ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة من يأتى بالسيئات فقال : { وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار } .
قال ابن كثير : قال ابن مسعود : وأبو هريرة ، وابن عباس ، وأنس بن مالك ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم : { مَن جَآءَ بالسيئة } أى الشرك .
ولعل مما يؤيد أن المراد بالسيئة هنا : الشرك . قوله - تعالى - : { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار } لأن هذا الجزاء الشديد ، يتناسب مع رذيلة الشرك - والعياذ بالله - .
أى : ومن جاء بالفعلة الشنيعة فى السوء ، وهى الإشراك بالله { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار } أى : فألقوا بسبب شركهم فى النار على وجوههم منكوسين .
يقال : كب فلان فلانا على وجهه ، وأكبه ، إذا نكسه وقلبه على وجهه .
وفى كبهم على وجوههم فى النار ، زيادة فى إهانتهم وإذلالهم لأن الوجه هو مجمع المحاسن ، ومحل المواجهة للغير .
والاستفهام فى قوله - تعالى - : { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } لزيادة توبيخهم وتقريعهم والجملة بإضمار قول محذوف .
أى : والذين جاءوا بالأفعال السيئة فى دنياهم ، يكبون على وجوههم فى النار يوم القيامة ، ويقال لهم على سبيل الزجر والتأنيب : ما حل بكم من عذاب هو بسبب أعمالكم وشرككم .
وكون المراد بالسيئة هنا الشرك ، لا يمنع من أن الذى يرتكب السيئات من المسلمين ، يعاقب عليها ما لم يتب منها فالله - تعالى - يقول : { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }
والسيئة التي هي في هذه الآية هي الكفر والمعاصي فيمن ختم الله تعالى عليه من أهل المشيئة بدخول النار ، و { كبت } معناه جعلت تلي النار ، وجاء هذا كباً من حيث خلقتها في الدنيا تعطي ارتفاعها ، وإذا كبت الوجوه فسائر البدن أدخل في النار إذ الوجه موضع الشرف والحواس ، وقوله { هل تجزون } بمعنى يقال لهم ذلك وهذا على جهة التوبيخ .
{ ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار } .
والكب : جعل ظاهر الشيء إلى الأرض . وعدي الكب في هذه الآية إلى الوجوه دون بقية الجسد وإن كان الكب لجميع الجسم لأن الوجوه أول ما يقلب إلى الأرض عند الكب كقول امرىء القيس :
وهذا من قبيل قوله تعالى { سحروا أعين الناس } [ الأعراف : 116 ] وقوله { ولما سقط في أيديهم } [ الأعراف : 149 ] وقول الأعشى :
وأقدِمْ إذا ما أعين الناس تفرق
{ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كنتم تعملون } .
تذييل للزواجر المتقدمة ، فالخطاب للمشركين الذين يسمعون القرآن على طريقة الالتفات من الغيبة بذكر الأسماء الظاهرة وهي من قبيل الغائب . وذكر ضمائرها ابتداء من قوله { إنك لا تسمع الموتى } [ النمل : 80 ] وما بعده من الآيات إلى هنا . ومقتضى الظاهر أن يقال : هل يجزون إلا ما كانوا يعملون فكانت هذه الجملة كالتلخيص لما تقدم وهو أن الجزاء على حسب عقائدهم وأعمالهم وما العقيدة إلا عمل القلب فلذلك وجه الخطاب إليهم بالمواجهة .
ويجوز أن تكون مقولاً لقول محذوف يوجه إلى الناس يومئذ ، أي لا يقال لكل فريق : { هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } .
والاستفهام في معنى النفي بقرينة الاستثناء . وورود { هل } لمعنى النفي أثبته في « مغني اللبيب » استعمالاً تاسعاً قال : « أن يراد بالاستفهام بها النفي ولذلك دخلت على الخبر بعدها ( إلا ) نحو { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } [ الرحمن : 60 ] . والباء في قوله :
وقال في آخر كلامه : إن من معاني الإنكار الذي يستعمل فيه الاستفهام إنكار وقوع الشيء وهو معنى النفي . وهذا تنفرد به { هل } دون الهمزة . قال الدماميني في « الحواشي الهندية » قوله : يراد بالاستفهام ب { هل النفي يشعر بأن ثمة استفهاماً لكنه مجازي لا حقيقي اه .
وأقول : هذا استعمال كثير ومنه قول لبيد :
حيث جاء ب ( من ) التي تدخل على النكرة في سياق النفي لقصد التنصيص على العموم وشواهده كثيرة . ولعل أصل ذلك أنه استفهام عن النفي لقصد التقرير بالنفي . والتقدير : هل لا تجزون إلا ما كنتم تعملون ، فلما اقترن به الاستثناء غالباً والحرف الزائد في النفي في بعض المواضع حذفوا النافي وأشربوا حرف الاستفهام معنى النفي اعتماداً على القرينة فصار مفاد الكلام نفياً وانسلخت ( هل ) عن الاستفهام فصارت مفيدة النفي . وقد أشرنا إلى هذه الآية عند قوله تعالى { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } في الأعراف ( 147 ) .