المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذَا لَمۡ تَأۡتِهِم بِـَٔايَةٖ قَالُواْ لَوۡلَا ٱجۡتَبَيۡتَهَاۚ قُلۡ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ مِن رَّبِّيۚ هَٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (203)

203- وإذا لم تأت الكفار بآية مما يطلبون عناداً وكفراً ، قالوا : هلا طلبتها ؟ قل لهم : ما أتَّبع إلا القرآن الذي يوحى إلى من ربى ، وقل لهم : هذا القرآن حُجج من ربكم تبصركم وجوه الحق ، وهو ذو هداية ورحمة للمؤمنين ، لأنهم العاملون به .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذَا لَمۡ تَأۡتِهِم بِـَٔايَةٖ قَالُواْ لَوۡلَا ٱجۡتَبَيۡتَهَاۚ قُلۡ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ مِن رَّبِّيۚ هَٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (203)

قوله تعالى : { وإذا لم تأتهم بآية } ، يعني : إذا لم تأت المشركين بآية .

قوله تعالى : { قالوا لولا اجتبيتها } ، هلا افتعلتها وأنشأتها من قبل نفسك واختيارك ؟ تقول العرب : اجتبيت الكلام إذا اختلقته . قال الكلبي : كان أهل مكة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الآيات تعنتاً فإذا تأخرت اتهموه وقالوا : لولا اجتبيتها ؟ أي : هلا أحدثتها وأنشأتها من عندك ؟

قوله تعالى : { قل } لهم يا محمد .

قوله تعالى : { إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي } ، ثم قال : { هذا } يعني : القرآن .

قوله تعالى : { بصائر } ، حجج وبيان وبرهان .

قوله تعالى : { من ربكم } ، واحدتها بصيرة ، وأصلها ظهور الشيء واستحكامه حتى يبصره الإنسان ، فيهتدي به ، يقول : هذا دلائل تقودكم إلى الحق .

قوله تعالى : { وهدىً ورحمة لقوم يؤمنون } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذَا لَمۡ تَأۡتِهِم بِـَٔايَةٖ قَالُواْ لَوۡلَا ٱجۡتَبَيۡتَهَاۚ قُلۡ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ مِن رَّبِّيۚ هَٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (203)

203 وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .

أي لا يزال هؤلاء المكذبون لك في تعنت وعناد ، ولو جاءتهم الآيات الدالة على الهدى والرشاد ، فإذا جئتهم بشيء من الآيات الدالة على صدقك لم ينقادوا .

وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ من آيات الاقتراح التي يعينونها قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا أي : هلا اخترت الآية ، فصارت الآية الفلانية ، أو المعجزة الفلانية كأنك أنت المنزل للآيات ، المدبر لجميع المخلوقات ، ولم يعلموا أنه ليس لك من الأمر شيء ، أو أن المعنى : لولا اخترعتها من نفسك .

قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي فأنا عبد متبع مدبَّر ، واللّه تعالى هو الذي ينزل الآيات ويرسلها على حسب ما اقتضاه حمده ، وطلبتْه حكمته البالغة ، فإن أردتم آية لا تضمحل على تعاقب الأوقات ، وحجة لا تبطل في جميع الآنات ، ف هَذَا القرآن العظيم ، والذكر الحكيم بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ يستبصر به في جميع المطالب الإلهية والمقاصد الإنسانية ، وهو الدليل والمدلول فمن تفكر فيه وتدبره ، علم أنه تنزيل من حكيم حميد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وبه قامت الحجة على كل من بلغه ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ، وإلا فمن آمن ، فهو هُدًى له من الضلال وَرَحْمَةٌ له من الشقاء ، فالمؤمن مهتد بالقرآن ، متبع له ، سعيد في دنياه وأخراه .

وأما من لم يؤمن به ، فإنه ضال شقي ، في الدنيا والآخرة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا لَمۡ تَأۡتِهِم بِـَٔايَةٖ قَالُواْ لَوۡلَا ٱجۡتَبَيۡتَهَاۚ قُلۡ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ مِن رَّبِّيۚ هَٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (203)

ثم بين - سبحانه - لونا من ألوان غوايتهم وضلالهم فقال : { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ . . . } .

الاجتباء : افتعال من الجباية بمعنى الجمع ، يقال : جبيت الماء في الحوض أى جمعته ، ومنه قيل للحوض جابية .

والمعنى : وإذا لم تأت أيها الرسول هؤلاء المشركين بآية من القرآن وتراخى الوحى بنزولها ، أو بآية مما اقترحوه عليك من الآيات الكونية ، إذا لم تفعل ذلك قالوا لك بجهالة وسفاهة { لَوْلاَ اجتبيتها } أى : هلا جمعتها من عند نفسك واخترعتها اختراعا بعقلك ، أو هلا ألححت في الطلب على ربك ليعطيك إياها ويجمعها لك .

قل لهم يا محمد على سبيل التبكيت رداً على تهكمهم بك { إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي } أى إنما أنا متبع لا مبتدع فما يوحيه الله إلى من الآيات أنا أبلغه إليكم بدون تغيير أو تبديل .

ثم أرشدهم - سبحانه - إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات ، وأبين الدلالات وأصدق الحجج والبينات فقال : { هذا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .

أى : هذا القرآن بمنزلة البصائر للقلوب ، به تبصر الحق . وتدرك الصواب وهو هداية لكم من الضلالة ، ورحمة من العذاب لقوم يؤمنون به ، ويعملون بإرشاداته ووصاياه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذَا لَمۡ تَأۡتِهِم بِـَٔايَةٖ قَالُواْ لَوۡلَا ٱجۡتَبَيۡتَهَاۚ قُلۡ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ مِن رَّبِّيۚ هَٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (203)

199

ولقد كان المشركون لا يكفون عن طلب الخوارق من رسول الله [ ص ] والسياق هنا يحكي بعض أقوالهم الدالة على جهلهم بحقيقة الرسالة وطبيعة الرسول :

( وإذا لم تأتهم بآية قالوا : لولا اجتبيتها ! ) . .

أي . . لولا ألححت على ربك حتى ينزلها ! . . أو هلا فعلتها أنت من نفسك ؟ ألست نبياً ؟ ! . .

إنهم لم يكونوا يدركون طبيعة الرسول ووظيفته ؛ كذلك لم يكونوا يعرفون أدبه مع ربه ؛ وأنه يتلقى منه ما يعطيه ؛ ولا يقدم بين يدي ربه ولا يقترح عليه ؛ ولا يأتي كذلك الشيء من عند نفسه . . والله يأمره أن يبين لهم :

( قل : إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ) . .

فلا أقترح ، ولا أبتدع ، ولا أملك إلا ما يوحيه إلي ربي . ولا آتي إلا ما يأمرني به . .

لقد كانت الصورة الزائفة للمتنبئين في الجاهليات تتراءى لهم ، ولم يكن لهم فقه ولا معرفة بحقيقة الرسالة وطبيعة الرسول :

كذلك يؤمر رسول الله [ ص ] أن يبين لهم ما في هذا القرآن الذي جاءهم به ، وحقيقته التي يغفلون عنها ، ويطلبون الخوارق المادية ، وأمامهم هذا الهدى الذي يغفلون عنه :

( هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) . .

إنه هذا القرآن . . بصائر تهدي ، ورحمة تفيض . . لمن يؤمن به ، ويغتنم هذا الخير العميم . .

إنه هذا القرآن الذي كان الجاهلون من العرب - في جاهليتهم - يعرضون عنه ، ويطلبون خارقة من الخوارق المادية مثل التي جرت على أيدي الرسل من قبل ، في طفولة البشرية ، وفي الرسالات المحلية غير العالمية ، والتي لا تصلح إلا لزمانها ومكانها ، ولا تواجه إلا الذين يشاهدونها ، فكيف بمن بعدهم من الأجيال ، وكيف بمن وراءهم من الأقوام الذين لم يروا هذه الخارقة !

إنه هذا القرآن الذي لا تبلغ خارقة مادية من الإعجاز ما يبلغه . . من أي جانب من الجوانب شاء الناس المعجزة في أي زمان وفي أي مكان . . لا يستثنى من ذلك من كان من الناس ومن يكون إلى آخر الزمان !

فهذا جانبه التعبيري . . ولعله كان بالقياس إلى العرب في جاهليتهم أظهر جوانبه - بالنسبة لما كانوا يحفلون به من الأداء البياني ، ويتفاخرون به في أسواقهم ! - ها هو ذا كان وما يزال إلى اليوم معجزاً لا يتطاول إليه أحد من البشر . تحداهم الله به وما يزال هذا التحدي قائماً . والذين يزاولون فن التعبير من البشر ، ويدركون مدى الطاقة البشرية فيه ، هم أعرف الناس بأن هذا الأداء القرآني معجز معجز . . سواء كانوا يؤمنون بهذا الدين عقيدة أو لا يؤمنون . . فالتحدي في هذا الجانب قائم على أسس موضوعية يستوي أمامها المؤمنون والجاحدون . . وكما كان كبراء قريش يجدون من هذا القرآن - في جاهليتهم - ما لا قبل لهم بدفعه عن أنفسهم - وهم جاحدون كارهون - كذلك يجد اليوم وغداً كل جاهلي جاحد كاره ما وجد الجاهليون الأولون !

ويبقى وراء ذلك السر المعجز في هذا الكتاب الفريد . . يبقى ذلك السلطان الذي له على الفطرة - متى خلي بينها وبينه لحظة ! - وحتى الذين رانت على قلوبهم الحجب ، وثقل فوقها الركام ، تنتفض قلوبهم أحياناً ؛ وتتململ قلوبهم أحياناً تحت وطأة هذا السلطان ؛ وهم يستمعون إلى هذا القرآن !

إن الذين يقولون كثيرون . . وقد يقولون كلاماً يحتوي مبادئ ومذاهب وأفكاراً واتجاهات . . ولكن هذا القرآن يتفرد في إيقاعاته على فطرة البشر وقلوبهم فيما يقول ! إنه قاهر غلاب بذلك السلطان الغلاب ! . . ولقد كان كبراء قريش يقولون لأتباعهم الذين يستخفونهم - ويقولون لأنفسهم في الحقيقة - : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) . . لما كانوا يجدونه هم في نفوسهم من مس هذا القرآن وإيقاعه الذي لا يقاوم ! وما يزال كبراء اليوم يحاولون أن يصرفوا القلوب عن هذا القرآن بما ينزلونه لهم من مكاتيب ! غير أن هذا القرآن يظل - مع ذلك كله - غلاباً . . وما إن تعرض الآية منه أو الآيات في ثنايا قول البشر ، حتى تتميز وتنفرد بإيقاعها ، وتستولي على الحس الداخلي للسامعين ، وتنحي ما عداها من قول البشر المحير الذي تعب فيه القائلون !

ثم يبقى وراء ذلك مادة هذا القرآن وموضوعه . . وما تتسع صفحات عابرة - في ظلال القرآن - للحديث عن مادة هذا القرآن وموضوعه . . فالقول لا ينتهي والمجال لا يحد !

وماذا الذي يمكن أن يقال في صفحات ؟ !

منهج هذا القرآن العجيب ، في مخاطبة الكينونة البشرية بحقائق الوجود . . وهو منهج يواجه هذه الكينونة بجملتها ، لا يدع جانباً واحداً منها لا يخاطبه في السياق الواحد ، ولا يدع نافذة واحدة من نوافذها لا يدخل منها إليها ؛ ولا يدع خاطراً فيها لا يجاوبه ، ولا يدع هاتفاً فيها لا يلبيه !

منهج هذا القرآن العجيب ، وهو يتناول قضايا هذا الوجود ، فيكشف منها ما تتلقاه فطرة الإنسان وقلبهوعقله بالتسليم المطلق ، والتجاوب الحي ، والرؤية الواضحة . وما يطابق كذلك حاجات هذه الفطرة ، ويوقظ فيها طاقاتها المكنونة ، ويوجهها الوجهة الصحيحة .

منهج هذا القرآن العجيب ، وهو يأخذ بيد الفطرة الإنسانية خطوة خطوة ، ومرحلة مرحلة ؛ ويصعد بها - في هينة ورفق ، وفي حيوية كذلك وحرارة ، وفي وضوح وعلى بصيرة - درجات السلم في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة . . في المعرفة والرؤية ، وفي الانفعال والاستجابة ، وفي التكيف والاستقامة ، وفي اليقين والثقة ، وفي الراحة والطمأنينة . . إلى حقائق هذا الوجود الصغيرة والكبيرة . .

منهج هذا القرآن العجيب ، وهو يلمس الفطرة الإنسانية ، من حيث لا يحتسب أحد من البشر أن يكون هذا موضع لمسة ! أو أن يكون هذا وتر استجابة ! فإذا الفطرة تنتفض وتصوت وتستجيب . ذلك أن منزل هذا القرآن هو خالق هذا الإنسان الذي يعلم من خلق ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد !

ذلك المنهج ؟ . . أم المادة ذاتها التي يعرضها القرآن في هذا المنهج . . وهنا ذلك الانفساح الذي لا يبلغ منه القول شيئاً . . ( قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي ، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ، ولو جئنا بمثله مدداً ) . . ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) . .

إن الذي يكتب هذه الكلمات ، قضى - ولله الحمد والمنة - في الصحبة الواعية الدارسة لهذا الكتاب خمسة وعشرين عاماً . يجول في جنبات الحقائق الموضوعية لهذا الكتاب ؛ في شتى حقول المعرفة الإنسانية - ما طرقته معارف البشر وما لم تطرقه - ويقرأ في الوقت ذاته ما يحاوله البشر من بعض هذه الجوانب . . ويرى . . يرى ذلك الفيض الغامر المنفسح الواسع في هذا القرآن ؛ وإلى جانبه تلك البحيرات المنعزلة ، وتلك النقر الصغيرة . . وتلك المستنقعات الآسنة أيضاً !

في النظرة الكلية في هذا الوجود ، وطبيعته ، وحقيقته ، وجوانبه ، وأصله ، ونشأته ، وما وراءه من أسرار ؛ وما في كيانه من خبايا ومكنونات وما يضمه من أحياء وأشياء . . الموضوعات التي تطرق جوانب منها " فلسفة " البشر ! . .

في النظرة الكلية إلى " الإنسان " ونفسه ، وأصله ، ونشأته ، ومكنونات طاقاته ، ومجالات نشاطه ؛ وطبيعة تركيبه ، وانفعالاته ، واستجاباته ، وأحواله وأسراره . . الموضوعات التي تطرق جوانب منها علوم الحياة والنفس والتربية والاجتماع ! والعقائد والأديان . .

في النظرة إلى نظام الحياة الإنسانية ؛ وجوانب النشاط الواقعي فيها ؛ ومجالات الارتباط والاحتكاك ، والحاجات المتجددة وتنظيم هذه الحاجات . . الموضوعات التي تطرق جوانب منها النظريات والمذاهب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية . .

وفي كل حقل من هذه الحقول يجد الدارس الواعي لهذا القرآن وفرة من النصوص والتوجيهات يحار في كثرتها ووفرتها ! فوق ما في هذه الوفرة من أصالة وصدق وعمق وإحاطة ونفاسة !

إنني لم أجد نفسي مرة واحدة - في مواجهة هذه الموضوعات الأساسية - في حاجة إلى نص واحد من خارج هذا القرآن - فيما عدا قول رسول الله [ ص ] وهو من آثار هذه القرآن - بل إن اي قول آخر ليبدو هزيلاً - حتى لو كان صحيحاً - إلى جانب ما يجده الباحث في هذا الكتاب العجيب . .

إنها الممارسة الفعلية التي تنطق بهذه التقريرات ؛ والصحبة الطويلة في ظل حاجات الرؤية والبحث والنظر في هذه الموضوعات . . وما بي أن أثني على هذا الكتاب . . ومن أنا ومن هؤلاء البشر جميعاً ليضيفوا إلى كتاب الله شيئاً بما يملكون من هذا الثناء !

لقد كان هذا الكتاب هو مصدر المعرفة والتربية والتوجيه والتكوين الوحيد لجيل من البشر فريد . . جيل لم يتكرر بعد في تاريخ البشرية - لا من قبل ولا من بعد - جيل الصحابة الكرام الذين أحدثوا في تاريخ البشرية ذلك الحدث الهائل العميق الممتد ، الذي لم يدرس حق دراسته إلى الآن . .

لقد كان هذا المصدر هو الذي أنشأ - بمشيئة الله وقدره - هذه المعجزة المجسمة في عالم البشر . وهي المعجزة التي لا تطاولها جميع المعجزات والخوارق التي صحبت الرسالات جميعاً . . وهي معجزة واقعة مشهودة . . أن كان ذلك الجيل الفريد ظاهرة تاريخية فريدة . . .

ولقد كان المجتمع الذي تألف من ذلك الجيل أول مرة ، والذي ظل امتداده أكثر من ألف عام ، تحكمه الشريعة التي جاء بها هذا الكتاب ، ويقوم على قاعدة من قيمه وموازينه ، وتوجيهاته وإيحاءاته . . كان هذا المجتمع معجزة أخرى في تاريخ البشرية . حين تقارن إليه صور المجتمعات البشرية الأخرى ، التي تفوقه في الإمكانيات المادية - بحكم نمو التجربة البشرية في عالم المادة - ولكنها لا تطاوله في " الحضارة الإنسانية " !

إن الناس اليوم - في الجاهلية الحديثة ! - يطلبون حاجات نفوسهم ومجتمعاتهم وحياتهم خارج هذا القرآن ! كما كان الناس في الجاهلية العربية يطلبون خوارق غير هذا القرآن ! . . فأما هؤلاء فقد كانت تحول جاهليتهم الساذجة ، وجهالتهم العميقة - كما تحول أهواؤهم ومصالحهم الذاتية كذلك - دون رؤية الخارقة الكونية الهائلة في هذا الكتاب العجيب ! . . فأما أهل الجاهلية الحاضرة ، فيحول بينهم وبين هذا القرآن غرور " العلم البشري " الذي فتحه الله عليهم في عالم المادة . وغرور التنظيمات والتشكيلات المعقدة بتعقيد الحياة البشرية اليوم ؛ ونموها ونضجها من ناحية التنظيم والتشكيل . وهو أمر طبيعي مع امتداد الحياة وتراكم التجارب ، وتجدد الحاجات ، وتعقدها كذلك ! كما يحول بينهم وبين هذا القرآن كيد أربعة عشر قرناً من الحقد اليهودي والصليبي ؛ الذي لم يكف لحظة واحدة عن حرب هذا الدين وكتابه القويم ؛ وعن محاولة إلهاء أهله عنه ؛ وإبعادهم عن توجيهه المباشر . بعدما علم اليهود والصليبيون من تجاربهم الطويلة : أن لا طاقة لهم بأهل هذا الدين ، ما ظلوا عاكفين على هذا الكتاب ، عكوف الجيل الأول ، لا عكوف التغني بآياته وحياتهم كلها بعيدة عن توجيهاته ! . . هو كيد مطرد مصرّ لئيم خبيث . . ثمرته النهائية هذه الأوضاع التي يعيش فيها الناس الذين يسمون اليوم بالمسلمين - وما هم بالمسلمين ما لم يحكموا في حياتهم شريعة هذا الدين ! - وهذه المحاولات الأخرى في كل مكان للتعفية على آثار هذا الدين ؛ ولتدارس قرآن غير قرآنه ؛ يرجع إليه في تنظيم الحياة كلها ، ويرد إليه كل اختلاف ، وكل نزاع في التشريع والتقنين لهذه الحياة ؛ كما كان المسلمون يرجعون إلى كتاب الله في هذه الشؤون ! ! !

إنه هذا القرآن الذي يجهله أهله اليوم . لأنهم لا يعرفونه إلا تراتيل وترانيم وتعاويذ وتهاويم ! بعدما صرفتهم عنه قرون من الكيد اللئيم ، ومن الجهل المزري ، ومن التعاليم المغرورة ، ومن الفساد الشامل للفكر والقلب والواقع النكد الخبيث !

إنه هذا القرآن الذي كان الجاهليون القدامى يصرفون عنه الجماهير بطلب الخوارق المادية . والذي يصرف عنه الجاهليون المحدثون الجماهير بالقرآن الجديد الذي يفترونه ، وبشتى وسائل الإعلام والتوجيه ! إنه هذا القرآن الذي يقول عنه العليم الخبير :

( هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) . .

بصائر تكشف وتنير . وهدى يرشد ويهدي . ورحمة تغمر وتفيض . . ( لقوم يؤمنون )فهم الذين يجدون هذا كله في هذا القرآن الكريم . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَا لَمۡ تَأۡتِهِم بِـَٔايَةٖ قَالُواْ لَوۡلَا ٱجۡتَبَيۡتَهَاۚ قُلۡ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ مِن رَّبِّيۚ هَٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (203)

وقوله { وإذا لم تأتهم بآية } سببها فيما روي أن الوحي كان يتأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً ، فكان الكفار يقولون هلا اجتبيتها ، ومعنى اللفظة في كلام العرب تخيرتها واصطفيتها ، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن زيد وغيرهم : المراد بهذه اللفظة هلا اخترتها واختلقتها من قبلك ومن عند نفسك ، والمعنى إذ كلامك كله كذلك على ما كانت قريش تزعمه ، وقال ابن عباس أيضاً والضحاك : المراد هلا تلقيتها من الله وتخيرتها عليه ، إذ تزعم أنك نبي وأن منزلتك عنده منزلة الرسالة ، فأمره الله عز وجل أن يجيب بالتسليم لله تعالى وأن الأمر في الوحي إليه ينزله متى شاء لا معقب لحكمه في ذلك فقال { قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي } ثم أشار بقوله هذا إلى القرآن ، ثم وصفه بأنه { بصائر } أي علامات هدى وأنوار تضيء القلوب ، وقالت فرقة : المعنى ذو بصائر ، ويصح الكلام دون أن يقدر حذف مضاف لأن المشار إليه بهذا إنما هو سور وآيات وحكم ، وجازت الإشارة إليه بهذا من حيث اسمه مذكر ، وجاز وصفه ب { بصائر } من حيث هو سور وآيات ، { وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } أي لهؤلاء خاصة ، قال الطبري : وأما من لا يؤمن فهو عليه عمى عقوبة من الله تعالى .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا لَمۡ تَأۡتِهِم بِـَٔايَةٖ قَالُواْ لَوۡلَا ٱجۡتَبَيۡتَهَاۚ قُلۡ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ مِن رَّبِّيۚ هَٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (203)

معطوفة على جملة : { وأعرض عن الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] والمناسبة أن مقالتهم هذه من جهالتهم والآية يجوز أن يراد بها خارق العادة أي هم لا يقنعون بمعجزة القرآن فيسألون آيات كما يشاءون مثل قولهم ( فجر لنا من الأرض ينبوعاً ) وهذا المعنى هو الذي شرحناه عند قوله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمنن بها } في سورة الأنعام ( 109 ) . وروي هذا المعنى عن مجاهد ، والسُدي ، والكُلبي ويجوز أن يراد بآية ءاية من القرآن يقترحون فيها مدحاً لهُم ولأصنامهم ، كما قال الله عنهم : { قال الذين لا يرجون لقاءنا ائْتِ بقرآن غير هذا أو بَدلْه } [ يونس : 15 ] روي عن جابر بن زيد وقتادة : كان المشركون إذا تأخر الوحي يقولون للنبيء هلا أتيت بقرآن من عندك يريدون التهكم .

و { لولا } حرف تحْضيض مثل ( هلا ) .

والاجتباء الاختيار ، والمعنى : هلاّ اخترت آية وسألت ربك أن يعطيكها ، أي هلا أتيتنا بما سألناك غير آية القرآن فيجيبك الله إلى ما اجتبيتَ ، ومقصدهم من ذلك نصب الدليل على أنه بخلاف ما يقول لهم إنه رسول الله ، وهذا من الضلال الذي يعتري أهل العقول السخيفة في فهم الأشياء على خلاف حقائقها وبحسب من يتخيلون لها ويفرضون .

والجواب الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيب به وهو قوله : { قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي } صالح للمعنيين ، فالاتباع مستعمل في معنى الاقتصار والوقوف عند الحد ، أي لا أطلب آية غير ما أوحى الله إلي ، ويعضد هذا ما في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « مَا من الأنبياء إلا أوتي من الآيات مَا مثلُه آمنَ عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة » ويكون المعنى : إنما انتظر ما يوحى إلى ولا أستعجل نزول القرآن إذا تأخر نزوله فيكون الاتباع متعلقاً بالزمان .

مستأنفة لابتداء كلام في التنويه بشأن القرآن منقطعه عن المقول للانتقال من غرض إلى غرض بمنزلة التذييل لمجموع أغراض السورة ، والخطاب للمسلمين .

ويجوز أن تكون من تمام القول المأمور بأن يجيبهم به ، فيكون الخطاب للمشركين ثم وقع التخلص لذكر المؤمنين بقوله : { وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } .

والإشارة ب { بهذا بصائر } إلى القرآن ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من السورة أو من المحاجة الأخيرة منها ، وإفراد اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالمذكور .

والبصائر جمع بصيرة وهي ما به اتضاح الحق وقد تقدم عند قوله تعالى : { قد جاءكم بصائر من ربكم } في سورة الأنعام ( 104 ) ، وهذا تنويه بشأن القرآن وأنه خير من الآيات التي يسألونها ، لأنه يجمع بين الدلالة على صدق الرسول بواسطة دلالة الإعجاز وصدوره عن الأمي ، وبين الهداية والتعليم والإرشاد ، والبقاء على العصور .

وإنما جمع « البصائر » لأن القرآن أنواعاً من الهدى على حسب النواحي التي يهدي إليها ، من تنوير العقل في إصلاح الاعتقاد ، وتسديد الفهم في الدين ، ووضع القوانين للمعاملات والمعاشرة بين الناس ، والدلالة على طرق النجاح والنجاة في الدنيا ، والتحذير من مهاوي الخسران .

وأفرد الهدى والرحمة ؛ لأنهما جنسان عامان يشملان أنواع البصائِر فالهدى يقارن البصائِر والرحمة غاية للبصائر ، والمراد بالرحمة ما يشمل رحمة الدنيا وهي استقامة أحوال الجماعة وانتظام المدنية ورحمة الآخرة وهي الفوز بالنعيم الدائم كقوله تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فنلحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون } [ النحل : 97 ] .

وقولُه : { من ربكم } ترغيب للمؤمنين وتخويف للكافرين .

و { لقوم يؤمنون } يتنازعه ( بصائر ) و ( هدى ) و ( رحمة ) لأنه إما ينتفع به المؤمنون ، فالمعنى هذا بصائر لكم وللمؤمنين ، و { هدى ورحمة لقوم يؤمنون } خاصة إذ لم يهتدوا ، وهو تعريض بأن غير المؤمنين ليسوا أهلاً للانتفاع به وأنهم لهواً عن هديه بطلب خوارق العادات .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِذَا لَمۡ تَأۡتِهِم بِـَٔايَةٖ قَالُواْ لَوۡلَا ٱجۡتَبَيۡتَهَاۚ قُلۡ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ مِن رَّبِّيۚ هَٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (203)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وإذا لم تأت يا محمد هؤلاء المشركين بآية من الله "قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها "يقول: قالوا هلا اخترتها واصطفيتها...

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: هلا افتعلتها من قِبَل نفسك واختلقتها بمعنى: هلا اجتبيتها اختلاقا كما تقول العرب: لقد اختار فلان هذا الأمر وتخيره اختلاقا... عن مجاهد: "لَوْلا اجْتَبَيْتَها" قالوا: لولا اقتضبتها قالوا: تخرجها من نفسك... قال ابن زيد:... لولا تقوّلتها...

عن ابن عباس...: لولا أحدثتها فأنشأتها.

وقال آخرون: معنى ذلك: هلا أخذتها من ربك وتقبلتها منه... [عن] الضحاك:.. لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء.

وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويل من قال تأويله: هلا أحدثتها من نفسك لدلالة قول الله: "قُلْ إنّمَا أتّبِعُ ما يُوحَى إليّ مِنْ رَبّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبّكُمْ" يبين ذلك أن الله إنما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم بالخبر عن نفسه أنه إنما يتبع ما ينزل عليه ربه ويوحيه إليه، لا أنه يحدث من قِبَل نفسه قولاً وينشئه فيدعو الناس إليه...

"قُلْ إنّمَا أتّبِعُ ما يُوحَى إليّ مِنْ رَبّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبّكُم وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يِؤْمِنُونَ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للقائلين لك إذا لم تأتهم بآية هلاّ أحدثتها من قِبَل نفسك: إن ذلك ليس لي ولا يجوز لي فعله لأن الله إنما أمرني باتباع ما يوحى إليّ من عنده، فإنما أتبع ما يوحى إليّ من ربي لأني عبده وإلى أمره أنتهي وإياه أطيع.

"هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبّكُمْ" يقول: هذا القرآن والوحي الذي أتلوه عليكم بصائر من ربكم، يقول: حجج عليكم، وبيان لكم من ربكم، واحدتها: بصيرة، كما قال جلّ ثناؤه: "هَذَا بَصَائِرُ للنّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ". وإنما ذكر هذا ووحّد في قوله: "هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبّكُمْ" لما وصفت من أنه مراد به القرآن والوحي. وقوله: "وَهُدًى" يقول: وبيان يهدي المؤمنين إلى الطريق المستقيم، "ورحمة" رحم الله به عباده المؤمنين، فأنقذهم به من الضلالة والهلكة. "لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" يقول: هو بصائر من الله وهدى ورحمة لمن آمن، يقول: لمن صدق بالقرآن أنه تنزيل الله ووحيه، وعمل بما فيه دون من كذب به وجحده وكفر به، بل هو على الذين لا يؤمنون به غمّ وخزي.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وقوله تعالى: {وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها} ظاهر الآية في سؤال أهل الكفر رسول الله الآية؛ إنهم كانوا إذا [أتاهم بآية] استهزؤوا بها، وتعنّتوا. وإذا لم يأتهم بها سألوه الآية سؤال المستهزئين المتعنّتين، وإذا لم يأتهم بها {قالوا لولا اجتبيتها} لولا ابتدعتها، وأحدثتها، وأنشأتها، وهلاّ أنبأتها من قبل نفسك؟ فقال تعالى: {قل إنما أتّبع ما يوحى إلي} أي لا أفتعلها، ولا أنشئها من نفسي {إنما أتّبع ما يوحى إلي}...

.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

قوله "هذا بصائر من ربكم "يعني هذا القرآن حجج وبراهين وأدلة من ربكم. والبصائر جمع بصيرة، وهي البراهين الواضحة والحجج النيرة... وإنما قال "هذا بصائر" لان المراد به القرآن، وقوله تعالى "وهدى" يعني بيان وحجة ورحمة لقوم يؤمنون، فأضافه إليهم لأنهم هم المنتفعون به، دون غيرهم من الكفار، وإن كان بيانا للكل...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

اجتبى الشيء، بمعنى جباه لنفسه: أي جمعه، كقولك: اجتمعه، أو جبي إليه فاجتباه: أي أخذه... ومعنى {لَوْلاَ اجتبيتها} هلا اجتمعتها، افتعالا من عند نفسك؛ لأنهم كانوا يقولون: {إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ} [سبأ: 43] أو هلا أخذتها منزّلة عليك مقترحة؟...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى: لما بين في الآية الأولى أن شياطين الجن والإنس لا يقصرون في الإغواء والإضلال، بيّن في هذه الآية نوعا من أنواع الإغواء والإضلال وهو أنهم كانوا يطلبون آيات معينة ومعجزات مخصوصة على سبيل التعنت كقوله: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا} ثم أعاد: أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأتيهم، فعند ذلك قالوا: {لولا اجتبيتها} ...

...

والمعنى: لولا تقولتها وافتعلتها وجئت بها من عند نفسك لأنهم كانوا يقولون: {إن هذا إلا إفك مفترى} أو يقال هلا اقترحتها على إلهك ومعبودك إن كنت صادقا في أن الله يقبل دعاءك ويجيب التماسك وعند هذا أمر رسوله أن يذكر الجواب الشافي، وهو قوله: {قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي} ومعناه ليس لي أن أقترح على ربي في أمر من الأمور، وإنما أنتظر الوحي فكل شيء أكرمني به قلته، وإلا فالواجب السكوت وترك الاقتراح، ثم بين أن عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحها لا يقدح في الغرض، لأن ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة باهرة، فإذا ظهرت هذه المعجزة الواحدة كانت كافية في تصحيح النبوة، فكان طلب الزيادة من باب التعنت، فذكر في وصف القرآن ألفاظا ثلاثة: أولها: قوله {هذا بصائر من ربكم} أصل البصيرة الإبصار، ولما كان القرآن سببا لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، أطلق عليه لفظ البصيرة، تسمية للسبب باسم المسبب.

وثانيها: قوله: {وهدى} والفرق بين هذه المرتبة وما قبلها أن الناس في معارف التوحيد والنبوة والمعاد قسمان: أحدهما: الذين بلغوا في هذه المعارف إلى حيث صاروا كالمشاهدين لها وهم أصحاب عين اليقين.

والثاني: الذين ما بلغوا إلى ذلك الحد إلا أنهم وصلوا إلى درجات المستدلين: وهم أصحاب علم اليقين، فالقرآن في حق الأولين وهم السابقون بصائر، وفي حق القسم الثاني وهم المقتصدون هدى، وفي حق عامة المؤمنين رحمة، ولما كانت الفرق الثلاث من المؤمنين لا جرم قال: {لقوم يؤمنون}.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

ومعنى قوله تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ} أي: معجزة، وخارق، كما قال تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: ألا تجهد نفسك في طلب الآيات [من الله] 7 حتى نراها ونؤمن بها، قال الله تعالى له: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} أي: أنا لا أتقدم إليه تعالى في شيء، وإنما أتبع ما أمرني به فأمتثل ما يوحيه إلي، فإن بعث آية قبلتها، وإن منعها لم أسأله ابتداء إياها؛ إلا أن يأذن لي في ذلك، فإنه حكيم عليم.

ثم أرشدهم إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات، وأبين الدلالات، وأصدق الحجج والبينات، فقال: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما تقرر ما شرعه من التعفف وعدم التنطع والتكلف، وكان قد أخبر أن من عنتهم تكلفهم السؤال عن الساعة، والشياطين لا يفترون عن إغوائهم، أخبره عن مطلق تكلفهم تعجباً منهم وإشهاداً لتماديهم مع إغواء شياطينهم، وأمره صلى الله عليه وسلم بما يجيبهم به فقال عاطفاً على {يمدونهم}: {وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا} أي هلا {اجتبيتها} والجبي: الجمع، والإجباء تركه، والاجتباء: الجد في الجمع، ويلزم منه الاصطفاء والاختيار، فمعنى اجتبيتها اجتلبتها، أي تكلفت من عند نفسك الإتيان بها مختارة. ولما كان المقام داعياً إلى السؤال في تعليم الجواب، أسعف ذلك بقوله: {قل} أي إذا قالوا ذلك {إنما أتبع} أي أتعمد وأتكلف اتباع {ما يوحي إليّ} أي يأتيني به الملك {من ربي} أي المحسن إليّ بتعليمي ما ينفعني، لا أني آتي بشيء من عند نفسي ولا أقترح على ربي. ولما حصر حاله في اتباع الوحي كان كأنه قيل: ما هذا الذي يوحي إليك؟ فقال...

: {هذا} مشيراً إلى ما يوحى إليه تنبيهاً على أنه يجب أن يكون مستحضراً في سائر الأذهان، حاضراً بين عيني كل إنسان {بصائر} أي أشياء هي- على حسب ما طلبتم -مجتباة، بل هي خيار الخيار، يكون بها نور القلب فيصير للعيون أيضاً بصر يقربه مما يحث الكتاب على نظره من الآيات المرئيات إلى علوم لم تكن لها قبل ذلك، وهي حجج بينة قاهرة على تصديقي و قبول كل ما جئت به، وسماه بذلك لأنه سبب لبصر العقول بدلائل التوحيد والنبوة والمعاد وجميع الشريعة أصولاً وفروعاً، فهو تسمية للسبب باسم المسبب، وعليّ مدحها بقولة: {من ربكم} أي الذي لم يقطع إحسانه عنكم أصلاً، فهو جدير بأن يتلقى ما أتى منه بكل جميل. ولما كانت البصائر جمعاً، وكانت العادة جارية بأن مفردات الجمع تكون متفاوتة، أكدها بما يشير إلى أنها خارقة للعادة في أنها على حد سواء في أعلى طبقات الهداية فقال: {وهدى} أي بيان؛ ولما كان البيان قد لا يكون على وجه الإكرام، قال: {ورحمة} أي إكرام. ولما كان من لا ينتفع بالشيء يصح أن ينفي عن الشيء النافع النفع بالنسبة إليه، قال: {لقوم يؤمنون*} أي يوجدون هذه الحقيقة ويستمرون على تجديدها في كل وقت، وأما غيرهم فقد يكون عليهم عذاباً...

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

تنبيه: قال الجشمي: تدل الآية أنه تعالى ينزل الآيات بحسب المصلحة، لا بحسب اقتراحهم، لأن ذلك قد يكون فسادا. ويدل قوله: {هذا بصائر} أن المعارف مكتسبة. وتدل أن جميع ما يقوله الرسول ويفعله من الشرع من وحيه، لذلك قال: {أتبعُ ما يُوحى ألي}.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

الاجتباء: افتعال واختصاص من الجباية يقال جبى العامل المال يجبيه وجباه يجبوه إذا جمعه للسلطان القيم على بيت مال الأمة. واجتباه إذا جمعه واصطفاه لنفسه أو احتازه لها... والآية هنا آية القرآن كما روي عن ابن عباس أو المعجزة المقترحة من قبل المشركين كما روي عن مجاهد وقتادة. والمعنى: وإذا لم تأتهم أيها الرسول بآية قرآنية بأن تراخى نزول الوحي زمنا ما عليك قالوا: هلا جباها الله لك بأن مكنك منها فاجتبيتها وأبرزتها لنا {قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي} فما أنا بمبتدع ولا مجتب لشيء من آيات القرآن بعلمي وبلاغتي بل أنا عاجز عن مثله كعجزكم وعجز سائر الإنس والجن. وفي معناها {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي} [يونس: 15] -أو ما أنا بقادر على إيجاد الآية الكونية ولا بمفتات على الله في طلبها وإنما أنا متبع لما يوحى إلي فضلا من ربي علي أن جعلني المبلغ عنه- وما علي إلا البلاغ المبين.

{هذا بصائر من ربكم} أي هذا القرآن الذي أوحاه إلي بصائر وحجج ناهضة من ربكم يعود من تأملها وعقلها بصير العقل بما تدل عليه من الحق، إذ هي أدل عليه مما تطلبون من الآيات الكونية لأنها تدل عليه مباشرة. وقد سبق في سورة الأنعام تفسير قوله تعالى: {قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ} [الأنعام: 104] فيراجع لزيادة البيان.

{وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} أي وهو هدى كامل يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ورحمة في الدنيا والآخرة للذين يؤمنون به: كما قال تعالى في سورة الأنعام أيضا: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة} [الأنعام: 154- 156] الآية، قيل إن قوله تعالى لقوم يؤمنون متعلق بالثلاثة وقيل الهدى والرحمة لأن البصيرة قد يتأملها العاقل فيؤمن.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

أي لا يزال هؤلاء المكذبون لك في تعنت وعناد، ولو جاءتهم الآيات الدالة على الهدى والرشاد، فإذا جئتهم بشيء من الآيات الدالة على صدقك لم ينقادوا. وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ من آيات الاقتراح التي يعينونها قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا أي: هلا اخترت الآية، فصارت الآية الفلانية، أو المعجزة الفلانية كأنك أنت المنزل للآيات، المدبر لجميع المخلوقات، ولم يعلموا أنه ليس لك من الأمر شيء، أو أن المعنى: لولا اخترعتها من نفسك. قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي فأنا عبد متبع مدبَّر، واللّه تعالى هو الذي ينزل الآيات ويرسلها على حسب ما اقتضاه حمده، وطلبتْه حكمته البالغة، فإن أردتم آية لا تضمحل على تعاقب الأوقات، وحجة لا تبطل في جميع الآنات، فهَذَا القرآن العظيم، والذكر الحكيم "بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ "يستبصر به في جميع المطالب الإلهية والمقاصد الإنسانية، وهو الدليل والمدلول فمن تفكر فيه وتدبره، علم أنه تنزيل من حكيم حميد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبه قامت الحجة على كل من بلغه، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون، وإلا فمن آمن، فهو هُدًى له من الضلال وَرَحْمَةٌ له من الشقاء، فالمؤمن مهتد بالقرآن، متبع له، سعيد في دنياه وأخراه. وأما من لم يؤمن به، فإنه ضال شقي، في الدنيا والآخرة...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ولقد كان المشركون لا يكفون عن طلب الخوارق من رسول الله صلى الله عليه وسلم والسياق هنا يحكي بعض أقوالهم الدالة على جهلهم بحقيقة الرسالة وطبيعة الرسول:

(وإذا لم تأتهم بآية قالوا: لولا اجتبيتها!)..

أي.. لولا ألححت على ربك حتى ينزلها!.. أو هلا فعلتها أنت من نفسك؟ ألست نبياً؟!..

إنهم لم يكونوا يدركون طبيعة الرسول ووظيفته؛ كذلك لم يكونوا يعرفون أدبه مع ربه؛ وأنه يتلقى منه ما يعطيه؛ ولا يقدم بين يدي ربه ولا يقترح عليه؛ ولا يأتي كذلك الشيء من عند نفسه.. والله يأمره أن يبين لهم:

(قل: إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي)..

فلا أقترح، ولا أبتدع، ولا أملك إلا ما يوحيه إلي ربي. ولا آتي إلا ما يأمرني به..

لقد كانت الصورة الزائفة للمتنبئين في الجاهليات تتراءى لهم، ولم يكن لهم فقه ولا معرفة بحقيقة الرسالة وطبيعة الرسول:

كذلك يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم ما في هذا القرآن الذي جاءهم به، وحقيقته التي يغفلون عنها، ويطلبون الخوارق المادية، وأمامهم هذا الهدى الذي يغفلون عنه:

(هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)..

إنه هذا القرآن.. بصائر تهدي، ورحمة تفيض.. لمن يؤمن به، ويغتنم هذا الخير العميم..

إنه هذا القرآن الذي كان الجاهلون من العرب -في جاهليتهم- يعرضون عنه، ويطلبون خارقة من الخوارق المادية مثل التي جرت على أيدي الرسل من قبل، في طفولة البشرية، وفي الرسالات المحلية غير العالمية، والتي لا تصلح إلا لزمانها ومكانها، ولا تواجه إلا الذين يشاهدونها، فكيف بمن بعدهم من الأجيال، وكيف بمن وراءهم من الأقوام الذين لم يروا هذه الخارقة!

إنه هذا القرآن الذي لا تبلغ خارقة مادية من الإعجاز ما يبلغه.. من أي جانب من الجوانب شاء الناس المعجزة في أي زمان وفي أي مكان.. لا يستثنى من ذلك من كان من الناس ومن يكون إلى آخر الزمان!

فهذا جانبه التعبيري.. ولعله كان بالقياس إلى العرب في جاهليتهم أظهر جوانبه -بالنسبة لما كانوا يحفلون به من الأداء البياني، ويتفاخرون به في أسواقهم!- ها هو ذا كان وما يزال إلى اليوم معجزاً لا يتطاول إليه أحد من البشر. تحداهم الله به وما يزال هذا التحدي قائماً. والذين يزاولون فن التعبير من البشر، ويدركون مدى الطاقة البشرية فيه، هم أعرف الناس بأن هذا الأداء القرآني معجز معجز.. سواء كانوا يؤمنون بهذا الدين عقيدة أو لا يؤمنون.. فالتحدي في هذا الجانب قائم على أسس موضوعية يستوي أمامها المؤمنون والجاحدون.. وكما كان كبراء قريش يجدون من هذا القرآن -في جاهليتهم- ما لا قبل لهم بدفعه عن أنفسهم -وهم جاحدون كارهون- كذلك يجد اليوم وغداً كل جاهلي جاحد كاره ما وجد الجاهليون الأولون!

ويبقى وراء ذلك السر المعجز في هذا الكتاب الفريد.. يبقى ذلك السلطان الذي له على الفطرة -متى خلي بينها وبينه لحظة!- وحتى الذين رانت على قلوبهم الحجب، وثقل فوقها الركام، تنتفض قلوبهم أحياناً؛ وتتململ قلوبهم أحياناً تحت وطأة هذا السلطان؛ وهم يستمعون إلى هذا القرآن!

إن الذين يقولون كثيرون.. وقد يقولون كلاماً يحتوي مبادئ ومذاهب وأفكاراً واتجاهات.. ولكن هذا القرآن يتفرد في إيقاعاته على فطرة البشر وقلوبهم فيما يقول! إنه قاهر غلاب بذلك السلطان الغلاب!.. ولقد كان كبراء قريش يقولون لأتباعهم الذين يستخفونهم -ويقولون لأنفسهم في الحقيقة -: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون).. لما كانوا يجدونه هم في نفوسهم من مس هذا القرآن وإيقاعه الذي لا يقاوم! وما يزال كبراء اليوم يحاولون أن يصرفوا القلوب عن هذا القرآن بما ينزلونه لهم من مكاتيب! غير أن هذا القرآن يظل- مع ذلك كله -غلاباً.. وما إن تعرض الآية منه أو الآيات في ثنايا قول البشر، حتى تتميز وتنفرد بإيقاعها، وتستولي على الحس الداخلي للسامعين، وتنحي ما عداها من قول البشر المحير الذي تعب فيه القائلون!

ثم يبقى وراء ذلك مادة هذا القرآن وموضوعه.. وما تتسع صفحات عابرة- في ظلال القرآن -للحديث عن مادة هذا القرآن وموضوعه.. فالقول لا ينتهي والمجال لا يحد!

وماذا الذي يمكن أن يقال في صفحات؟!

منهج هذا القرآن العجيب، في مخاطبة الكينونة البشرية بحقائق الوجود.. وهو منهج يواجه هذه الكينونة بجملتها، لا يدع جانباً واحداً منها لا يخاطبه في السياق الواحد، ولا يدع نافذة واحدة من نوافذها لا يدخل منها إليها؛ ولا يدع خاطراً فيها لا يجاوبه، ولا يدع هاتفاً فيها لا يلبيه!

منهج هذا القرآن العجيب، وهو يتناول قضايا هذا الوجود، فيكشف منها ما تتلقاه فطرة الإنسان وقلبه وعقله بالتسليم المطلق، والتجاوب الحي، والرؤية الواضحة. وما يطابق كذلك حاجات هذه الفطرة، ويوقظ فيها طاقاتها المكنونة، ويوجهها الوجهة الصحيحة.

منهج هذا القرآن العجيب، وهو يأخذ بيد الفطرة الإنسانية خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة؛ ويصعد بها- في هينة ورفق، وفي حيوية كذلك وحرارة، وفي وضوح وعلى بصيرة -درجات السلم في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة.. في المعرفة والرؤية، وفي الانفعال والاستجابة، وفي التكيف والاستقامة، وفي اليقين والثقة، وفي الراحة والطمأنينة.. إلى حقائق هذا الوجود الصغيرة والكبيرة..

منهج هذا القرآن العجيب، وهو يلمس الفطرة الإنسانية، من حيث لا يحتسب أحد من البشر أن يكون هذا موضع لمسة! أو أن يكون هذا وتر استجابة! فإذا الفطرة تنتفض وتصوت وتستجيب. ذلك أن منزل هذا القرآن هو خالق هذا الإنسان الذي يعلم من خلق، وهو أقرب إليه من حبل الوريد!

ذلك المنهج؟.. أم المادة ذاتها التي يعرضها القرآن في هذا المنهج.. وهنا ذلك الانفساح الذي لا يبلغ منه القول شيئاً.. (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مدداً).. (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله)..

إن الذي يكتب هذه الكلمات، قضى- ولله الحمد والمنة -في الصحبة الواعية الدارسة لهذا الكتاب خمسة وعشرين عاماً. يجول في جنبات الحقائق الموضوعية لهذا الكتاب؛ في شتى حقول المعرفة الإنسانية- ما طرقته معارف البشر وما لم تطرقه -ويقرأ في الوقت ذاته ما يحاوله البشر من بعض هذه الجوانب.. ويرى.. يرى ذلك الفيض الغامر المنفسح الواسع في هذا القرآن؛ وإلى جانبه تلك البحيرات المنعزلة، وتلك النقر الصغيرة.. وتلك المستنقعات الآسنة أيضاً!

في النظرة الكلية في هذا الوجود، وطبيعته، وحقيقته، وجوانبه، وأصله، ونشأته، وما وراءه من أسرار؛ وما في كيانه من خبايا ومكنونات وما يضمه من أحياء وأشياء.. الموضوعات التي تطرق جوانب منها "فلسفة "البشر!..

في النظرة الكلية إلى "الإنسان" ونفسه، وأصله، ونشأته، ومكنونات طاقاته، ومجالات نشاطه؛ وطبيعة تركيبه، وانفعالاته، واستجاباته، وأحواله وأسراره.. الموضوعات التي تطرق جوانب منها علوم الحياة والنفس والتربية والاجتماع! والعقائد والأديان..

في النظرة إلى نظام الحياة الإنسانية؛ وجوانب النشاط الواقعي فيها؛ ومجالات الارتباط والاحتكاك، والحاجات المتجددة وتنظيم هذه الحاجات.. الموضوعات التي تطرق جوانب منها النظريات والمذاهب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية..

وفي كل حقل من هذه الحقول يجد الدارس الواعي لهذا القرآن وفرة من النصوص والتوجيهات يحار في كثرتها ووفرتها! فوق ما في هذه الوفرة من أصالة وصدق وعمق وإحاطة ونفاسة!

إنني لم أجد نفسي مرة واحدة- في مواجهة هذه الموضوعات الأساسية -في حاجة إلى نص واحد من خارج هذا القرآن- فيما عدا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من آثار هذه القرآن -بل إن اي قول آخر ليبدو هزيلاً- حتى لو كان صحيحاً -إلى جانب ما يجده الباحث في هذا الكتاب العجيب..

إنها الممارسة الفعلية التي تنطق بهذه التقريرات؛ والصحبة الطويلة في ظل حاجات الرؤية والبحث والنظر في هذه الموضوعات.. وما بي أن أثني على هذا الكتاب.. ومن أنا ومن هؤلاء البشر جميعاً ليضيفوا إلى كتاب الله شيئاً بما يملكون من هذا الثناء!

لقد كان هذا الكتاب هو مصدر المعرفة والتربية والتوجيه والتكوين الوحيد لجيل من البشر فريد.. جيل لم يتكرر بعد في تاريخ البشرية- لا من قبل ولا من بعد -جيل الصحابة الكرام الذين أحدثوا في تاريخ البشرية ذلك الحدث الهائل العميق الممتد، الذي لم يدرس حق دراسته إلى الآن..

لقد كان هذا المصدر هو الذي أنشأ- بمشيئة الله وقدره -هذه المعجزة المجسمة في عالم البشر. وهي المعجزة التي لا تطاولها جميع المعجزات والخوارق التي صحبت الرسالات جميعاً.. وهي معجزة واقعة مشهودة.. أن كان ذلك الجيل الفريد ظاهرة تاريخية فريدة...

ولقد كان المجتمع الذي تألف من ذلك الجيل أول مرة، والذي ظل امتداده أكثر من ألف عام، تحكمه الشريعة التي جاء بها هذا الكتاب، ويقوم على قاعدة من قيمه وموازينه، وتوجيهاته وإيحاءاته.. كان هذا المجتمع معجزة أخرى في تاريخ البشرية. حين تقارن إليه صور المجتمعات البشرية الأخرى، التي تفوقه في الإمكانيات المادية- بحكم نمو التجربة البشرية في عالم المادة -ولكنها لا تطاوله في "الحضارة الإنسانية "!

إن الناس اليوم- في الجاهلية الحديثة! -يطلبون حاجات نفوسهم ومجتمعاتهم وحياتهم خارج هذا القرآن! كما كان الناس في الجاهلية العربية يطلبون خوارق غير هذا القرآن!.. فأما هؤلاء فقد كانت تحول جاهليتهم الساذجة، وجهالتهم العميقة- كما تحول أهواؤهم ومصالحهم الذاتية كذلك -دون رؤية الخارقة الكونية الهائلة في هذا الكتاب العجيب!.. فأما أهل الجاهلية الحاضرة، فيحول بينهم وبين هذا القرآن غرور" العلم البشري "الذي فتحه الله عليهم في عالم المادة. وغرور التنظيمات والتشكيلات المعقدة بتعقيد الحياة البشرية اليوم؛ ونموها ونضجها من ناحية التنظيم والتشكيل. وهو أمر طبيعي مع امتداد الحياة وتراكم التجارب، وتجدد الحاجات، وتعقدها كذلك! كما يحول بينهم وبين هذا القرآن كيد أربعة عشر قرناً من الحقد اليهودي والصليبي؛ الذي لم يكف لحظة واحدة عن حرب هذا الدين وكتابه القويم؛ وعن محاولة إلهاء أهله عنه؛ وإبعادهم عن توجيهه المباشر. بعدما علم اليهود والصليبيون من تجاربهم الطويلة: أن لا طاقة لهم بأهل هذا الدين، ما ظلوا عاكفين على هذا الكتاب، عكوف الجيل الأول، لا عكوف التغني بآياته وحياتهم كلها بعيدة عن توجيهاته!.. هو كيد مطرد مصرّ لئيم خبيث.. ثمرته النهائية هذه الأوضاع التي يعيش فيها الناس الذين يسمون اليوم بالمسلمين- وما هم بالمسلمين ما لم يحكموا في حياتهم شريعة هذا الدين! -وهذه المحاولات الأخرى في كل مكان للتعفية على آثار هذا الدين؛ ولتدارس قرآن غير قرآنه؛ يرجع إليه في تنظيم الحياة كلها، ويرد إليه كل اختلاف، وكل نزاع في التشريع والتقنين لهذه الحياة؛ كما كان المسلمون يرجعون إلى كتاب الله في هذه الشؤون!!!

إنه هذا القرآن الذي يجهله أهله اليوم. لأنهم لا يعرفونه إلا تراتيل وترانيم وتعاويذ وتهاويم! بعدما صرفتهم عنه قرون من الكيد اللئيم، ومن الجهل المزري، ومن التعاليم المغرورة، ومن الفساد الشامل للفكر والقلب والواقع النكد الخبيث!

إنه هذا القرآن الذي كان الجاهليون القدامى يصرفون عنه الجماهير بطلب الخوارق المادية. والذي يصرف عنه الجاهليون المحدثون الجماهير بالقرآن الجديد الذي يفترونه، وبشتى وسائل الإعلام والتوجيه! إنه هذا القرآن الذي يقول عنه العليم الخبير:

(هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)..

بصائر تكشف وتنير. وهدى يرشد ويهدي. ورحمة تغمر وتفيض.. (لقوم يؤمنون) فهم الذين يجدون هذا كله في هذا القرآن الكريم..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والمعنى: هلاّ اخترت آية وسألت ربك أن يعطيكها، أي هلا أتيتنا بما سألناك غير آية القرآن فيجيبك الله إلى ما اجتبيتَ، ومقصدهم من ذلك نصب الدليل على أنه بخلاف ما يقول لهم إنه رسول الله، وهذا من الضلال الذي يعتري أهل العقول السخيفة في فهم الأشياء على خلاف حقائقها وبحسب من يتخيلون لها ويفرضون. والجواب الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيب به وهو قوله: {قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي} صالح للمعنيين، فالاتباع مستعمل في معنى الاقتصار والوقوف عند الحد، أي لا أطلب آية غير ما أوحى الله إلي، ويعضد هذا ما في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « مَا من الأنبياء إلا أوتي من الآيات مَا مثلُه آمنَ عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» ويكون المعنى: إنما انتظر ما يوحى إلى ولا أستعجل نزول القرآن إذا تأخر نزوله فيكون الاتباع متعلقاً بالزمان. (...

)

والإشارة ب {بهذا بصائر} إلى القرآن، ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من السورة أو من المحاجة الأخيرة منها، وإفراد اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالمذكور. والبصائر جمع بصيرة وهي ما به اتضاح الحق وقد تقدم عند قوله تعالى: {قد جاءكم بصائر من ربكم} في سورة الأنعام (104)، وهذا تنويه بشأن القرآن وأنه خير من الآيات التي يسألونها، لأنه يجمع بين الدلالة على صدق الرسول بواسطة دلالة الإعجاز وصدوره عن الأمي، وبين الهداية والتعليم والإرشاد، والبقاء على العصور. وإنما جمع « البصائر» لأن القرآن أنواعاً من الهدى على حسب النواحي التي يهدي إليها، من تنوير العقل في إصلاح الاعتقاد، وتسديد الفهم في الدين، ووضع القوانين للمعاملات والمعاشرة بين الناس، والدلالة على طرق النجاح والنجاة في الدنيا، والتحذير من مهاوي الخسران. وأفرد الهدى والرحمة؛ لأنهما جنسان عامان يشملان أنواع البصائِر فالهدى يقارن البصائِر والرحمة غاية للبصائر، والمراد بالرحمة ما يشمل رحمة الدنيا وهي استقامة أحوال الجماعة وانتظام المدنية ورحمة الآخرة وهي الفوز بالنعيم الدائم كقوله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فنلحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]. وقولُه: {من ربكم} ترغيب للمؤمنين وتخويف للكافرين. و {لقوم يؤمنون} يتنازعه (بصائر) و (هدى) و (رحمة) لأنه إما ينتفع به المؤمنون، فالمعنى هذا بصائر لكم وللمؤمنين، و {هدى ورحمة لقوم يؤمنون} خاصة إذ لم يهتدوا، وهو تعريض بأن غير المؤمنين ليسوا أهلاً للانتفاع به وأنهم لهواً عن هديه بطلب خوارق العادات...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

بين أيدي الناس معجزة باهرة قاهرة تحداهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتوا بسورة فعجزوا؛ ثم تحداهم أن يأتوا بسورة مفتراة فعجزوا، ومع ذلك طلبوا هم وإخوان الغي فيهم أن يأتيهم بآية غائبة لم تأتهم، فما دامت لم تأتهم فلها قدسية، فقال الله تعالى عنهم: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا}. أي إن الذي أغراهم بطلبها أنه لم يأت بهذه الآية، ولو سايرهم بمنطق تفكيرهم لتأدى بهم أنه إذا جاءتهم الآية وصارت حاضرة مهيأة بين أيديهم طلبوا آية أخرى وقالوا لولا اجتبيتها، وهكذا تتوالى الطلبات عبثا؛ لأن من لا يؤمن لا ينفعه بشيء. والأولى الوقوف عند حال معينة فاطمة للنفس، عن متطلباتها، والوقوف عندها. وقوله تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} لولا بمعنى هلا للحض على الإتيان بآية معينة طلبوها بذاتها، {اجتبيتها}، أي اخترتها، وهي آية حسية، وقد جاءت من قبلهم مثلها فكفروا، وإذا كانت الجملة شرطية فمؤداها أنهم مطالبون بما لم يأتهم آية بعد آية، وما هذا شأن المؤمنين، فالدليل إذا كان مقنعا، فهو كاف وحده. ولقد أمر الله تعالى نبيه بأن يرد عليهم بقوله: {قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}. هذا هو الجواب الذي أمر الله تعالى به نبيه أن يجيبهم على الطلب الذي دفع إليه أوهامهم الباطلة وهو مكون من أجزاء ثلاثة: الجزء الأول عبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقول: {قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي} وخلاصته أن الآية يختارها لي ربي لا أبدي عليه، ولا أعين له، وقد قصر الآية على ما يوحى به الله، وحصره ب (إنما) أي ليس أن أقترح عليه آية لم يأت بها، وبين الدليل على وجوب الطاعة فيما اختار، فهو ربي الذي خلقني وأرسلني، وهو أعلم بما يصلح دليلا لرسالتي وما لا يصلح، وهو وحده الذي يوحي إلي فليس لي أن أقترح عليه، وإن كفرتم بآياته فقد كفرتم به، وفي هذا الجزء برهان صدق الآية التي تحداهم بها. الجزء الثاني وصف الآيات. فقال تعالى: {هذا بصائر من ربكم} البصائر جمع بصيرة وأصلها من البصر وهي الرؤية والنظر ثم الإدراك والفهم ثم أطلقت على ما يؤدي إلى الإدراك هو آلته، فلإطلاق البصائر على الآيات من قبيل المجاز؛ لأنها سبب إدراك الحقائق الربانية، والسبيل إلى معرفة الله تعالى وقدرته، ورسالاته الإلهية، فهي من قبيل إطلاق اسم السبب، وإرادة المسبب، وهو إبصار الحقائق الربانية، ومعرفتها. وإذا كانت هي بصائر آتية من قبل الله تعالى فهو الذي يجتبيها ويختارها، ويريدها، وهي من ربكم الذي خلقكم وبرأكم، وهو أعلم بمن خلق ورب وبرأ وهو اللطيف الخبير. والجزء الثالث قال تعالى في وصف هذه الآيات، وهو الذي قال بقوله تعالى: {وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}. هذان وصفان وصف الله تعالى آياته، وأخصها القرآن، ففيه أمران جليلان ذا شأن في الرسالات الإلهية: أولهما – فيه هدى يهدي إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، فهو يبين الهدى من الضلالة، والنور من الظلمات بما اشتمل عليه، وبدلالته الذاتية، وبإعجازه، وبأنه يهدي إلى الطيب من القول، ويهدي إلى الصراط الحميد. وثانيهما – أن فيه الرحمة بما اشتمل عليه من شريعة حكيمة تصلح أمور الناس، وتذهب عنها الفساد، فهي بما شرعت من النظم في الأسرة، ومعاملات بين الناس، ومنع لأكل أموالهم بينهم بالباطل. وإن هذه الهداية وتلك الرحمة لقوم من شأنهم الإيمان؛ ولذا قال تعالى: {لقوم يؤمنون} فوصفهم بالجملة التي يتصدرها الفعل المضارع للدلالة على إيمانهم المستمر، المتجدد آنا على وجه الدوام. وذلك لأن شأن المؤمن أن يتجدد إيمانه، فيقوى بالعمل المستمر والمتجدد، فإن العمل الصالح يجدد الإيمان، فلو كان العمل فهو للإيمان كالماء العذب الفرات يغذي الإيمان كما يغذي الماء الزرع...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ففي القرآن الكرم بصائر وهدى ورحمة، والبصائر جمع بصيرة، من الإبصار، إذا امتلأ القلب بنور اليقين الإيماني فإن صاحبه يعيش في شفافية وإشراق، ويسمى صاحب هذه الرؤية المعنوية صاحب بصيرة، أما البصر فهو مهمة العين في الأمور الحسية، لكنْ هناك أمور معنوية لا تكتشفها إلا البصيرة، والبصيرة تضيء القلب بالنور حتى يستكشف تلك الأمور المعنوية، ولا يمتلك القلب البصيرة إلا حين يكون مشحونا باليقين الإيماني. والقرآن الكريم بصائر، لأنه يعطي ويمنح من يؤمن به ويتأمله بصائر ليجدد الأمور المعنوية وقد صارت مُبْصَرَةً، وكأنه قادر على رؤيتها ومشاهدتها وكأنها عين اليقين. وهذا القرآن المجيد بصائر وهدى، أي يدل الإنسان ويهديه إلى المنهج الحق وإلى طريق الله المستقيم، وهو رحمة أيضا لمن لا يملك إشراقات القلب التي تهدي للإيمان ولا يملك قوة أخذ الدليل الذي يوصله إلى الهداية، إذن فهو رحمة لكل الناس، وهدى لمن يسأل عن الدليل، وبصائر لمن تيقن أصول الإيمان مشهديا.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ} مما يقترحونه عليك من معجزاتٍ وآياتٍ على سبيل التعنُّت والتعجيز، {قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} وجئت بها، إذ كان يخيل إليهم أن النبي يملك القدرات الغيبيّة التي يستطيع من خلالها أن يغير وضع العالم من حوله بطريقة المعجزة. {قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي} لأن النبي لا يملك قدرة المعجزة، بل هي خاضعة لقدرة الله الذي قد يشاء إيجادها في حالات معيّنة، أمّا دور النبي فهو اتباع ما يوحي به إليه الله من رسالته في عملية دعوة واتباع.

كتاب الله بصائر فكرية وروحية للإنسان {هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. إنه الوحي الذي أنزله الله في قرآنه؛ إنّ آياته تمثّل الوسائل الفكرية والروحية التي يبصر الناس من خلالها آفاق الخير والنجاح والسعادة، وتفتح لهم سبل الهدى التي تنتهي بهم إلى النهايات الرضية عند الله، وتفيض عليهم من رحمته ما يملأ قلوبهم بالسكينة وأرواحهم بالتفاؤل والإشراق والأمل، وذلك كله عندما يعيش هؤلاء الناس فكر الإيمان وروحه وحركته وفاعليته، فيبصرون به ويهتدون بهداه، ويتقبّلون رحمة الله من خلاله...