتائبين في الآية 152 وكونه خير الغافرين 155 وسعة رحمته كل شيء ومن يكتبها أي يوجبها لهم 156.
- أسماء الله الحسنى ودعاؤه بها والإلحاد فيها وهو نص الآية 180 وفي تفسيرها تحقيق ما ورد من هذه الأسماء في القرآن وحديث (إن لله تسعة وتسعين اسما) الخ (ج9). 12- الأمر بذكر الله تضرعا وخيفة سرا وجهرا وكونه غذاء الإيمان، وبعبادته وتسبيحه والسجود له وحده وهو في الآيتين اللتين ختم الله بها السورة 204 و 205.
الباب الثاني: الوحي والكتب والرسالة والرسل، وفيه 3 فصول فيها 24 أصلا أو مسألة؛
- إنزال القرآن على خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم للإنذار به وذكرى للمؤمنين وهو في الآية الأولى من السورة، وفيها نهي الرسول أن يكون في صدره حرج منه.
- أمر المؤمنين بإتباع المنزل إليهم من ربهم وهو القرآن وأن لا يتبعوا من دونه أولياء وهو الآية الثانية وبيان أنهم إذا لم يؤمنوا به فلا يرجى أن يؤمنوا بكتاب غيره كما قال في آخر الآية {فبأي حديث بعده يؤمنون}.
- وصفه تعالى للقرآن بأنه فصله على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون، وهو نص الآية 51.
- بيانه تعالى لما سيكون عند إتيان تأويل القرآن أي ظهور صدقه بوقوع ما أخبر بوقوعه من أمر الغيب وهو أن الذين نسوه فلم يؤمنوا به في الدنيا يؤمنون يومئذ ويشهدون لجميع الرسل بأنهم جاءوا بالحق ويتمنون الشفعاء أو الرد إلى الدنيا ليعملوا غير ما كانوا يعملون، وهو في الآية 52.
- ولاية الله لرسوله بإنزاله الكتاب عليه في الآية 196.
- الأمر بالاستماع لقراءة القرآن والإنصات له رجاء الرحمة بسماعه والاهتداء به. -ما جاء فيها خاصا بنبينا صلى الله عليه وسلم-
- قوله تعالى في الآية الأولى {فلا يكن في صدرك حرج منه} أي الكتاب هو نهي عن ضيق الصدر بعظمة القرآن وجلال الأمر الذي أنزل لأجله وشدة وقع سلطانه في القلب، أو عن ضيقه بمشقة الإنذار به والتصدي لهداية جميع البشر وقد غلب عليهم الشرك والضلال، أو بما يتوقع من شدة معارضة الكفار وعدوانهم- وقيل هو دعاء، وقيل هو حكم منه تعالى بمضمونه (ج8).
- أمره تعالى له بأن يعتز بأنه هو وليه وناصره وبأنه تعالى يتولى الصالحين فلا خوف على أتباعه من اضطهاد الكفار لهم، وهو في الآية 196 وقد ذكرت في مسألة أخرى.
- قوله تعالى في الآية 184 {أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة} وهي تفنيد لرمي بعض مشركي مكة إياه صلى الله عليه وسلم بالجنون يعني أن التفكر الصحيح في حاله صلى الله عليه وسلم من أخلاقه وهديه وسيرته وفيما جاء به من العلم والهدى ينفي أن يكون به صلى الله عليه وسلم أدنى مس من الحيوان كما زعموا، فما عليهم إلا أن يتفكروا (راجع تفسيرها ج9).
- بيان أنه صلى الله عليه وسلم لم يعط علم الساعة أيان مرساها ومتى تقوم: بل هو من علم الغيب الخاص بالله تعالى وذلك نص الآية 187.
- بيان أنه صلوات الله وسلامه عليه لا يملك لنفسه- أي ولا لغيره بالأولى- نفعا ولا ضرا- إلا ما مكنه الله منه بتسخير الأسباب من الأعمال الاختيارية- وبيان أنه لا يعلم الغيب مؤيدا بالدليل الحسي والعقلي، وذلك قوله تعالى: {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} [الأعراف: 188] راجع تفسيرها في ج9.
- بيان عموم بعثته وشمول رسالته لجميع الأمم والشعوب ومنهم أهل الكتاب والشهادة له في كتبهم. يدل عليه في الآية الأولى حذف مفعول (لتنذر به) فهو يدل على العموم، وكذلك الخطاب العام بعده في الأمر باتباع الناس ما أنزل إليهم من ربهم وهو القرآن المذكور في الآية الأولى. والنص في إرساله إلى أهل الكتاب قوله تعالى فيمن يكتب لهم رحمته {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157] الخ وقد بينا في تفسيرها نصوص التوراة والإنجيل المشار إليها فيها (ج9 تفسير). وأما النص الصريح في عموم الرسالة فهو قوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} [الأعراف: 158]، وكذا كل خطاب خوطب به بنو آدم في الآيات 25 و 16 و 31 وما بعدها من آيات التشريع العام، ولكن هذا كله مشترك بين أمة خاتم النبيين وأمم الأنبياء قبله، وأصرح منه في الاشتراك العام ما ترى في أول الكلام في الرسالة العامة. -ما ورد في الرسالة العامة والرسل-
- بعثة الرسل إلى جميع بني آدم في قوله تعالى: {يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي} [الأعراف: 35] الخ ويدل على إرسالهم إلى الأمم المختلفة قوله تعالى: {وكم من قرية أهلكناها} [الأعراف: 4] إلى آخر الآية الخامسة. فالمراد بالقرى الكثيرة أمم الرسل بدليل ما بعده.
- سؤال الرسل يوم القيامة عن التبليغ وسؤال الأمم عن الإجابة وهو نص الآية الخامسة.
- جزاء بني آدم على اتباع الرسل وطاعتهم وعلى تكذيبهم إياهم واستكبارهم عن اتباعهم وهو في الآيتين 35 و 36.
- وظيفة الرسل تبليغ رسالات ربهم بشارة وإنذارا قولا وعملا وهو صريح في الآيات: 1 و62 و93 و188.
- أول ما دعا إليه الرسل توحيد الألوهية بالأمر بعبادة الله وحده ونفي عبادة إله غيره كما هو صريح في الآيات 59 و65 و70 و73 و85.
- مجيء الرسل بالبينات من الله تعالى وهي تشمل الآيات الكونية والحجج العقلية كما ترى في الآيات 13 و85 و103 و105 و107 و108.
- الآيات الكونية التي أيد الله تعالى بها رسله هي حجة له على الأمم، وهي غير مقتضية للإيمان اقتضاء عقليا ولا ملجئة إليه طبعا، ولو كانت مقتضية له قطعا أو ملجئة إليه طبعا لما تخلف عنها، ولكان خلاف مقتضى التكليف المبني على الاختيار، والملجأ لا يستحق جزاءا. ونحن نرى في قصة موسى مع فرعون وقومه من هذه السورة وغيرها أن السحرة قد آمنوا إيمانا يقينا على علم، وأن الجماهير من قومه ظلوا على كفرهم، ولكن الله تعالى أخبرنا في سورة النمل أنه لما جاءتهم الآية الكبرى قالوا إنها لسحر مبين {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} [النمل: 14] أي عاندوا موسى عليه السلام عنادا بإظهار الكفر بها في الظاهر مع استيقانها في الباطن، وان سبب هذا الجحود هو الظلم والعلو والكبرياء في الأرض وهذا وصف فرعون وملئه أي كبار رجال دولته إذ من المعلوم أن سائر الشعب كان مستذلا، وهو مقلد للرؤساء لجهله وقد صدقهم في قولهم إن موسى ساحر وإن السحرة كانوا متواطئين معه، ولذلك أظهروا الإيمان به لأجل إخراج فرعون ورجال دولته من مصر والتمتع بكبرياء الملك بدلا منهم. كما تدل عليه آيات أخرى ولو فهم جمهور الشعب من الآيات ما فهموا لآمن كما آمنوا، لأنه لم يكن لديه من عتو العلو والكبرياء ما يصرفه عن الإيمان، ولاشك أن السحرة كانوا أكرم منزلة في الدولة من سائر الشعب ولكن كرامتهم لم تكن بالغة درجة العظمة والعلو المانعة لصاحبها من تركها لأجل الحق. وقد امتاز خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم بأن جعل الله آية نبوته الكبرى علمية لا صعوبة في فهم دلالتها على عامي ولا خاصي على أنه أيده في زمنه بعدة آيات كونية.
- نصيحة الرسل للأمم وأمرهم بالحق والفضيلة ونهيهم عن ضدها كما في الآيات 62 و63 و68 و74 و79 و82 و85 و86 و93.
- شبهة الأمم على الرسل التي أثارت تعجبهم واستنكارهم هو كون مدعي الرسالة رجلا مثلهم كما في الآية 63 و69.
- اتهام الكفار رسل الله بالسحر كما فعل فرعون والملأ من قومه باتهام موسى في الآية 109 وما يليها من الآيات في قصة السحرة المصريين مع موسى. وهي شبهة جميع أقوام الرسل على آياتهم من حيث إن كلاً منهما أمر غريب لا يعرفون سببه، ومن خطأ المتكلمين التفرقة بين المعجزة والسحر باختلاف حال الأشخاص، وقد عقدنا في تفسير الآيات فصلا في حقيقة السحر وأنواعه لا يجد القارئ مثله في شيء من تفاسيرنا وكتبنا الكلامية "وهو في ج9".
- عقاب الأمم على تكذيب الرسل وهو في الآيات 64 و73 و78و 84 و91 و92 و133 و136 و137.
- قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. وهي من آية 59 إلى 93 قصة موسى مع فرعون وقومه وسحرته من آية 103 إلى 137 وقصته مع قومه وحدهم من 138- 171 وفيها من العبر والفوائد ما ذكر بعضه في أبواب من هذه الخلاصة وبقي ما سبب إنزالها وإنزال غيرها من المقاصد المصرح بها في غير هذه السور ككونها من أخبار الغيب الماضية الدالة على كون القرآن وحيا من الله تعالى: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} [هود: 49] وكونها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يلاقي من إعراض المشركين وأذاهم وتثبيتا لقلبه في النهوض بأعباء الرسالة كما قال تعالى: {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} [هود: 120] -وكونها موعظة وذكرى للمؤمنين كما قال تعالى في تتمة هذه الآية {وموعظة وذكرى للمؤمنين} وكونها عبرة عامة للعقلاء من المؤمنين والكافرين المستعدين للاعتبار كما قال تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} [يوسف: 111] وغير ذلك مما سنفصله إن شاء الله تعالى في تفسير سورة هود. فقد طال تفسير هذه السورة.
الباب الثالث عالم الآخرة والبعث والجزاء وفيه 12 أصلا؛
الأصل الأول: البعث والإعادة في الآخرة وهو قوله تعالى في الآية [25]: {ومنها تخرجون} وفي [29] {كما بدأكم تعودون} وفيه دليل على إمكان البعث لأنه كالبدء أو أهون على المبدئ بداهة، فكيف وهو القادر على كل شيء بدءا وإعادة على سواء- وفي الآية 57 تشبيه إخراج الموتى بإخراج النبات من الأرض الميتة بعد إنزال المطر عليها، وهذا التشبيه يتضمن البرهان الواضح على قدرة الله تعالى على إحياء الموتى بعد فناء أجسادهم، وقد أطلنا في تفسيرها الكلام في المسألة من الجهة العلمية المتعلقة بالعلوم العقلية والكونية (فتراجع في ج8).
الأصل الثاني: وزن الأعمال يوم القيامة وترتيب الجزاء على ثقل الموازين وخفتها وهو في الآيتين الثامنة والتاسعة.
الأصل الثالث: سؤال الرسل في الآخرة عن التبليغ وأثره وسؤال الأمم عن إجابة الرسل وهو في الآية السادسة.
الأصل الرابع: كون الجزاء بالعمل، وجزاء المكذبين المستكبرين والمجرمين والظالمين، ودخول الأمم من الإنس والجن في النار ولعن بعضهم بعضا، وشكوى بعضهم من إضلال بعض، والدعاء عليهم بمضاعفة العذاب، وتحاورهم في ذلك. راجع الآيات 36- 41 و147 و179.
الأصل الخامس: جزاء المتقين المصلحين في الآية 35 وجزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات وإيراثهم الجنة وحالهم ومقالهم فيها وذلك في الآيتين 42 و43- ومن ذلك قوله تعالى في الزينة والطيبات من الرزق من الآية [32] {قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة}.
الأصل السادس: إقامة أهل الجنة الحجة على أهل النار في قوله تعالى: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم} [الأعراف: 43] الخ وفي تفسيرها بيان لما في صناعات هذا العصر من إزالة الاستبعاد والاستغراب من تحاور الناس مع بعد المسافات بينهم (ج8 تفسير).
الأصل السابع: الحجاب بين أهل الجنة وأهل النار وهو الأعراف وأهله وتسليمهم على أهل الجنة وخطابهم لأناس يعرفونهم بسيماهم في النار بما يذكرهم بضلالهم في الدنيا وغرورهم بأموالهم الخ وهو في الآيات 46- 49.
الأصل الثامن: نداء أصحاب النار أصحاب الجنة {أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله} وجواب أهل الجنة لهم في الآية 48.
الأصل التاسع: اعتراف أهل النار في الآخرة بصدق الرسل وتمنيهم الشفعاء ليشفعوا لهم، أو الرد إلى الدنيا ليعملوا غير الذي كانوا يعملون. وحكم الله تعالى عليهم بأنهم خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون من القول بأن من كانوا يدعونهم في الدنيا سيشفعون لهم عند الله. وهو في الآية (53).
الأصل العاشر: الدعاء بخير الآخرة مع الدنيا وهو ما ورد في دعاء موسى عليه السلام من قول الله تعالى حكاية عنه {واكتب لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة} [الأعراف: 156] فهو موافق لما ورد في القرآن تشريعا لهذه الأمة. فغاية دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله سعادة الدارين كما ترى بيانه في السنة 4 من الباب السادس.
الأصل الحادي عشر: صفة أهل جهنم {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها} [الأعراف: 179] الخ، وفي تفسيرنا لها من العلم والحكمة ما لا تجد مثله في تفسير ولا في كتاب آخر- فراجعه (ج9).
الأصل الثاني عشر: مسألة قيام الساعة وكونها تأتي بغتة وهي في الآية 87 وفي تفسيرها مباحث مسائل مبتكرة في أشراطها (راجع ج9).
الباب الرابع أصول التشريع وفيه 9 أصول؛
الأصل الأول: بيان أن شارع الدين هو الله تعالى كما في الآية الثانية من السورة، وتقدم في الباب الأول من هذه الخلاصة، وهناك قد ذكر من حيث إنه حق الرب سبحانه وتعالى، ويذكر هنا من حيث إنه الأصل الأول من أصول الأحكام التشريعية. والمراد بشرع الدين والتشريع الديني ما يجب اتباعه وجوبا دينيا على أنه قربة يثاب فاعله ويعاقب تاركه في الآخرة. وأما التشريع الدنيوي الذي يحتاج إليه الناس في مصالحهم الدنيوية فقد أذن الله تعالى به في الإسلام للرسول ولأولي الأمر من المسلمين كما بيناه بالتفصيل الواسع في تفسير قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59] واشترط في هذا الإذن أن يردوا ما تنازعوا فيه من شيء إلى الله ورسوله بالرجوع إلى الكتاب وإلى الرسول في عهده، وإلى سنته من بعده، كما هو صريح بقية الآية مع بيان علته (راجع تفسيرها في ج5 تفسير).
الأصل الثاني: تحريم التقليد في الدين والأخذ فيه بآراء البشر، وهو نص النهي في الآية الثانية معطوفا على الأمر بإتباع ما أنزل إلى الناس من ربهم وهو {ولا تتبعوا من دونه أولياء} وقد صرح بذلك المفسرون. ومن النصوص في بطلانه الإنكار على احتجاج المشركين به في الآية 28 {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} (راجع تفسيرها في ج8) وفي الآية 173.
الأصل الثالث: تعظيم شأن النظر العقلي والتفكر لتحصيل العلم بما يجب الإيمان به ومعرفة آيات الله وسننه في خلقه وفضله على عباده فمن ذلك قوله تعالى في آية [33]: {وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} السلطان البرهان، فتقييد تحريم الشرك بانتفائه تعظيم لشأنه. ومنه قوله في آخر الآية {أفلا تعقلون}؟ وسيذكر في الأصل الرابع. ومنه قوله تعالى بعد ضرب المثل للمكذبين بآياته من آية [179] {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} ومنه قوله في الآية [184]: {أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة} وفي الآية [185] {أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء}؟ الخ –والآية الجامعة في هذا المعنى قوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} [179] وهي شاملة للنظر العقلي المحض ولكل ما كان مصدره الرؤية والسماع وهما أعم وأكثر مصادر العلم.
الأصل الرابع: تعظيم شأن العلم الشامل للعلم النقلي وهو ما أنزل الله من الكتاب والحكمة، وما بينه به رسوله صلى الله عليه وسلم من سنة، والعلم المستفاد من الحس والعقل، والمراد من العلم هنا متعلق المصدر وهو المعلومات، ففارق ما قبله. ومن الآيات في ذلك قوله في آخر الآية [27] {أتقولون على الله ما لا تعلمون} وقوله في آخر الآية [31]: {كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون} وهي من النوع الثاني لأن موضوع الآية مسألة الأمر بالأكل من الطيبات وبالزينة والإنكار على من حرمهما وهي من مسائل علم الاجتماع والمصالح البشرية كما فصلناه في تفسيرها (راجع ج8) وقوله تعالى في آخر آية 33 التي بين فيها أنواع المحرمات العامة {وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} السلطان البرهان- وقوله تعالى في آخر آية [130]: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} وهو في زعم آل فرعون وخرافاتهم أن ما ينالهم من الحسنات والخيرات فهو حق لهم وأن ما ينالهم من السيئات فهو بشؤم موسى وقومه وتطيرهم بهم. والعلم المنفي عنهم هنا هو العلم بسنن الله في طباع البشر والأسباب والمسببات في العالم- وقوله تعالى في حكاية توبيخ موسى عليه السلام لقومه على مطالبتهم إياه بأن يجعل لهم إلها كآلهة الذين رأوهم يعكفون على أصنام لهم من آخر الآية [138] {إنكم قوم تجهلون} وما علل به الحكم بجهلهم في الآيتين بعدها، فهذه جامعة لبيان فضل العلم النقلي والعلم العقلي وذم الجهل بهما معا فإن موسى عليه السلام علل تجهيلهم أولا بعلة عقلية وثانيا بعلة دينية عقلية (فراجع تفسيرهن في ج9)- وقوله تعالى في الآية [169] {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه} وهو من العلم النقلي ولكنه أيد بالعقلي في ختم الآية بقوله: {أفلا تعقلون}. فهذه الشواهد على هذا الأصل وما قبله المؤيدة بأضعافها في السور الأخرى تثبت تعظيم القرآن لشأن التفكر والنظر والاستدلال لتحصيل العلم بالله وشرائعه المنزلة وبسننه وآياته في خلقه ونعمه على عباده- وتعظيم شأن جميع العلوم النافعة من نقلية وعقلية وهي حجة على نقص أهل الجهل بها.
الأصلان الخامس والسادس: أمر الناس بأخذ زينتهم عند كل مسجد وبالأكل والشرب من الطيبات المستلذات، والإنكار على من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وبيان أنها حق للذين آمنوا في الحياة الدنيا أولا وبالذات بقيد عدم الاعتداء والإسراف فيها، وإن شاركهم غيرهم فيها بعموم فضل الله لا باستحقاقهم، وأنها تكون خالصة لهم في الآخرة، وذلك نص الآيتين 31 و32 وهذان الأصلان هما الركنان اللذان يقوم عليها بناء الحضارة بعلومها وفنونها وصناعاتها وإظهارها لما في هذا الكون من سنن الله تعالى وآياته وأسرار صنعه الدالة على توحيده وقدرته وحكمته وإحسانه على عباده- وهما المبطلان لأساس الديانة البرهمية من جعل مقصد الدين تعذيب النفس وحرمانها من الزينة واللذة، وقلدهم في ذلك النصارى وابتدعوا الرهبانية لأجله ولم يقفوا عند حد تقليدهم في الدنيا حتى زعموا أن دار النعيم في الآخرة خالية من اللذات الجسدية وليس فيها إلا النعيم الروحاني خلافا لبعض تصريحات الإنجيل من شرب الخمر في الملكوت وكون الصائمين والجياع والعطاش من أجل البر يشبعون هنالك. ولما كان الغلو في الدين كغيره من أمور البشر يقوي الاستعداد له في بعض الناس من كل أمة بدأ بعض الصحابة المبالغين في العبادة بترك أكل اللحم وهمَّ بعضهم بالاختصاء فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وعن المبالغة في العبادة ونزل في شأنهم {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا} [المائدة: 87] الآيات من سورة المائدة وهي بمعنى ما هنا. ولم يمنع ذلك كله بعض مسلمي المتصوفة من الغلو في ترك الزينة والطيبات وصار الجاهلون بكنه الإسلام يعدون الغلو في ذلك هو الكمال في الدين، وأهله من أولياء الله المقربين، وإن كانوا جاهلين خرافيين. ويراجع ما في تفسيرنا للآيتين من الأحكام والحكم والفوائد ومنها ما لم يكن يخطر في بال أحد من مفسرينا المتقدمين رحمهم الله تعالى (ج8).
الأصل السابع: هداية الناس بالحق والعدل به وقد وصف الله تعالى بذلك خيار قوم موسى عليه السلام في الآية 159 وخيار أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الآية 181 فهذا من أصول دين الله العامة في جميع شرائعه. والحق هو الأمر الثابت المتحقق في الشرع إن كان شرعيا وفي الواقع ونفس الأمر إن كان أمرا وجوديا، والعدل ما تُحُريَ به الحق من غير ميل إلى طرف من الطرفين أو الأطراف المتنازعة فيه أو المتعلقة به ويدخل في هذا الأصل الدعوة إلى الحق والخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة العامة والخاصة والإصلاح بين الناس. ومنه الأمر بالعدل المطلق في الأحكام والأعمال بقوله: {قل أمر ربي بالقسط} [18] وهذا هو الأصل العام لجميع الأحكام بين الناس كما قال تعالى في سورة النساء المدنية إذ صار للأمة حكم ودولة {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء: 58] وفي سورة النساء والمائدة آيات أخرى في وجوب عموم العدل والمساواة فيه بين المؤمن والكافر والبر والفاجر والغني والفقير والقريب والبعيد، وقد تقدمت مع تفسيرها. فمن تحرى العدل بغير محاباة وعرف مكانه فحكم به كان حاكما بحكم الله تعالى من غير حاجة إلى نص خاص في الشريعة به، فإن وجد النص كانت الثقة بالعدل أتم بل لا حاجة مع النص إلى الاجتهاد كما أن الاجتهاد المخالف للنص الخاص أو للعدل العام باطل.
الأصل الثامن: حصر أنواع المحرمات الدينية العامة في قوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [33] يراجع بيان وجه الحصر في تفسيرها (ج8).
الأصل التاسع: بيان أصول الفضائل الأدبية والتشريعية الجامعة بأوجز عبارة معجزة في قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [199] يراجع تفسيرها من آخر ج9.
الباب الخامس في آيات الله وسنته في الخلق والتكوين وفيه 14 أصلا؛
- خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، واستواؤه على عرشه، ونظام الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والنجوم بأمره، وكون الخلق والأمر له وحده، وذلك في الآية 54 وهي تتضمن الترغيب في علمي الفلك والجغرافية الطبيعية دون علم التنجيم الخرافي، وقد بلغ أهل الغرب من العلم بذلك ما لو ذكر أوسطه وأبعده عن الغرابة في غير هذا العصر لقال فيه أذكى العقلاء إنه من هذيان المجانين، أو تخيل الحشاشين، ولا يوجد علم أدل على عظمة الخالق وقدرته وسعة علمه ودقة حكمته من علم الفلك، وقد كان قومنا العرب في عهد حضارتهم الإسلامية أعلم البشر به فصاروا أجهلهم به.
- خلق الله الرياح والمطر، وإحياؤه الأرض به، وإخراجه الثمرات والخصب وضده، وذلك في الآيتين 57 و58 وذلك يتضمن الترغيب في العلم بسنن الله تعالى في هذه المخلوقات كما قلناه فيما قبله، لأن في العلم بذلك كله من معرفة آيات الله وكمال صفاته ما يعطي متأمله اليقين في الإيمان إذا قصده، ويغدق عليه نعمه التي منَّ عليها بها ويعدّه لشكرها، فتجتمع له بذلك سعادة الدارين. وقد اتسعت علوم بعض البشر بذلك فاستحوذوا على أكثر خيرات الأرض في بلادهم وبلاد الجاهلين بها الذين أضاع الجهل عليهم دنياهم ودينهم بالتبع لها.
- خلق الله الناس من نفس واحدة، وخلق زوجها منها ليسكن إليها، وإعداد الزوجين الذكر والأنثى للتناسل، كما في الآية 189 وفي قصة جنة آدم ومعصيته وتوبته من الآيات 19- 25 بعض صفات النشأة البشرية واستعدادها وحالها في سكنى الأرض.
- تفضيل الله تعالى للإنسان على من في الأرض جميعا كما أفاده قوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين} [الأعراف: 11] وبيان هذه المسألة بالتفصيل في تفسير سورة البقرة لأنها أوسع تفصيلا لما تقتضيه قصة آدم المطولة فيها والتصريح فيها بجعل آدم خليفة في الأرض، وفي باب التأويل هنالك سبح طويل للأستاذ الإمام رحمه الله تعالى لم يسبقه إليه أحد فيما نعلم فيراجع في الجزء الأول من هذا التفسير.
- خلق بني آدم مستعدين لمعرفة الله تعالى، وإشهاد الرب إياهم على أنفسهم أنه ربهم، وشهادتهم بذلك بمقتضى فطرتهم، وما منحوه من العقل والفكر، وحجته تعالى عليهم بذلك كما في الآيتين 172 و173 فيراجع تفسيرهما (في ج9) وكذا خلقهم مستعدين للشرك وما يتبعه من الخرافات كما في الآية الثانية منهما والآية 190.
- ضرب المثل لاختلاف استعداد البشر لكل من الخير والشر والبر والإثم، وعلامة كل منهما فيهم وكونهم يعرفون بثمارهم، وذلك قوله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا} [الأعراف: 58]، وفيه إرشاد إلى طلب معرفة الشيء بأثره ومعرفة الأثر بمصدره، وفيه دليل على أن في الأشياء خبيثا وطيبا، وجيدا ورديئا. ويؤيده حديث (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة) 1134 الخ وهو في الصحاح وغيرها.
- الكلام في إبليس وهو الشيطان وعداوته لآدم وامتناعه من السجود له ووسوسته له ولزوجه بالإغراء بالمعصية بالأكل من الشجرة وعاقبة ذلك. وهو في الآيات 20- 23 وكونه من المنظرين إلى يوم القيامة.
- عداوة إبليس والشياطين من نسله لبني آدم وتزيينهم لهم الشر والباطل وإغراؤهم بالفساد والمعاصي وحكمة ذلك، وهي في الآيات 16 و18 و20- 22 و27 وتحذيرهم منه في الآية 26 مع بيان أنه يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونهم.
- نزغ الشيطان للإنسان ومقاومته بالاستعاذة بالله تعالى وكون المتقين إذا مسهم طائف منه تذكروا فإذا هم مبصرون لا تطول غفلتهم فيغرهم وسواسه وذلك في الآيتين 200-202.
- بيان أن الشياطين أولياء للمجرمين الذين لا يؤمنون من بني آدم وهو في فاصلة الآية 27 وبيان أن إخوان الشياطين من بني آدم يمكنون الشياطين من أنفسهم بعدم تقواهم فهم يمدونهم في الغي ولا يقصرون فيه وذلك نص الآية 202. قد سبق الكلام في تفسيرنا هذا على مباحث الشياطين والجن في عدة مواضع قد أحلنا عليها في تفسير آيات الأعراف وزدنا على ذلك عقد فصل استطرادي في حكمة خلق الله تعالى الخلق، واستعداد الشيطان والبشر للشر. فيراجع في (ج8).
- منة الله على البشر بتمكينهم في الأرض وتسهيل أسباب المعايش لهم كما في الآية 9 ومن الشكر الواجب له تعالى على ذلك طلب سعة العلم باستعمار الأرض ووسائل المعايش.
- منة الله على البشر باللباس والزينة كما في الآية 26 وراجع في ذلك الأصلين 5 و6 من الباب الرابع من هذه الخلاصة.
- صفات شرار البشر المستحقين لجهنم وهم الذين أهملوا استعمال عقولهم وحواسهم فيما خلقت لأجله من اقتباس العلم والحكمة- وذلك نص الآية 179 وذكرت في أصل الجزاء في الآخرة (وهو الحادي عشر من الباب الثالث) وفي تعظيم شأن النظر والتفكر لتحصيل العلم (وهو الأصل الثالث من الباب الرابع).
- آياته تعالى ونعمه على بني إسرائيل وتراجع في قصة موسى معهم.
الباب السادس في سنن الله تعالى في الاجتماع والعمران البشري وفيه 7 أصول؛
- إهلاك الله الأمم بظلمها لنفسها ولغيرها كما في الآيتين 3 و4 ومصداقه في خلق آدم الذي هو عنوان البشرية، وجعله تعالى المعصية بالأكل من الشجرة ظلما للنفس في الآية 19، واعتراف آدم وحواء في دعاء توبتهما بذلك في قولهما {ربنا ظلمنا أنفسنا}، وبأن شأن المعصية من الأفراد أن تغفر بالتوبة فيعفى عن عقابها وهو خسران النفس كما في قولهما {وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}، وأما خسارة الأمم فهي إضاعة استقلالها وسلطان أمة أخرى عليها تستذلها. وجملة ذلك أن العقوبة أثر طبيعي لازم للعمل وأن ذنوب الأمم لابد من العقاب عليها في الدنيا قبل الآخرة، وأما ظلم الأفراد وعقابهم عليه في الآخرة فيراجع في الأصل 4 من الباب الثالث.
- بيان أن للأمم آجالا لا تتقدم ولا تتأخر عن أسبابها التي اقتضتها السنن الإلهية العامة، وهو نص الآية 34 وكونها إذا كانت جاهلة بهذه السنن تؤخذ بغتة وعلى غفلة ليلا أو نهارا كما يؤخذ من الآيات 94- 100 وهذه الآيات وردت في عقاب الأمم التي عاندت الرسل وكان عقابها وضعيا لا اجتماعيا- وقد سبق لنا في هذا التفسير أن العقاب الإلهي للأفراد وللأمم نوعان أحدهما: العقاب بما توعد تعالى به على مخالفة رسله ومعاندتهم، وهو من قبيل عقاب الحكام لرعاياهم على مخالفة شرائع أمتهم وقوانينها ونظمها، وثانيهما: العقاب الذي هو أثر طبيعي للجرائم، وهو من قبيل ما يعاقب به المريض على مخالفة أمر طبيبه في معالجته له من الحمية والاقتصار على كذا من الغذاء والتزام كذا من الدواء. (راجع ج7 تفسير).
- ابتلاء الله الأمم بالبأساء والضراء تارة وبضدها من الرخاء والنعماء تارة أخرى، فإما أن تعتبر بذلك فيكون تربية لها وإما أن تغبى وتغفل فيكون مهلكة لها كما في الآيات 94 وما بعدها مما تقدم الكلام عليه في السنة الثانية من وجه آخر.
- بيان أن الإيمان بما دعا الله إليه والتقوى في العمل بشرعه فعلا وتركا سبب اجتماعي طبيعي لسعة بركات السماء والأرض وخيراتها على الأمة كما في قوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} [الأعراف: 96] وهو موافق لآيات أخرى في سور أخرى [منها] الآية 52 من سورة هود [11] والآيات 123- 127 من سياق بيان سننه تعالى في النشأة البشرية من سورة طه ومثله في الآيات 10- 12 من سورة نوح والآيتين 16 و17 من سورة الجن بعدها وغيرها، وقد بينا وجه ذلك في التفسير والمنار ومنه تحقيق معنى التقوى واختلافها باختلاف مواضعها من أمور الدين والدنيا في مقالة عنوانها (عاقبة الحرب المدنية) نشرت في (ج7 م21 من المنار).
- استدراجه تعالى للمكذبين والمجرمين وإملاؤه لهم كما في الآيتين 182 و183 وهو في معنى ما سبقه من سنة أخذ الله للأمم بذنوبها ومن سنة ابتلائها بالحسنات والسيئات، فإن من لا يعتبر بذلك ولا يتربى يصر على ذنبه ولا يرجع عنه وذنوب الأمم لابد من العقاب عليها- راجع تفسير الآيتين في ج9 ففيه بيان هذه السنة موضحا.
- سنة الله في إرث الأرض واستخلاف الأمم فيها والاستيلاء والسيادة على الأمم والشعوب. فقد بين الله تعالى لنا في قصة موسى مع قومه أن وطأة فرعون وقومه اشتدت على بني إسرائيل وصرح بوجوب الاستمرار على تقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم لأجل أن تنقرض الأمة بعد استذلال من يبقى من النساء إلى أن ينقرض الرجال وما ازدادوا إلا إذلالاً وخنوعاً- وهم مئات الألوف- كما هو شأن الشعوب الجاهلة المستضعفة ولكن الله تعالى أمر رسوله موسى أن يمتلخ ذلك اليأس من قلوبهم بقوة الإيمان بما حكاه عنه بقوله: {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} [الأعراف: 128] أي بين لهم أن الأرض ليست رهن تصرف الملوك والدول بقدرتهم الذاتية فتدوم لهم وإنما هي لله، وله سبحانه وتعالى سنة في سلبها من قوم وجعلها إرثا لقوم آخرين بمحض مشيئته وسلطانه، ومدار هذه السنة على أن العاقبة في التنازع بين الأمم على الأرض التي تعيش فيها أو تستعمرها للمتقين، أي الذين يتقون أسباب الضعف والخذلان والهلاك كاليأس من روح الله والتخاذل والتنازع والفساد في الأرض والظلم والفسق، ويتلبسون بضدها وبسائر ما تقوى به الأمم من الأخلاق والأعمال، وأعلاها الاستعانة بالله الذي بيده ملكوت كل شيء والصبر على المكاره مهما عظمت، وهذان الأمران هما أعظم ما تتفاضل به الأمم من القوى المعنوية باتفاق الملاحدة والمليين من علماء الاجتماع وقواد الحروب. وقد تكررت هذه القاعدة في القرآن الحكيم وفي معناها قوله تعالى من سورة الأنبياء: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: 105] وإنما الصالحون هم الذين يصلحون لإقامة الحق والعدل وسائر شرائع الله وسننه في العمران، وهي بمعنى ما يسميه علماء الاجتماع "بقاء الأصلح أو الأمثل في كل تنازع "ويدل عليه المثل المشهور في سورة الرعد {أنزل من السماء ماء} إلى قوله {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} [الرعد: 17]. ومن العجيب أن ترى بعض الشعوب الإسلامية المستضعفة في هذا العصر بسيادة الأجانب عليها يائسة من استقلالها وعزتها بل من حياتها الملية والقومية بما ترى من خفة موازينها ورجحان موازين السائدين عليها في القوى المادية والآلية واستذلال هؤلاء السائدين عليها لها، جهلا منها بسنة الله تعالى التي بينها في هذه الآية وغفلتها عن كون رجحان قوى فرعون وقومه على بني إسرائيل وقهره لهم كانا فوق رجحان قوى سائديها عليها وقهرهم إياها، وفي هذا العصر من العبر التاريخية بسقوط بعض الدول القوية ما لا يقل عن العبرة بأحداث التاريخ القديم. ثم بين لنا تعالى في الآية التالية لتلك الآية 129 أن موسى عليه السلام شكا له قومه إيذاء فرعون وقومه لهم قبل مجيئه وبعده على سواء لهم ما عنده من الرجاء بإهلاك ربهم لعدوهم واستخلافهم في الأرض الموعودين بها ليختبرهم فينظر كيف يعملون، ويكون ثابت ملكهم وسلطانهم على حسب عملهم الذي تصلح به الأرض وأهلها أو تفسد. وهو ما فصله تعالى لنا بعد ذلك في آيات أخرى منها في إفسادهم قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض} [الإسراء: 4] إلى تتمة الآية الثامنة. ثم بين لنا تعالى في الآية 137 من هذا السياق أنه أورثهم الأرض المباركة وتمت كلمته الحسنى إليهم {بما صبروا} أي لا بمجرد آيات الله لموسى وما أيده به، فعلم منه بالفعل أن الأمة المستضعفة مهما يكن عدوها الظالم لها قويا فليس لها أن تيأس من الحياة. وهو تحقيق لرجاء موسى هنا ولوعد الله إياه بذلك صريحا في قوله من سورة القصص {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين* ونمكن لهم في الأرض} [القصص: 5] الآية. ترى شعوب المسلمين يجهلون هذه السنن الإلهية وما ضاع ملكهم وعزهم إلا بجهلها الذي كان سببا لعدم الاهتداء بها في العمل، وما كان سبب هذا الجهل إلا الإعراض عن القرآن ودعوى الاستغناء عن هدايته بما كتبه لهم المتكلمون من كتب العقائد المبنية على القواعد الكلامية المبتدعة وما كتبه الفقهاء من أحكام العبادات والمعاملات المدنية والعقوبات والحرب وما يتعلق بها، وهذه السورة الجليلة القدر والفوائد (الأعراف) خالية من هذه الأحكام كلها، ومن نظريات المتكلمين في العقائد وتقريرهم لها، وكذلك غيرها من السور المكية. فهل أنزل الله تعالى هذه السور كلها للتعبد بتجويد ألفاظها بدون فهم، أو لاتخاذها رقى وتمائم، وكسبا لقراء المآتم؟ وأعجب من هذا كله أن الجهل بلغ بهم بعد ذلك أن ظهر فيهم فريق خصم لهذا الفريق المقلد المحافظ على كتب القرون الوسطى دون هدي السلف، خصم يقول إن دين الإسلام هو السبب في جهل المسلمين وضعفهم ولا حياة لنا إلا باقتباس علم الاجتماع وسنن العمران من الأمم غير الإسلامية التي سادتنا بهذه العلوم وما يؤيدها من الفنون والصناعات، وهؤلاء أجهل بالإسلام من أولئك، فكتاب الإسلام هو المرشد الأول لسنن الاجتماع والعمران، ولكن المسلمين قصروا في طور حياتهم العلمية عن تفصيل ذلك بالتدوين لعدم شعورهم بالحاجة إليه، وكان حقهم في هذا العصر أن يكونوا أوسع الناس به علما لأن كتاب الله مؤيد للحاجة بل الضرورة التي تدعو إليه.
- إن سنة الله في الأمم التي ترث الأرض من بعد أهلها الأصلاء هي سنته تعالى في أهلها، فإذا كان هؤلاء قد غلبوا عليها بسبب ظلمهم وفسادهم وجهلهم وعمى قلبهم، فكذلك يكون شأن الوارثين لها من بعدهم إذا صاروا مثلهم في ذلك، وذلك قوله تعالى: {أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون} [الأعراف: 100] وكنا نرى الذين ورثوا ممالك المسلمين متعظين بمعنى هذه الآية من بعض الوجوه فهم على كثرة ذنوبهم بالظلم وإفساد العقائد والأخلاق وسلب الأموال يتحرون أن يكون ظلمهم دون ظلم حكام أهل البلاد الذين أضاعوها، وعقولهم تبحث دائما في الأسباب التي يخشى أن تكون سببا لسلبها منهم لأجل اتقائها، وآذانهم مرهفة مصيخة لاستماع كل خبر يتعلق بأمرها وأمر أهلها وشؤون الطامعين فيها حذرا منهم أن يسلبوهم إياها. وقد قلنا في تفسير هذه الآية: قد كان ينبغي للمسلمين وهذا كتابهم من عند الله عز وجل أن يتقوه تعالى باتقاء كل ما قصه عليهم من ذنوب الأمم التي هلك بها من كان قبلهم، وزال ملكهم، ودالت بسببها الدولة لأعدائهم- الخ ما تراه في ج9. هذا ما فتح الله به علينا من أصول وأمهات هداية هذه السورة الجليلة بمراجعتها المرة بعد المرة مرورا على الآيات بالنظر، ولو أعدنا قراءتها مع قراءة تفسيرها بالتدبر لظهر لنا أكثر من ذلك، وإنما أردنا التلخيص. ونسأله تعالى أن يجعلها هي وسائر كتابه المجيد حجة لنا لا علينا، ويوفق أمتنا للرجوع إلى الاهتداء به بالتوبة إليه كما تاب أبوهم وأمهم عليهما السلام. تنبيه قد وقع خطأ في عدد آيات هذه السورة بالنسبة إلى عدد المصحف الجديد الذي طبعته الحكومة المصرية والفرق بينهما آية واحدة من أول السورة إذ عدت فيه (المص) آية ولم نعدها آية- ثم وافقنا عدده من الآية 167 إلى آخر السورة. وقد اعتمدنا في شواهد خلاصة السورة على عدد المصحف لا التفسير لأننا استنبطناها من مراجعة المصحف نفسه غالبا فليعلم هذا ويتذكر عنه مراجعة شواهد التفسير...