قوله تعالى : { فأتت به قومها تحمله } ، قيل : إنها ولدت ، ثم حملته في الحال إلى قومها . وقال الكلبي : حمل يوسف النجار مريم وابنها عيسى عليهما السلام إلى غار ، ومكثت أربعين يوماً حتى طهرت من نفاسها ، ثم حملته مريم عليها السلام إلى قومها . فكلمها عيسى عليه السلام في الطريق فقال : يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه ، فلما دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا ، وكانوا أهل بيت صالحين ، { قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً } ، عظيماً منكراً ، قال أبو عبيدة : كل أمر فائق من عجب أو عمل فهو فري . قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمر : { فلم أر عبقرياً يفري فريه } أي : يعمل عمله .
{ 27 - 33 ْ } { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ْ }
أي : فلما تعلت مريم من نفاسها ، أتت بعيسى قومها تحمله ، وذلك لعلمها ببراءة نفسها وطهارتها ، فأتت غير مبالية ولا مكترثة ، فقالوا : { لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فًريًّا ْ } أي : عظيما وخيما ، وأرادوا بذلك البغاء{[503]} حاشاها من ذلك .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن مشهد آخر من مشاهد تلك القصة العجيبة ؛ مشهد مريم عندما جاءت بوليدها إلى قومها ، وما قالوه لها ، وما قاله وليدها لهم . .
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك فيقول : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا . . . } .
وقوله - سبحانه - : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ . . . } معطوف على كلام محذوف يفهم من سياق القصة .
والتقدير : وبعد أن استمعت مريم إلى ما قاله ابنها عيسى - عليه السلام - اطمأنت نفسها ، وقرت عينها ، فأتت به أى بمولودها عيسى إلى قومها . وهى تحمله معها من المكان القصى الذى اعتزلت فيه قومها .
قال الآلوسى : أى : جاءتهم مع ولدها حاملة إياه ، على أن الباء للمصاحبة ، وجملة { تَحْمِلُهُ } فى موضع الحال من ضمير مريم . . . وكان هذا المجىء على ما أخرج سعيد بن منصور ، وابن عساكر عن ابن عباس بعد أربعين يوماً حين طهرت من نفاسها . . .
وظاهر الآية والأخبار " أنها جاءتهم به من غير طلب منهم . . " .
ثم حكى - سبحانه - ما قاله قومها عندما رأوها ومعها وليدها فقال : { يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } .
أى : قالوا لها على سبيل الإنكار : يا مريم لقد جئت أى فعلت شيئاً منكراً عجيباً فى بابه ، حيث أتيت بولد من غير زوج نعرفه لك .
والفَرِى : مأخوذ من فريت الجلد إذا قطعته ، أى : شيئاً قاطعاً وخارقاً للعادة ، ومرادهم : أنها أتت بولدها عن طريق غير شرعى ، كما قال - تعالى - فى آية أخرى : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } ويدل على أن مرادهم هذا ، قولهم بعد ذلك : { يا أخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ } .
( فأتت به قومها تحمله . . ! ) . . فلنشهد هذا المشهد المثير :
إننا لنتصور الدهشة التي تعلو وجوه القوم - ويبدو أنهم أهل بيتها الأقربون في نطاق ضيق محدود - وهم يرون ابنتهم الطاهرة العذراء الموهوبة للهيكل العابدة المنقطعة للعبادة . . يرونها تحمل طفلا !
( قالوا : يا مريم لقد جئت شيئا فريا . يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء ، وما كانت أمك بغيا ! )
إن ألسنتهم لتنطلق بالتقريع والتأنيب : ( يا مريم لقد جئت شيئا فريا )فظيعا مستنكرا .
يقول تعالى مخبرًا عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك ، وألا تكلم أحدًا من البشر فإنها{[18778]} ستكفى أمرها ويقام بحجتها{[18779]} فسلمت لأمر الله ، عز وجل ، واستسلمت لقضائه ، وأخذت ولدها { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } فلما رأوها كذلك ، أعظموا أمرها واستنكروه جدًّا ، وقالوا : { يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا } أي : أمرًا عظيمًا . قاله مجاهد ، وقتادة والسدي ، وغير واحد .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد ، حدثنا سَيَّار{[18780]} حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا أبو عمران الجَوْني ، عن نوف البِكَاليّ قال : وخرج قومها في طلبها ، وكانت من أهل بيت نبوة وشرف . فلم يحسوا{[18781]} منها شيئًا ، فرأوا{[18782]} راعي بقر فقالوا : رأيت فتاة كذا وكذا نَعْتُها ؟ قال : لا ولكني رأيت الليلة من بقري ما لم أره منها قط . قالوا : وما رأيت ؟ قال : رأيتها{[18783]} سُجَّدا نحو هذا الوادي . قال عبد الله بن أبي زياد : وأحفظ عن سيار أنه قال : رأيت نورًا ساطعًا . فتوجهوا حيث قال لهم ، فاستقبلتهم مريم ، فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها ، فجاءوا حتى قاموا عليها ، { قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا } أمرًا عظيمًا .
روي أن مريم عليها السلام لما اطمأنت بما رأت من الآيات وعلمت ان الله سيبين عذرها أتت به تحمله من المكان القصي الذي انتبذت فيه ، وروي أن قومها خرجوا في طلبها فلقوها وهي مقبلة به . و «الفري » العظيم الشنيع ، قال مجاهد والسدي ، وأكثر استعماله في السوء وهو من الفرية ، فإن جاء الفري بمعنى المتقن فمأخوذ من فريت الأديم للإصلاح وليس بالبين ، وأما قولهم في المثل جاء يفري الفري بمعناه بعمل عظيم من العمل في قول أو فعل مما قصد ضرب المثل له وهو مستعمل فيما يختلف ويفعل ، و «الفري » من الأسقية الجديد ، وقرأ أبو حيوة «شيئاً فرْياً » بسكون الراء .
دلت الفاء على أنّ مريم جاءت أهلها عقب انتهاء الكلام الذي كلّمها ابنها . وفي إنجيل لوقا : أنها بقيتْ في بيت لحم إلى انتهاء واحد وأربعين يوماً ، وهي أيام التطهير من دم النّفاس ، فعلى هذا يكون التّعقيب المستفاد من الفاء تعقيباً عرفياً مثل : تزوّج فوُلد له .
و { قَوْمَهَا } : أهل محلتها . وجملة { تَحْمِلُهُ } حال من تاء { أتت . } وهذه الحال للدلالة على أنها أتت معلنة به غير ساترة لأنها قد علمت أن الله سيبرئها ممّا يُتهم به مِثل من جاء في حالتها .
وجملة { قالُوا يامَرْيَم } مستأنفة استئنافاً بيانياً . وقال قومها هذه المقالة توبيخاً لها .
وفَرِيّ : فعيل من فَرَى من ذوات الياء . ولهذا اللفظ عدّة إطلاقات ، وأظهر محامله هنا أنه الشنيع في السوء ، قاله مجاهد والسدّي ، وهو جاءٍ من مادة افتَرى إذا كذب لأن المرأة تنسب ولدها الذي حملت به من زنى إلى زوجها كذباً . ومنه قوله تعالى : { ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } [ الممتحنة : 12 ] .
ومن أهل اللغة مَن قال : إن الفريّ والفرية مشتقان من الإفراء بالهمز ، وهو قطع الجلد لإفساده أو لتحريقه ، تفرقة بين أفرى وفَرى ، وأن فرى المجرد للإصلاح .