كذلك { الله الذي جعل لكم الأرض قرارا } فراشاً ، { والسماء بناءً } سقفاً كالقبة ، { وصوركم فأحسن صوركم } قال مقاتل : خلقكم فأحسن خلقكم . قال ابن عباس : خلق ابن آدم قائماً معتدلاً يأكل ويتناول بيده ، وغير ابن آدم يتناول بفيه . { ورزقكم من الطيبات } قيل : من غير رزق الدواب . { ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين }
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا } أي : قارة ساكنة ، مهيأة لكل مصالحكم ، تتمكنون من حرثها وغرسها ، والبناء عليها ، والسفر ، والإقامة فيها .
{ وَالسَّمَاءَ بِنَاءً } سقفًا للأرض ، التي أنتم فيها ، قد جعل الله فيها ما تنتفعون به من الأنوار والعلامات ، التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } فليس في جنس الحيوانات ، أحسن صورة من بني آدم ، كما قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }
وإذا أردت أن تعرف حسن الآدمي وكمال حكمة الله تعالى فيه ، فانظر إليه ، عضوًا عضوًا ، هل تجد عضوًا من أعضائه ، يليق به ، ويصلح أن يكون في غير محله ؟ وانظر أيضًا ، إلى الميل الذي في القلوب ، بعضهم لبعض ، هل تجد ذلك في غير الآدمين ؟ وانظر إلى ما خصه الله به من العقل والإيمان ، والمحبة والمعرفة ، التي هي أحسن الأخلاق المناسبة لأجمل الصور .
{ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } وهذا شامل لكل طيب ، من مأكل ، ومشرب ، ومنكح ، وملبس ، ومنظر ، ومسمع ، وغير ذلك ، من الطيبات التي يسرها الله لعباده ، ويسر لهم أسبابها ، ومنعهم من الخبائث ، التي تضادها ، وتضر أبدانهم ، وقلوبهم ، وأديانهم ، { ذَلِكُمُ } الذي دبر الأمور ، وأنعم عليكم بهذه النعم { اللَّهُ رَبُّكُمْ } { فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أي : تعاظم ، وكثر خيره وإحسانه ، المربي جميع العالمين بنعمه .
وبعد أن بين - سبحانه - مظاهر نعمه عن طريق الزمان - الليل والنهار - أتبع ذلك ببيان نعمه عن طريق المكان - الأرض والسماء - فقال : { الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً } أى : جعل الأرض مكانا لاستقراركم عليها ، والسعى فيها .
{ والسمآء بِنَآء } أى : وجعل لكم السماء بمنزلة القبة المبنية المضروبة فوق رءوسكم فأنتم ترونها بأعينكم مرفوعة فوقكم بغير عمد .
قال الآلوسى قوله : { والسمآء بِنَآء } أى : قبة ، ومنه أبنية العرب لقبابهم التى تضرب . وإطلاق ذلك على السماء على سبيل التشبيه ، وهو تشبيه بليغ . وفيه إشارة لكرويتها . وهذا بيان لفضله - تعالى - المتعلق بالمكان بعد بيان فضله المتعلق بالزمان .
وقوله : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } بيان لفضله - تعالى - المتعلق بذواتهم . أى : جعل لكم الأرض مستقرا ، والسماء بناء ، وصور أشكالكم فى أحسن تقويم . وأجمل هيئة . كما قال - تعالى - : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } { وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات } أى : ورزقكم من الرزق الطيب الحلال المستلذ .
{ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } أى : ذلكم الذى أعطاكم تلك النعم المتعلقة بزمانكم ، ومكانكم ، وذواتكم ، ومطعمكم ومشربكم . هو الله ربكم الذى لا تولاكم بتربيته ورعايته فى جميع أطوار حياتكم فتبارك الله - تعالى - وتعاظم فى ذاته وفى صفاته ، فهو رب العالمين ومالك أمرهم .
وينتقل من ظاهرتي الليل والنهار ، إلى تصميم الأرض لتكون قراراً ، والسماء لتكون بناء :
( الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء ) . .
والأرض قرار صالح لحياة الإنسان بتلك الموافقات الكثيرة التي أشرنا إلى بعضها إجمالاً . والسماء بناء ثابت النسب والأبعاد والحركات والدورات ومن ثم تضمن الاستقرار والثبات لحياة هذا الإنسان ، المحسوب حسابها في تصميم هذا الوجود ، المقدرة في بنائه تقديراً . .
ويربط بتكوين السماء والأرض تكوين الإنسان ورزقه من الطيبات على النحو الذي أشرنا إلى بعض أسراره :
( وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ) . .
ويعقب على هذه الآيات والهبات كما عقب على الأولى :
( ذلكم الله ربكم . فتبارك الله رب العالمين ) . .
ذلكم الذي يخلق ويقدر ويدبر ، ويراعيكم ويقدر لكم مكاناً في ملكه . . ذلكم الله ربكم . ( فتبارك الله ) . . وعظمت بركته وتضاعفت . ( رب العالمين ) . . أجمعين .
ثم بين تعالى نعمته في أن جعل { الأرض قراراً } ومهاداً للعباد ، { والسماء بناء } وسقفاً .
وقرأ الناس : «صُوركم » بضم الصاد . وقرأ أبو رزين : «صِوركم » بكسر الصاد{[10017]} . وقرأت فرقة : «صوركم » بكسر الواو على نحو بسرة وبسر .
وقوله تعالى : { من الطيبات } يريد من المستلذات طعماً ولباساً ومكاسب وغير ذلك ، ومتى جاء ذكر { الطيبات } بقرينة { رزقكم } ونحو فهو المستلذ ، ومتى جاء بقرينة تحليل أو تحريم كما قال تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق }{[10018]} وكما قال : { ويحل لهم الطيبات }{[10019]} والطيبات في مثل هذا : الحلال ، وعلى هذا النظر يخرج مذهب مالك رحمه الله في الطيبات والخبائث ، وقول الشافعي رحمه الله : إن الطيبات هي المستلذات ، والخبائث ، هي المستقذرات ضعيف ينكسر بمستلذات محرمة ومستقذرات محللة لا رد له في صدرها ، وأما حيث وقعت الطيبات مع الرزق فإنما هي تعديد نعمة فيما يستحسنه البشر ، لا سيما هذه الآية التي هي مخاطبة لكفار ، فإنما عددت عليه النعمة التي يعتقدونها نعمة ، وباقي الآية بين .