مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيُسَبِّحُونَهُۥ وَلَهُۥ يَسۡجُدُونَۤ۩} (206)

قوله تعالى : { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : لما رغب الله رسوله في الذكر وفي المواظبة عليه ذكر عقيبه ما يقوي دواعيه في ذلك فقال : { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته } والمعنى : أن الملائكة مع نهاية شرفهم وغاية طهارتهم وعصمتهم وبراءتهم عن بواعث الشهوة والغضب ، وحوادث الحقد والحسد ، لما كانوا مواظبين على العبودية والسجود والخضوع والخشوع ، فالإنسان مع كونه مبتلى بظلمات عالم الجسمانيات ومستعدا للذات البشرية والبواعث الإنسانية أولى بالمواظبة على الطاعة ، ولهذا السبب قال عيسى عليه السلام : { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا } وقال لمحمد عليه السلام : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } .

المسألة الثانية : المشبهة تمسكوا بقوله : { إن الذين عند ربك } وقالوا لفظ { عند } مشعر بالمكان والجهة .

وجوابه أنا ذكرنا البراهين الكثيرة العقلية والنقلية في هذه السورة عند تفسير قوله : { ثم استوى على العرش } على أنه يمتنع كونه تعالى حاصلا في المكان والجهة .

وإذا ثبت هذا فنقول : وجب المصير إلى التأويل في هذه الآية وبيانه من وجوه :

الوجه الأول : أنه تعالى قال : { وهو معكم } ولا شك أن هذه المعية بالفضل والرحمة لا بالجهة فكذا ههنا ، وأيضا جاء في الأخبار الربانية أنه تعالى قال : «أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي » ولا خلاف أن هذه العندية ليست لأجل المكان والجهة ، فكذا هنا .

والوجه الثاني : إن المراد القرب بالشرف . يقال : للوزير قربة عظيمة من الأمير ، وليس المراد منه القرب بالجهة ، لأن البواب والفراش يكون أقرب إلى الملك في الجهة والحيز والمكان من الوزير ، فعلمنا أن القرب المعتبر هو القرب بالشرف لا القرب بالجهة .

والوجه الثالث : أن هذا تشريف للملائكة بإضافتهم إلى الله من حيث إنه أسكنهم في المكان الذي كرمه وشرفه وجعله منزل الأنوار ومصعد الأرواح والطاعات والكرامات .

والوجه الرابع : إنما قال تعالى في صفة الملائكة : { الذين عند ربك } لأنهم رسل الله إلى الخلق كما يقال : إن عند الخليفة جيشا عظيما ، وإن كانوا متفرقين في البلد ، فكذا ههنا والله أعلم .

المسألة الثانية : تمسك أبو بكر الأصم رحمه الله بهذه الآية في إثبات أن الملائكة أفضل من البشر ، لأنه تعالى لما أمر رسوله بالعبادة والذكر قال : { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته } والمعنى : فأنت أولى وأحق بالعبادة ، وهذا الكلام إنما يصح لو كانت الملائكة أفضل منه .

المسألة الرابعة : ذكر من طاعاتهم أولا كونهم يسبحون ، وقد عرفت أن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى من كل سوء ، وذلك يرجع إلى المعارف والعلوم ، ثم لما ذكر التسبيح أردفه بذكر السجود ، وذلك يرجع إلى أعمال الجوارح ، وهذا الترتيب يدل على أن الأصل في الطاعة والعبودية أعمال القلوب ، ويتفرع عليها أعمال الجوارح . وأيضا قوله : { وله يسجدون } يفيد الحصر ومعناه : أنهم لا يسجدون لغير الله .

فإن قيل : فكيف الجمع بينه وبين قوله تعالى : { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } والمراد أنهم سجدوا لآدم ؟

والجواب : قال الشيخ الغزالي : الذين سجدوا لآدم ملائكة الأرض . فأما عظماء ملائكة السموات فلا . وقيل أيضا : إن قوله : { وله يسجدون } يفيد أنهم ما سجدوا لغير الله ، فهذا يفيد العموم . وقوله : فسجدوا لآدم خاص ، والخاص مقدم على العام .

واعلم أن الآيات الدالة على كون الملائكة مستغرقين في العبودية كثيرة ، كقوله تعالى حكاية عنهم : { وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون } وقوله : { وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم } والله أعلم .

وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .