قوله تعالى : { وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك } ، فألقاها فصارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ، قال ابن زيد : كان اجتماعهم بالإسكندرية ، ويقال : بلغ ذنب الحية من وراء البحر ، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً .
قوله تعالى : { فإذا هي تلقف } قرأ حفص : تلقف ساكنة اللام ، خفيفة ، حيث كان ، وقرأ الآخرون : بفتح اللام وتشديد القاف ، أي تبتلع .
قوله تعالى : { ما يأفكون } ، يكذبون من التخاييل ، وقيل : يزورون على الناس . وكانت تلتقم حبالهم وعصيهم واحداً واحداً حتى ابتلعت الكل ، وقصدت القوم الذين حضروا ، فوقع الزحام عليهم ، فهلك منهم في الزحام خمسة وعشرون ألفاً ، ثم أخذها موسى فصارت عصاً كما كانت .
ويمضى القرآن فيبين لنا أن هذا السحر العظيم الذي استرهب الناس وسحر أعينهم ، قد تهاوى في لحظة ، وانطوى في ومضة ، وزالت آثاره بعد أن قذفه موسى بسلاح الحق الذي سلحه به ربه ، استمع إلى القرآن وهو يحكى ذلك فيقول : { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ } .
اللقف : التناول بسرعة . يقال : لقف الشىء يلقفه لقفا ولقفانا ، أخذه بسرعة .
والإفك : الكذب . يقال أفَك يأفِك ، وأفك يأفك إفكا وأفكا - كضرب وعلم - إذا كذب ، واصله من الأفك - بفتح أوله - وهو بمعنى صرف الشىء عن وجهه الذي يجب أن يكون عليه . واطلق على الكذب إفك - بكسر الهمزة - لكونه مصروفا عن وجه الحق ، ثم صار حقيقة فيه .
والمعنى : وأوحينا إلى موسى - بعد أن أوجس خيفة مما رآه من أمر السحرة - أن الق عصاك ولا تخف إنك أنت الأعلى ، فألقاها فإذا هى تبتلع وتلتقم بسرعة ما يكذبون ويموهون به أولئك السحرة { فَوَقَعَ الحق } أى : ظهر وتبين الحق الذي عليه موسى - وفسد وبطل ما كانوا يعملون من الحيل والتخييل وذهب تأثيره . وترتب على ذلك أن أصابت الهزيمة المنكرة فرعون وملأه وسحرته في ذلك المجمع العظيم ، الذي حشر الناس له في يوم عيدهم وزينتهم ، وانقلب الجميع إلى بيوتهم صاغرين أذلاء ، بعد أن أنزل بهم موسى الخذلان والخيبة .
وأن قوله { أَنْ أَلْقِ } يجوز أن تكون مفسرة لتقدم ما فيه معنى القول دون حروفه وهو الإيحاء ، ويجوز أن تكون مصدرية فتكون هى وما بعدها مفعول الإيحاء .
والفاء في قوله { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } فصيحة أى : فألقاها فصارت حية فإذا هى تلقف ما يأفكون .
وإنما حذف هذا المقدر للإيذان بمسارعة موسى إلى الالقاء ، وبغاية سرعة الانقلاب ، كأن ابتلاعها لما يأفكون قد حصل متصلا بالأمر بالإلقاء .
و { مَا } في قوله { مَا يَأْفِكُونَ } موصولة والعائد محذوف أى : الذي يأفكونه ، أو مصدرية وهى مع الفعل بمعنى المفعول أى : فإذا هى تلقف المأفوك .
ولكن مفاجأة أخرى تطالع فرعون وملأه ، وتطالع السحرة الكهنة ، وتطالع جماهير الناس في الساحة الكبرى التي شهدت ذلك السحر العظيم :
( وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك ، فإذا هي تلقف ما يأفكون . فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون . فغلبوا هنالك ، وانقلبوا صاغرين ) . .
إنه الباطل ينتفش ، ويسحر العيون ، ويسترهب القلوب ، ويخيل إلى الكثيرين أنه غالب ، وأنه جارف ، وأنه مُحيق ! وما هو إلا أن يواجه الحق الهادىء الواثق حتى ينفثىء كالفقاعة ، وينكمش كالقنفذ ، وينطفئ كشعلة الهشيم !
يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله موسى ، عليه السلام ، في ذلك الموقف العظيم ، الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل ، يأمره بأن يلقي ما في يمينه وهي عصاه ، { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } أي : تأكل { مَا يَأْفِكُونَ } أي : ما يلقونه ويوهمون أنه حق ، وهو باطل .
قال ابن عباس : فجعلت لا تَمُرّ بشيء{[12013]} من حبالهم ولا من خُشُبهم{[12014]} إلا التقمته ، فعرفت السحرة أن هذا أمر من السماء ، وليس هذا بسحر ، فخروا سجدا .
جملة : { وأوحينا } معطوفة على جمل { سحروا أعين الناس ، واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم } [ الأعراف : 116 ] ، فهي في حيز جواب لمّا ، أي : لمّا ألْقَوا سَحَروا ، وأوحينا إلى موسى أن الق لهم عصاك .
و { أن } تفسيرية لفعل { أوحينا } ، والفاء للتعقيب الدال على سرعة مفاجأة شروعها في التلقف بمجرد إلقائها ، وقد دل السياق على جملتين محذوفتين ، إذ التقدير : فألقاها فدبّت فيها الحياة وانقلبت ثعباناً فإذا هي تلقف ، دل على الجملة الأولى الأمر بالإلقاء ، وعلى الجملة الثانية التلقف لأنه من شأن الحيوان ، والعصا إذا دبت فيها الحياة صارت ثعباناً بدون تبديل شكل .
والتلقف : مبَالغة في اللقف وهو الابتلاع والازدراد .
و { ما } موصولة والعائد محذوف أي : ما يأفكونه . والإفك : الصرف عن الشيء ويسمى الزور إفكاً ، والكذب المصنوعُ إفكاً ، لأن فيه صرفاً عن الحق وإخفاء للواقع ، فلا يسمى إفكاً إلاّ الكذبُ المصطنع المموه ، وإنما جعل السحر إفكاً لأن ما يظْهَر منه مخالف للواقع فشبه بالخبر الكاذب .
وقرأ الجمهور { تَلَقّفَ } بقاف مشددة ، وأصله تتلقف ، أي تبالغ وتتكلف اللقف ما استطاعت ، وقرأ حفص عن عاصم : بسكون اللام وتخفيف القاف على صيغة المجرد .
والتعبير بصيغة المضارع في قوله : { تَلقف } و { يأفكون } للدلالة على التجديد والتكرير ، مع استحضار الصورة العجيبة ، أي : فإذا هي يتجدد تلقفها لِما يتجدد ويتكرر من إفكهم . وتسمية سحرهم إفكاً دليل على أن السحر لا معمول له وأنه مجرد تخييلات وتمويهات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.